كل الأسماء، ولا اسم
ابتسام المقرن
”في المحفوظات العامة لا يمكن رؤية كيف تغيرت الوجوه أو كيف هي آخذة في التغير، في حين أن هذا هو بالضبط أكثر أمرٍ أهمية، ما يبدله الزمن، وليس الاسم الذي لا يتبدل مطلقًا”.
إنَّ القراءة لساراماغو دائما ما تستدعي تركيزًا شديدا ومضاعفًا عند القراءة، وما رواية كل أسماء بمنأى عن أخواتها، فهي رواية بلا أسماء، وبلا أماكن معينة ومعروفة، كما أنها رواية صالحة لأي مكان وزمان، كأنها تعنى بالإنسان فقط وما يفكر فيه، وما يتأمله، وما يشعر به من تناقضات شخصية، أو ما يمكن أن يعانيه من فساد بعض المنظمات؛ أيا كان نوع هذا الفساد. وهذا ما يشعر به قارئ رواية “العمى” أو “كل الأسماء” التي نحن بصدد الحديث عنها. في “كل الأسماء” تماما كما “العمى” سرد متعدد الأصوات، بلا فواصل بين الحوارات التي تبدو متداخلة، وسخرية ونقد للذات والأحداث حولها، وإتقان تفاصيل الشخصيات. لكن الفرق أن رواية “كل الأسماء” احتوت اسمًا واحدًا فقط، ألا وهو اسم الشخصية الرئيسة في النص “دون جوزيه”. وهذه إحدى مفارقات الرواية، التي تحمل عنوان “كل الأسماء”، ولكنها في الحقيقة بلا أسماء. تُستهلُّ الرواية بمدخلها المقتبس من كتاب التجليات لينبؤنا السبب “أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، ولكنك لا تعرف الاسم الذي هو لك“. ربما تُفسِّر لنا هذه المقولة ذلك القول الذي نردده دائما، وقد لا يتطابق مع البعض: “لكل امرئ من اسمه نصيب!” فقد تكون هذه الأسماء مطلقة عليهم، لكنها ليست لهم. تبدأ الرواية من داخل مبنى “المحفوظات العامة للسجل المدني”، المبنى الذي يحتفظ بكل الأسماء، للأحياء والأموات على حد سواء. يصف لنا دون جوزيه هذا المبنى برتابته، والبيروقراطية الحكومية المعهودة. يلعب دون جوزيه دور الشخصية الرئيسة في العمل، وهو موظف مغمور يؤدي عملاً روتينياً لا يتغيّر. لا نعرف عنه سوى المقطع الأول من اسمه “جوزيه” فالراوي يخبرنا عن كنيتين له في سجل الولادات الموجود في المحفوظات العامة إحداهما كنية أبيه، والثانية كنية أمه لكننا لا نعرفهما والسبب كما يقول: “عندما يُسأل دون جوزيه عن اسمه، أو عندما تتطلب الظروف أن يقدم نفسه، أنا فلان الفلاني، فلن يفيده في شيء النطق بالاسم كاملاً، لأن محادثيه لن يحتفظوا في ذاكرتهم إلاّ بالكلمة الأولى، جوزيه، والتي يضيفون إليها أو لا يضيفون بعد ذلك كلمة (دون)”.
“ليس هناك ما يرهق الإنسان أكثر من اضطراره إلى النضال، ليس ضد روحه بالذات، وإنما ضد تجريد ما”.
رجلٌ في الخمسين من عمره ولا نعرف شيئا عن ماضيه، سواء طفولته، أو مراهقته. وحيد، لا عائلة له، ولا أهل، ولا أصدقاء، وبلا حب أو حتى قصة حب غابرة، وكأنه حين أطلعنا على اسمه أطلعنا على حياته بخلاف تلك المرأة التي ظهرت بطاقتها فجأة في حياة جوزيه. سكن جوزيه في غرفة ملاصقة لمبنى المحفوظات العامة، يفصله عنها باب يستخدمه في مغامراته الليلية للتسلل إلى المبنى ليحضر بطاقات المشاهير، وينسخها في سجل خاص به، فقد جمع ما يقارب 100 اسم من المشاهير وبعض المعلومات عنهم، ويتنبأ بأحداث حياتهم المستقبلية. وكأن هذه الهواية الغريبة هي تسليته الوحيدة التي تقطع عليه بعض الرتابة التي يعيشها. في أحد الأيام رغب جوزيه بسحب خمس بطاقات للمشاهير، واتضح أنه سحب ست بطاقات عن طريق الخطأ، كانت البطاقة السادسة لامرأة مجهولة، يحار جوزيه في أمره. هل يعيد هذه البطاقة، أو تراه يبحث عنها. قرر البحث عن هذه المرأة المجهولة فتغيرت حياته كلية، وبهذا البحث المتأخر عما يشغل حياته قد قرر أخيرا البحث عن ذاته. بدأت مع هذا السعي تأملاتُه في الحياة من حوله والموت والتحولات التي تطرأ على الإنسان، وبسبب هذه المرأة المجهولة التي يبحث عنها دون أن تعلم هي بوجوده. بانت على جوزيه تبعات هذا البحث، حتى بدأ الجميع يلاحظون شروده، وعدم انضباطه، ومرضه المتأتي عن مغامراته الليلية التي أوصلته إلى المدرسة حيث درست هذه المرأة حين كانت طفلة.
“الصور القديمة تخدعنا كثيرا، توهمنا بأننا أحياء فيها“
تتساءل وأنت تقرأ هذه الرواية: أتراه أحبَّ هذه المرأة؟ إنَّ دون جوزيه نفسه لا يعلم لماذا يبحث عنها، فكان يحدث نفسه: “ربما لن أكلمها عندما أجدها أمامي، إذا كانت هذه هي الحال، فلماذا تبحث عنها، لماذا تتحرى عن تفاصيل حياتها، إنني أجمع أوراقاً عن المطران أيضاً ولست مهتماً بالتحدث إليه يوماً، يبدو لي الأمر ضرباً من العبثية، إنها عبثية”. وبعد أن أوشك على الاقتراب من هذه المرأة، ورؤيته لها تنزل من إحدى الحافلات -أو إيهامنا بذلك- تموت المرأة منتحرة. مما يدفع جوزيه لمزيد من البحث عنها، وكأنها اكتسبت أهمية أكبر بعد وفاتها أو أنه أراد منحها بعض الاهتمام الذي لا يجده العامة من الناس، على خلاف المشاهير الذين كان يجمع معلوماتهم وينسخها في سجله الخاص. إنَّ المشاهيرَ لا سرَّ في حياتهم، ولكن العامة، حياتهم غنية ومملوءة بالأسرار المجهولة حتى عن أقرب المقربين لها: زملاء العمل، الأم والأب، عرّابتها، لا أحد يعرف سرها. فانتهى المطاف بجوزيه دون الحصول على أي شيء سوى المزيد من الألغاز أضاف إليها مدير المحفوظات العامة المزيد من الغموض، حين اكتشف ما يقوم به جوزيه، وطلب منه إعادتها إلى الحياة، وإتلاف شهادة الوفاة، وإبقاء بطاقتها في قسم الأحياء، وكأنه بذلك يخلدها! ويقف القارئ في لَبسٍ بمحاولة فَهم مغزى هذا البحث الذي لم يصل إلى لحظة تنوير، بل انتهى بتزوير. هذا التزوير الذي حدثنا به جوزيه منذ الصفحة الثانية في الرواية حين قال: “هذا يعني أنه لا مناص للكتبة من أن يعملوا دون راحة منذ الصباح حتى الليل، في حين يعمل المأمورون بين وقت وآخر، ونائبا المدير في أوقات متباعدة جدا، أما المدير فلا يكاد يعمل على الإطلاق. الحركة الدؤوبة المتواصلة للثمانية الذين في المقدمة، الذين ما إن يجلسوا حتى ينهضوا، ويبقوا دائمي الركض من الطاولة إلى منضدة الكونتوار إلى خزائن البطاقات، ومن خزائن البطاقات إلى الأرشيف، مكررين دون راحة هذه المشاهد والتوليفات وغيرها أمام لا مبالاة رؤسائهم، سواء الرؤساء المباشرون أو البعيدون، هي عامل لا بد منه لفهم كيف كان ممكنا وسهلا بصورة مؤسفة اقتراف التجاوزات والمخالفات، وممارسات التزوير التي تشكل المادة المركزية لهذه القصة”.
“الضمائر تصمت أكثر مما هو مطلوب منها، ولهذا ابتدعت القوانين“.
ولو تأملنا غلاف الرواية لوجدنا أنه يوحي بالفكرة التي يحدثنا عنها جوزيه، والعنوانِ “كل الأسماء”، واللوحةِ التي تحوي وجوها متنوعة ومختلفة، وكأنه يقول صورتك هي هويتك المعبرة عن ذاتك، وليس اسمك.