كاتبة من المستقبل: من كانت إيزومي سوزوكي المتمردة على أعراف الخيال العلمي؟
آندرو ريدكر
ترجمة: لولو البريدي
يحدثنا آندرو ريدكر عن الحياة القصيرة والمبهرة لفنانة متميزة بحق.
إليكم ما نعرفه عنها:
وُلدت في اليابان في عام 1949. انتقلت إلى طوكيو بعد تخرجها من الجامعة حيث عملت مضيفة في حانة. ظهرت في بضعة «أفلام وردية» -نوع فرعي دخيل على الفن من أنواع السينما المستغلة للجنس- أخرجها من بين عدة مخرجين كوجي واكاماتسو. عملت عارضة لمصور الفن الإيروتيكي نوبويوشي أراكي قبل أن تكرس نفسها للكتابة بدوام كامل. تزوجت عازف الجاز الحر كاورو آبي في عام 1973، أنجبت منه بنتًا، توفي آبي من جرعة مخدرات زائدة في عام 1978 بعد سنة من طلاقهما. أنتجت بغزارة في السنوات التي تلت وفاته، إذ كتبت قصصًا قصيرة، روايات، مقالات. انتحرت في عام 1986 وبعمر السادسة والثلاثين.
هذا في المجمل هو مجموع المعلومات المتاحة بيسر للقراء باللغة الإنجليزية حول سيرة إيزومي سوزوكي الذاتية، الكاتبة الرائدة في مجال الخيال العلمي، وتتوفر على موقع Verso أول مجموعة قصصية لها تصدر باللغة الإنجليزية بعنوان «ملل شديد Terminal Boredom». لعله ليس من المفاجئ وجود معلومات أكثر بكثير متاحة باللغة الإنجليزية عن الفنانين الذكور الذين عاشت وعملت معهم، فغالبًا ما تُذكر حياتها في معرض الحديث عن حيواتهم، هذا إن ذُكرت أصلًا. نشر «ملل شديد» سيمكِّن القراء باللغة الإنجليزية من التعرف على إيزومي سوزوكي من خلال كتاباتها مباشرة. إذًا من كانت على أي حال؟ وماذا بشأن الأعمال التي خلَّفتها؟
تنوِّه الباحثة ماري كوتاني في مقالة من المقالات الأكاديمية الإنجليزية القليلة التي ذكرت سوزوكي إلى أنها لم تعد نفسها كاتبة خيال علمي دائمًا، بل صدف أن قَبِلَت «مجلة خيال علمي» قصتها الناجحة «متدربة الساحرة» مما دفعها لمواصلة الكتابة لهم. سبب انتقالها في ذلك الوقت إلى الكتابة في هذا النوع (في الأقل جزئيًّا) هو الصدفة والحاجة، فإن كانت «مجلة خيال علمي» ستدفع لها مقابل أعمالها، فستعمل لِـ«مجلة خيال علمي». بشَّر كونها حاملًا في الوقت الذي باعت فيه القصة بمسيرة مهنية يتحد فيها النوع والجنوسة (أدوار النوعين في المجتمع) معًا. طبقًا لكلام أحد مترجمي أعمالها، وهو دانييل جوزيف، فإنَّ الخيال العلمي «حرَّر كتاباتها، ووفَّر لها ملعبًا يخوِّلها لتحليل المجتمع الياباني الذكوري وعلاقتها به» وكان «عالَمُ الخيال العلمي الياباني، مثل المؤسسة الأدبية عمومًا، ناديًا للصِّبية حَرفيًّا» في ذلك الوقت، ويذكر طرفة مفادها أن سوزوكي «سألت شبه مازحة عميد الخيال العلمي تاكو مايامورا إن كان يُسمَح لها بالانضمام لنادي كتَّاب الخيال العلمي» الذي يشتمل على ثلاثين عضوًا كلهم رجال. بماذا أجابها مايامورا؟
ضَحِك من سؤالها.
لكن سياسات سوزوكي الجندرية معقدة، بل حتى مترددة، وعصيَّة عل التأويلات الواضحة، ويتجلى ذلك في أول وربما أفضل قصة في «ملل شديد» بعنوان «نساء ونساء» التي تدور أحداثها في عالم مأهول بالنساء على نحو شبه كامل، حيث يوضع من بقي من الرجال في منطقة الشَّغْل النهائية للمستبعَدين جندريًّا (أو GETO في ترجمة جوزيف البارعة). في هذه القصة التي تتجلى فيها اليوتوبيا، استُبدلت المواد القابلة للتجدد بالمواد الملوثة، وتذهب الطفلات الصغيرات، مثل ساردة القصة يوكو، في رحلات ميدانية لمشاهدة مسرحيات عن صافو. لكن يوجد خطبٌ ما، فالثقافة الشعبية تحرِّم التطرق للرجال، واحتجزت الدولة أم يوكو، وما تزال أدوار النوعين قائمة بيد أنها أشد ضررًا مما سبق: حين يتعلق الأمر بالزوجين، فإن المرأة الأكثر «رجولية» تذهب إلى العمل، أمَّا المرأة الأكثر «أنثوية» فتدبِّر شؤون المنزل. تتساءل يوكو في لحظةٍ معينة ما إذا كان العالم «يتراجع خطوة للوراء» بغض النظر عن التقدم الواضح.
تعتمد القصة على لقاء بين يوكو وفتى اسمه هيرو يعيش متواريًا عن الأنظار. بعدما أفضيا بمكنون قلبيهما لبعضهما وتشاركا وجبة، أمسك هيرو بيوكو. «ثبَّتني على الأرض كأننا نتصارع، ظننتُه يعبث فحسب في البداية، لكنه لم يكن يعبث، ولا حتى قليلًا، لم يكن هيرو يعبث إطلاقًا». ثم «أمضيتُ بقية ذلك اليوم في اكتشاف حقيقة الحياة البشرية المفزعة وغير المتوقعة، في اكتشافها بجسدي».
ليس تصوير سوزوكي المتردد لمجتمعها الأمومي غريبًا في حد ذاته، فقد ذكرت كوتاني فيما كتبته أنه بخلاف الخيال العلمي الأمريكي فإن «الخيال العلمي الذي تكتبه النساء اليابانيات لا تحكمه أجندة سياسية صارمة، بل في الواقع إنه لمن الصعب أو المستحيل العثور على خيال علمي ياباني يروِّج للنسوية». الجذاب في كتابات سوزوكي هو أن ترددها يشمل كل الاتجاهات، فقد يكون مجتمعها الأمومي مستبدًّا، لكن بالكاد يُسمح للرجال بالإفلات بفعلتهم، فهم أشخاصٌ «صعبو المراس جدًّا» وكائنات «من أيسر ما يكون» بل وحتى «خَطِرة»، وتصرف هيرو يؤكد على ذلك، ومع هذا تظل يوكو غير متيقنة، إذ تنتهي القصة وهي تفكر بِـ«هيرو المسكين» بغض النظر عن الفعل «المفزع» الذي فعلاه. ربما ستنضم لحركة مقاومة سرية، أو ربما لن تنضم، فهي لم تحسم أمرها بعد.
تسخر سوزوكي من أدوار النوعين في «نزهة ليلية» بترجمة سام بيت، وهي قصة تحاول فيها عائلة فضائية التظاهر بأنهم بشر من خلال دراسة تفتتهم الثقافي: كتاب عن علم النفس، نسخة من رواية ذهب مع الريح. قال فضائي بعد تحوله من ذكر لأنثى: «قرأتُ المجلات النسائية، حتى إني أعرف أكثر من أمي عن الفطور المتأخر في يوم الأحد، إذ يُفترض بالفتيات فيه أكل الزبادي والفاكهة، أوه، وكعك الجبن أيضًا». تتكرر في «ملل شديد» الرغبات المتخيَّلة في تبديل هوية نوعيّة بهوية نوعيّة أخرى أو التخلص من النوع بأكمله. تصرِّح شخصية قائلة في «بوسعك أن تحلم» بترجمة ديفيد بويد: «أنا لستُ برَجل أو امرأة، أنا أريد أن أخرج من هذا المكان فحسب».
الهروب ثيمة أخرى متكررة؛ في قصة «ذلك النادي الساحلي القديم» بترجمة هيلين أوهوران، تشبه شبهًا شديدًا حلقة مسلسل Black Mirror بعنوان «سان جونيبيرو»، تجد امرأة نفسها في كوكب يشبه منتجعًا بجوار شاطئ. إنه موقعٌ ساحر، ذو جو مثالي، يعيش فيه السكان حيوات «رغد مطلق». تقع المرأة بحب شاب وسيم نصف بشري ونصف فضائي يُدعى ناوشي في أثناء مكوثها هناك، لكن حين تُجبِر سلسلةٌ من الحوادث المرأةَ على مغادرة الكوكب؛ تصحو لتكتشف بأن الكوكب المنتجع ليس إلا محاكاة حاسوب، برنامج علاجي نوعًا ما لمدمني المخدرات ومدمني الشراب، أمَّا في الواقع فهي ما تزال «زوجة محزونة»، «عجولة ومنزعجة، لكنها أضعف وأشد خمولًا من أن تحسِّن من وضعها»، زوجها ناوشي «قبيح ورث الهيئة، عفريتٌ مقارنة بما كان عليه قبلًا». حين يكون الهروب في قصص سوزوكي ممكنًا، فإن الخيبة تعقبه حتمًا.
تخطت الشخصيات الأخرى مرحلة الشعور بالخيبة فقط، فبطلة «بوسعك أن تحلم» تَصِف نفسها بأنها «لا تعتقد بمعتقدات ثابتة، ولا تعاني من عقد نفسية، بل من نقص في الثقة بالنفس يصاحبه استسلامٌ متشائم» وتكرر ساردة قصة «ملل شديد» بترجمة جوزيف أيضًا، هذه الانطباعات قائلة: «متى ما حدث أمرٌ خطر؛ أقنع نفسي أن ذلك ليس بالخطب الجلل… لا شيء يؤثر علي» وانتهى بها المطاف بقتل شخص لتشعر بشعور ما فقط.
التردد، الخيبة، الاستسلام: تعبِّر قصص سوزوكي ببلاغة عن لحظات إنهاكنا حتى إنه ليسهل عليها إغفال أهمية سياقها الثقافي. (قُوبلت بمارج بيرسي وأليس شيلدون، المعروفة باسم جيمس تيبتري جونيور، غير أن قراءتنا لها تذكرنا أكثر بقراءتنا لآتوسا مشفق، إن كانت آتوسا مشفق تكتب عن مواعدة الفضائيين).
وُلدت سوزوكي في ذات العام الذي وُلد فيه هاروكي موراكامي، وتحتوي أعمالها على بعض من السمات الثقافية الشعبية (نوادي الجاز، أسطوانات روك آند رول الموسيقية) التي يتكرر ظهورها في أعماله الخيالية، لكن سوزوكي تقدِّم على نحو أكيد منظورًا أشد واقعية عن الستينيات، حتى حين تجري أحداث القصص في أزمنة وكواكب أخرى. تتمحور «يدخل الدخان في عينيك» بترجمة آيكو ماسابوتشي و«منسي» بترجمة بولي بارتون و«ملل شديد» حول مدمنات مخدرات احترقن بشدة بالنيران القديمة. في رأي سوزوكي، أينما وُجد الجنس؛ وُجد الاستغلال، أينما وُجدت المخدرات؛ وُجد الإدمان. تظل موسيقى الروك آند رول وحدها سليمة.
*
بوسع القارئ المتفاني الذي لا يخشى خرق حقوق النشر أن يجد في زاوية بعيدة من زوايا الإنترنت ملف MKV لِـ”Endless Waltz” (1995) فيلمٌ أنيق ومؤثر بترجمة إنجليزية عن قصة عشق سوزوكي وكاورو آبي. يقدِّم “Endless Waltz” لمحة نادرة عن حياتها الخاصة- أو على نحو أدق، حياتها وفقًا لتصور واكاماتسو ومايومي إينابا كاتبة الرواية المقتبس منها الفيلم (في عام 1992، قاضت ابنة آبي وسوزوكي، التي كانت حينها في السادسة عشر من عمرها، إينابا بتهمة انتهاك الخصوصية).
صوَّر واكاماتسو آبي (أدى دوره مغني البانك، الذي أصبح مؤلفًا، كو ماتشيدا) الفنان بكونه شابًا مهووسًا بنفسه. آبي موهوب، عنيد، يتلاعب بالناس، يقلل من شأن سوزوكي ثم يتوسل لها لتسامحه، ثم يرمي إحدى مخطوطاتها، ثم يحدثها بغضب قائلًا: «أنتِ تكتبين لمجلات متدنية الجودة، تحسبين نفسكِ مؤلفة!» لكن سوزوكي (ليونا هيروتا) لا تقيم وزنًا لكلامه، وتخبره أن على أحد أن يجني المال ليتسنى له «عزف الساكسفون في الأندية متدنية الجودة» يصطدم هنا النوع بأدواره المجتمعية مجددًا، فعمله فنٌّ، أمَّا عملها فهو لدفع الفواتير، وتقول له: «إنْ كان سيشتري مخطوطتي، إذًا ليحيا المجتمع الاستهلاكي!» ليضربها، فتضربه.
اعتمادًا على المكان الذي يحدث فيه مشهد معيَّن – ينطلق الفيلم بسرعة ويُسْر ذهابًا وإيابًا عبر الزمن- تُصَوَّر سوزوكي بأنها إمَّا فنانة متفانية، إمَّا مدمنة مخدرات بوهيمية، إمَّا حبيبة مهووسة، إمَّا أم مخلصة، إمَّا زوجة محزونة، فهي ضحية للعنف الجسدي واللفظي ومقترفة له في ذات الآن. باختصار، هي شخصية معقدة بشدة، أكثر تعقيدًا من آبي الذي يمتثل بسهولة لنموذج العبقري المعذَّب.
في أواخر الفيلم لحظةٌ كاشفةٌ يصادف فيها آبي، الذي أضحى الآن طليق سوزوكي، إحدى كتبها في محل، يحمِّله ذلك على التفكر في أيام زواجهما، في ما بعد ظهيرة أحد الأيام تحديدًا، حين رأى من غرفة النوم سوزوكي وهي تكتب (في الفيلم لقطاتٌ عديدة لآبي وهو يعزف على الساكسفون؛ هذه لمحة نادرة لسوزوكي أثناء عملها) مرتديةً النظارات، منحنية فوق مذكراتها، تتدلى السيجارة من شفتيها، غير مدركة لكونها مشاهَدة إطلاقًا. يوحي الحزن بعيني آبي بأنه بدأ يدرك، ربما للمرة الأولى، وجود جزء منها -أي مخيلتها- لن يتسنى له معرفته أبدًا، ذلك الجزء منها تحديدًا هو الذي يبقى على قيد الحياة.