العنكبوت – مصطفى محمود
أسماء سعد عبد الحميد
أكثر ما يُرهق الإنسان في تلك الحياة هو التفكير، فكلما نمى عقلك، زادت حيرتك تجاه تلك الأشياء التي تراها في الحياة، ويسميها البعض أسرار الحياة، تبحث وتصارع لتكشف سرها، لكن رحيلك يسبق وصولك. ربما كنت جنديًا من جنود رب العزة حين قال “وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ”. فكان كل ما أنت فيه من حالة تخبط وشك هي بداية الهداية، هدايتك أولًا ثم غيرك من المتخبطين. يرى البعض أنَّ دكتور مصطفى محمود هو خير مثال لذلك، عاش من العمر ما شاء الله، سنواته الأولى خاضها في الشك والبحث عن الحياة وخالقها، وبعد أن أهلكته مشقة البحث، تيقن الحقيقة السرمدية بوحدانية الله، أحدث له شكه في وجود الله حالة من البلبلة، لكن لأننا في زمنٍ التبس فيه الحق بالباطل، وارتفع صوت العقل لِحَاحةً وغرورًا، وراجت بضاعة الإلحاد، لأن من يموت لا يعود للحياة مجددًا؛ وَجب عليه كتابة ما توصل إليه خلال رحلته من أدلة تؤكد حقيقة الحياة، فجاء رصيده آلاف الحلقات من برنامجه الشهير”العلم والإيمان”، وعشرات الكتب والروايات، وكانت منها تلك الرواية” العنكبوت “.
جاء اسمها “العنكبوت” تجسيدًا حيًّا لحالة النشاط التي عليها العنكبوت من نسج خيوطه. صُنفت تلك الرواية بأنها “فانتازيا”، ربما كان ذلك التفسير غير دقيق في نظر بعضنا، لأنها حقيقية أكثر من الحقيقة ذاتها، تجد نفسك فيها تبحث عن أصل ذلك السر، سر الحياة والموت، وكم حياةً نحياها نحن، هل حق لنا من قبل أن نحيا في كل عصر ونموت؟ ثم نعود للميلاد من جديد مُتناسين ما مر علينا من قبل، أو ربما أبصرناه دون أن ندري حين كنا أجنة في عالم الغيب، عن أي غيب نتساءل؟ غيب المستقبل أم الماضي، أم سر تلك الروح، لكن حُسم البحث في ذلك الاتجاه حين قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”. ذلك المقدار القليل من علم الله- عز وجل- هو ما لدينا من العلم، كما أن هذا القليل متفاوت من شخص لآخر، يحيا بعضنا حياته كلها دون أن يُفكر في اكتشاف أسرار ذلك الكون، والقليل من يسعى لمعرفة ذلك السر، يبحث ويلهث طوال حياته ليفنى في البحث، والنتيجة واحدة “وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”,
يقولون: العِالِمُ مجنون، مدفوع دائمًا لإثبات صحة فروضة ليجعل منها فيما بعد نظرية، أو ربما يسعى لشهرة أو مجد، فأي شيء كان يسعى إليه مهندس الكهرباء بمعهد أبحاث الراديوم بالقصر العين “راغب دميان”. اتضح أثر السعي على وجهه، فبدا نحيلًا شاحب الوجه، زائغ العين، شخص الأطباء حالته بأنه مريض ورم في المخ، لكن الحقيقة لم تكن ذلك، انكشفت الحقيقة أمام الراوي، بطل الرواية، الدكتور “م. داوود”، ذلك الرجل الذي بدأ يخطو نحو الستين من عمره، حصل خلالهم على الدكتوراة في المخ والأعصاب من جامعة برلين.
في يوم أحد غائم رطب، شتاء 1958م، زاره في عيادته المريض راغب دميان، بدأ حينها م. داوود في تشخيص حالته والنظر فيما بين يديه من تحاليل وأشعة تُثبت أنه ليس لديه ورم، لكن هناك نوع من النشاط الغريب بداخل ذلك المخ.
– فماذا يعني هذا النشاط العجيب؟!
بدأ يتجسد له حين دخل راغب دميان في نوبة تشبه نوبات الصرع، تحدث خلالها باللغة الإسبانية التي يجهلها، يُبكي موت صديقه المصارع “سباستيان كاميللو” وبعدما عاد من غيبوبته تلك، لم يتذكر ما حدث خلالها، في ذلك اليوم المشئوم كما ذكره م. داوود. لم تكن الأصوات هذيانًا، ولم تكن الأسماء اختلاق عقل مجنون، وإنما هي أسماء ناس عاشوا بالفعل.
تسير وتيرة العمل على الأسلوب العلمي في حل المشكلات حين تجلت ظاهرة راغب دميان أمام م. داوود، فتساءل حينما تأكد له أن ذلك الشخص الذي كان ينطق باسمه دميان كان يعيش أيام الحروب الأهلية في أسبانيا:
– هل ممكن أن تعيش الأصوات في الجو هذه السنوات حتى تجد وسيطًا لتعود لتبحث من جديد على لسانه، أو أنها صرخة الإرادة المُتشبثة بالحياة هي التي أعطت لهذا الماضي العدم رخصة الحياة من جديد.
شغله ما كان من أمره لراغب عدة أيام، انتظر خلالها قدومه إليه، فلم يأتِ. دفعه جنون العلماء للتوجه نحو بيت راغب بفضل عنوانه المذكور لديه في الكشف، ومنذ ذلك الحين ودخل هو الآخر في غيبوبة أخرى، أبصر فيها سر من أسرار الحياة. “قاتل، سارق… قل ما شئت فالأهم الوصول إلى ما أسعى إليه”، ربما كان ذلك شعار دميان مبرر حالات القتل حتى وإن كانت روح زوجته ثمن تلك التجارب، سرق الراديوم الذي دل على مكان تخفيه من خلال جهاز كشف الراديوم الخاص بالدكتور م. داوود، بعدما أهلكته مشقة البحث وكف عن تتبع دميان، ولأن إرادة الله نافذة، فعثر عليه مصادفةً، ظن أنه سيصل لذلك السر. لكن تأكد له مرة أخرى بأنه لا مفر من أقدارنا، فرحل دميان دون أن يدلو بالسر، ذلك الذي جعله يبحث في سر النشاط والحيوية والنمو والتجديد، ليختار خاماته الحسية التي يعتمد عليها في تحضير الإكسير من الأعضاء التي تتصف بهذه الصفة، صفة التجدد؛ لاستخلاص المادة الباعثة للحياة.
ربما ما قاله وهو في حالة هذيان للدكتور بأنه:
– بهلول… بهلول، تصور أصلك كُنت بهلول الخليفة.
ورحل دميان بسره، فغلب الفضولُ العلمي لـ م. داوود خوفَه، وبفطرة لا تُقاوم، مثل فطرة آدم التي شدته التفاحة، وجد نفسه مشدودًا لمصيره. تعجل للكشف عنه، لكن ماذا عن القدر الذي يحول بيننا وبين المعرفة، فرحل دميان بسره، وجرب الدكتور. رأى حياته القديمة، فنحن لا نفنى بل نتجدد، نموت ثم نحيا، وهكذا الحياة.
وحدث نفسه قائلًا: إنَّ وجه الدنيا ليتغير كثيرًا. إذا قُدر لنا أن يتسع نطاق رؤيتنا إلى هذا المدى، فنرى الماضي كما نرى الحاضر، ونسمع الأحداث التي ولت كما نسمع الأحداث التي تجري حولنا.
إننا نصبح كالملائكة، كالأنبياء.
ولكن كيف يمكن ذلك؟
كيف يمكن أن أضع يدي على السر؟
كيف أصل إلى ما كشفه ذلك الرجل؟
لا بد من خطة.
وكانت الخطة حينما حاول تحضير ذلك الإكسير الذي ربما يساعده في الوصول إلى ما وصل إليه دميان. بدأ يُشرح ويختبر تلك المواد الموجودة بمعمل دميان القائم على طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي، ربما أبصر ما لم يبصر به إلا القلة: رأى حياته الأولى التي انتهت بضرب عنقه. رأى نفسه فيما بعد ثور يُذبح، يصف حالته حينها قائلًا: إنَّ ما أحسست به ذات يوم حول عنقي حين ذبحوني كان ألمًا بليدًا لم يدم إلا زمنا قصيرا ثم انتهى كل شيء. أبصر بنفسه شجرة في غابة لا يُسمع بها سوى صوت الريح.
فاستخلص في الأخير أننا سجناء دقائق مُفلسة، يمكن أن نعيشها سنين خصبة غنية إذا عرفنا كيف نخرج من أسرها، لنُخلق في أجواء هذا العالم الأخر إلى الأبد. رحل م. داوود، ولم يترك سوى تلك المُذكرات التي تعجل الدقائق حتى يكتبها، وبعدها جرب تجربة أخيرة لم يعُد منها بعدما حُرق المعمل. فماتت معه حقيقة ما وصل إليه و لم يتبقَ سوى تلك المذكرات، ولكن الأمر كله يبدو غير معقول. هل يمكن أن نتصور أنك تعيش حياة أبدية؟ جاءت الإجابة منطقية على لسان وكيل النيابة المُحقق في قضية المس الكهربائي الذي شب في معمل دميان، والذي عثر على مذكرات م. داوود حين قال بصوت خافت: ولكن من يدري. هل نعرف نحن كل شيء في هذه الدنيا؟ إن كل ما نعيشه هو بضع سنوات في زمنٍ لا أول له ولا آخر. ماذا نكون نحن في عمر الدنيا حتى ندعي الإحاطة بكل شيء. هذه دنيا كلها طلاسم.
جاء أسلوب السرد فلسفي تساؤلي كما هو المعروف في كتابات دكتور مصطفى محمود (رحمة الله عليه)، فكان سلس ينطلق بك تدريجيًا إلى إجابة منطقية، تُحدث أفكاره بداخل القارئ فجوة عميقة سرعان ما تمتلئ بالإيمان.