يوم قرأ جورج أورويل رواية نحن لزمياتين

جوش جونز


حجم الخط-+=

ترجمة: نيازي الهادي 

لروايَتَي 1984 لجورج أورويل وعالم جديد شجاع لألدوس هكسلي صيت طبّق الآفاق، وفينا من قرأهما، وقد بلغت شهرتهما والاقتباس عنهما العام الماضي مبلغًا يدعو للقلق. كانت الروايتان نقطتي تحول في الأعمال الدستوبية، وبين نشرهما ما دون عقدين من الزمان بقليل، نشرت الأولى سنة 1949 والثانية قبلها سنة 1932، بيد أنه جاءت قبلهما رواية حقيقة بالشهرة وتلامس واقعنا أكثر -كما قال مايكل برندن دوتري- وهي رواية نحن ليفجيني زَمياتين التي نشرت سنة 1923. تتناول الرواية ما حدث ألف عام بعد الثورة التي انفرد بها النجم المُفرَد بالحكم، وواضح أن أورويل استفاد من عمل زمياتين حين كتب 1984، ويدين له بذلك، إذ صدّر، قبل نشره روايته بثلاث سنين، مقالًا قصيرًا كتبه عن رواية نحن قائلًا: “حصلت أخيرًا على نسخة من الرواية التي كنت أسمع بها منذ زمن!” وقال بأنها من أعاجيب آداب زمانه الذي كانت تحرق فيه الكتب. ويقول مقارنًا: “إنها تشبه عالم جديد شجاع، إلا أنها أمتن حبكة منها فيمكن اختصارها، ولكن حبكة نحن تلامس واقعنا أكثر”.
مما جعل أورويل يزعم أن كتاب زمياتين غير متين كونه أبقى على غرائز الفطرة البشرية في سرد حبكته عن شخصيات روايته، إذ المعتاد أن الدولة الشمولية في الروايات الدستوبية عادة ما “تحسّن” النسل بالأدوية وغيرها [وتثبّط غرائز سكانها]، قال أورويل هذا مع أن الدولة في نحن تعاقب سكانها بفصل مقدَّم أدمغتهم إذا ثاروا [فتنزع بذلك قدرتهم على التخيل والطموح]. يضيف قائلًا إنّ زمياتين لم يعرّض بالاتحاد السوفيتي في روايته، إذ إن صدور كتابه سبق الحقبة الستالينية التي ألهمت أورويل لكتابة روايته، وإن زمياتين لم يقصد بلدًا بذاته بل قصد ما تتجه له البشرية مع الثورة الصناعية.
زعم نعوم تشومسكي في مقابلة له زعمًا كهذا؛ من كون رواية نحن تفضل الروايتين اللّتين صدرنا بهما المقال، واصفًا 1984 بالجمود وانعدام الدهشة، مضيفًا أن زمياتين كان أحدّ نظرًا من أورويل وهكسلي في روايته وعالمها المستبد [الذي يشبه عالمنا]، وهو دالٌّ على علمه بالنظام الشمولي، فأبرز دولة فيها نظام مراقبة صارم، لم توجد [في الواقع] إلا لاحقًا في زمن أورويل. وقال إن الرواية تذكرنا بكثير من الروايات والأفلام الدستوبية التي ألّفت خلال المئة سنة التي تبعت تأليف الرواية.
يختصر دوتري قصة نحن فيقول: المواطنون في الرواية أرقام، و د-503 هو بطلها؛ مهندس يعمل في سفينة فضائية هدفها تصدير مبادئ الثورة العظيمة إلى الفضاء. “المُحْسِن” هو حاكم الأرض التي يديرها “بالحرس” الذين يتجسسون على المواطنين المقيمين في بيوت من زجاج ليسهل مراقبتهم، والثقة في النظام آكد المؤكدات. المساواة مفروضة، لدرجة تشويه كل جميل، فالجمال ورديفه الفن محظوران في “الدولة المفردة”، هذا لأنك إن تكن أصيلًا [أو فريدًا] فأنت بهذا تخرق مبدأ المساواة بتمييزك نفسك عن الآخرين.

لا غرو أن زمياتين [وهو يكتب روايته] استحضر الدستوبيات القديمة، ومدينة أفلاطون الفاضلة، لكن أغرب ما أثّر في عمله كان الوقت الذي أمضاه في إنجلترا قبل الثورة [البلشفية]؛ فإن زَمياتين كان -كبطل روايته- مهندس سفن، تخرّج في جامعة سانت بطرسبرغ التقنية، ثم ابتعث لنيوكاسِل سنة 1916. كتب يولندا دلغادو أنه ابتعث ليشرف على بناء كاسحات جليد لم تصل روسيا إلا بعد سيطرة البلاشفة على الحكم. وإنه لمدعاة للضحك أن زمياتين الذي كان من أكثر الناس نقدًا للسوفيت كان مشرفًا على بناء أوائل كاسحات الجليد [في أسطولهم].
كتب زمياتين روايته ردًا على سيطرة السوفيت على الحكم، إلا أنه استلهم لمسة الخيال العلمي [فيها] من مُقامِه في إنجلترا مدة عامين أثّرا فيه، فقد كان بعدهما يلبس ويتكلم كالإنجليز حتى سُمّي بالرجل الإنجليزي، وصار طليق اللسان بالإنجليزية، فعمل محرّرًا ومترجمًا لمؤلفين أجانب كهربرت جورج ويلز وجاك لندن وشريدان.
يقول أورويل إن زمياتين هجا معاش الإنجليز هجاءً مقذعًا [بعد عودته من إنجلترا]، وأصبح من “المنشقين” الأوائل [عن الاتحاد السوفيتي]، فحظرت روايته سنة 1921، ونشر حينئذ مقالته “أخاف” التي وصف فيها معاناة الأدباء الروس تحت سطوة السلطة الجديدة قائلًا: “ما نحن فيه يفتّتنا”.

هرّب زمياتين مخطوطة روايته إلى نيويورك فنشرها سنة 1923 مثيرًا عليه غضب السلطات السوفيتية، فنُبِذ وشُيطِن في الصحافة، وحُظِر عليه النشر، وطُرِد من اتحاد الكتّاب السوفيتيّين. لم يظهر زمياتين أيّ [ندم أو] اعتذار، وسأل ستالين أن يسمح له بمغادرة البلاد، ففعل، فسكن في باريس، وزاد عليه ستالين بأن أعاده لاتّحاد الكتّاب سنة 1934، وكان هذا حدثًا غير متوقّع آنذاك.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى