يحدثنا يان ليانكه عن سُكارى الثورات وأهمية المسافة الأدبية للكاتب

حاورته آن يو


حجم الخط-+=

ترجمة: ريم خالد

تحدثتُ إلى يان ليانكه في أوائل شهر حزيران/ يونيو 2021 عبر برنامج وي تشات. لفتتني صورة ملفه التي كانت منحوتة ذهبية لوجه رجل بعينين غائرتين وحاجبين مُنعقدين، وبدا مقطبا أحد جانبي وجهه وكأنه قلقا بشأن أمر ما. ترددت هذه الصورة بجانب اسمه حين كان يجيب عن أسئلتي بحرص وعناية. ناقشنا روايته المترجمة حديثا Hard Like Water، كما تحدثنا عن تحدي وضرورة إيجاد اللغة الصحيحة لكل قصة. أخيرا تطرقنا إلى ارتباطنا بالأماكن التي غادرناها منذ زمن بعيد.

آن يو: من أين استلهمت قصتك Hard Like Water؟

يان ليانكي: لقد واتتني القصة بمحض الصدفة. ففي عام 1999 بعد أن نشرت رواية The Passage of Time، تحسنت صحتي بعد معاناة عشر سنوات من المرض. شعرت بحيوية وكأن الحياة بعثت فيَّ دفأها مرة أخرى. عدت إلى مسقط رأسي في ذات العام تقريبا وزرت صديقا قديما من الجيش. أراني صديقي بعض السجلات النادرة المؤرخة إبان الثورة الثقافية آنذاك التي كانت بحوزة إدارة الأمن العام. انكببت على قراءتها كلها فكان مما استوقفني حالة اعتراف لأحد الناشطين ستكون ملهمتي لرواية Hard Like Water فيما بعد. كان هذا الناشط في رحلة إلى بكين لحضور مؤتمر يناقش الأعمال الكاملة لماو. بعدما فرغ منه، ركب القطار عائدا وكانت تجلس بجانبه امرأة ممن حضروا المؤتمر أيضا. طوال الطريق لم يتفوه أحدهما للاخر بحرف واحد، لكن بعدما ترجلا من القطار في تشنغتشو سارا وطرقات حقول الذرة ومارسا الحب، ثم ذهب كل منهما إلى طريقه. حصل الرجل على ترقية بعد حين وأصبح مسؤولا عن مقصف الجيش. في أحد الأيام اقتيد للاستجواب في حادثة فقدان قسائم الطعام. لم يدلِ الرجل بأي معلومة تخص هذه الحادثة، عوضا عن ذلك اعترف بما فعله في حقول الذرة. ما أن انتهيت من قراءة تلك السجلات كانت قصة Hard Like Water مكتملة في ذهني. عدت إلى بكين واشتريت نسخة قديمة من تلك الحقبة من صحيفة People’s Daily. وضعتها على مكتبي بجانب نسخة من Quotations from Chairman Mao، جلست وبدأت القصة تتدفق في عقلي كما لو أنها صنبورٌ قد فُتح ولا يسعني إغلاقه. انتهيت من كتابة المسودة خلال نصف عام بالرغم من إني ما كنت أكتب إلا ساعتين في اليوم لظروف سقمي. ثم راجعتها بروية قبل أن أرسلها للناشر، وبالرغم من هذا فقد حُظرت من النشر تقريبا. كلما تذكرت تلك الأيام انتابني الحنين، وكيف انهمرت تلك الأفكار في ذهني لتولِد هذه الرواية الجامحة.  

آن يو: أشعر أن كل سطر يفيض بهذا التدفق الفكري، والأهم من ذلك أنها كانت كتابة محكمة. أتذكر حقا بأن البداية كانت رصينة وهادئة. ثم على حين غرة تصاعدت النغمة الكتابية حتى أصبحت عارمة ومحتدمة وظلت كذلك إلى نهاية الرواية. دعني اسألك ما الذي دفعك إلى الكتابة بأسلوب الاسترجاعية “الفلاش باك”؟

يان ليانكه: أظن أنَّ روح الشباب الثورية ستنجلي بصورة أفضل حين يروي القصة إنسان حازم قد حكم عليه بالاعدام. إذا استطعنا أن نقرأ القصة بعقلية الشباب الذين كانوا مفتونين بالثورة، ومستعدين لعناق الموت في أي لحظة في سبيل تحقيق ما هم مؤمنون به آنذاك، لن يشق علينا فهم الشخصيات في هذه الرواية.

آن يو: دعنا نتحدث قليلا عن اللغة. في رأيي أنَّ الكتابة المُحْكَمة التي ذكرتها لك آنفا ما تحققت إلا من بفضل اللغة. لا يغيب عنا تباين اللغة العظيم بين رواياتك. وأتصور أن اللغة المميزة التي كتبت بها رواية Hard Like Water هي مفتاح السرد فيها.

يان ليانكه: بالفعل تتربع اللغة على عرش الرواية ولأصدقك القول إنَّ أول ما خطر في ذهني هي اللغة التي سأكتب بها قبل أي شيء آخر. فلولاها لما ولدت روايتي Hard Like Water. منذ أن شرعت في كتابة الرواية وأنا مشدود للغة الثوار الاشتراكيين في ذلك الحين، وكيف لا وأنا ممن نشأ وترعرع في ظل تلك اللغة.

آن يو: ما طريقتك في البحث واستكشاف اللغة الملائمة لكل قصة ترويها؟

يان ليانكه: آمل أن تكون كل رواية من رواياتي قد اتسمت بطابع يميزها حتى على مستوى اللغة. أظن أن أكثر ما يمثل تحديا للمؤلف هو أن يكتب بألوان لغوية مختلفة. أرى أنني نجحت في هذا التحدي في بعض من رواياتي مثل رواية The Years, Months, Days, وHard Like Water, وLenin’s Kisses. الكاتب اليقظ والمُمَحِص في تفاصيل حياته اليومية، هو بلا منازع من سيتمكن من إيجاد اللغة الملائمة لكل نص يشرع في كتابته. فكل قصة لا بد أن تروى بكلمات تجعلها متفرِدة عن باقي القصص، لكن البحث عن اللغة المطلوبة هي مَهمة شاقة. وكلما تقدَّمتُ بالعمر شعرتُ بفقدان قدرتي الإبداعية، ودائما ما يخالجني هذا الشعور حينما أحاول جاهدا التفتيش عن هذه اللغة الموائمة لقصتي في قراءاتي أو حتى بين طيات حياتي اليومية فأخفق في ذلك. أحزن ويضيق صدري كل مرة أتذكر أنه وقتما ينضب مَعين كلماتي لن أعود كاتبا أبدا.

آن يو: لقد كُتبت الكثير من القصص عن الثورة الثقافية، لكن قلما نجد من صور لنا القصة بعين الثوار. بالرغم من أن القصة تدور أحداثها في حقبة زمنية فريدة من التاريخ فقد استطاعت أن تعبرَ حدودها الزمانية والمكانية مخاطبة إنسان اليوم بلسان عصره. أتصور  أن انسياق الناس وراء إشباع شهواتهم المسعورة، خلّف بحرا من الجهل غرقوا فيه زمنا مديدا. كان قاو آجون Gao Aijun ثائرا ولكنه أيضا ضحية وتابع، كحال بقية الشخصيات في هذه الرواية. بدت الشخصيات كالدمى التي تُحرَّك بلا أدنى وعي منها. نلاحظ أن بطل القصة قاو آجون إنسانا بسيطا لكنه فتيٌّ وحيويٌ تملأه الحماسة، يمضي في حياته كشعلة صغيرة تبحث عما يزيدها اضطراما. برأيك هل كتابة الرواية من منظور رجل كهذا تعكس صورة أفضل للطبيعة الإنسانية؟

يان ليانكه: إنَّ الأدب هكذا، هو فنٌ يبدأ بملاحظة الناس وينتهي بكتابة الشخصيات. فالغرض الرئيس منه هو وصل كلٍّ من الناس، والشخصيات، واللغة بعضها ببعض. صحيح أن قاو آجون بطل ثوري ولكنه إنسان عادي في ذات الوقت، ونرى أنه مجنون بقلب نقي فهو إنسان باقٍ على سجيته الأولى. أما تلك الايدولوجية الرومانسية الطوباوية المكتسبة فقد استحوذت على عقله وفكره. كل ذلك يتشابك بشدة مع تفرد حقبة زمنية كهذه في التاريخ البشري. في الواقع لن نخطئ إذا قلنا أن هذه الشخصية ما هي إلا تجسيد لجزء من تاريخ الشرق الآسيوي وخصوصا تاريخ الصين. اليوم وبعد مرور عدة عقود ما زلتُ أرى انعكاسات لقاو آجون وأكسيا هونقيمي بين شبابنا اليوم. أتمنى ألا تكون لروايتي الجديدة أيَّ علاقة ألبتة بواقعنا الحالي، وليحزنني أن أرى عكس هذا تماما.

آن يو: لقد ذكرت في لقاءات ماضية أنه يصعب عليك كتابة قصص تدور أحداثها  في المدينة لأنه دائما ما شعرت أنك دخيل على البيئة الحضرية أو المُتمدنة. إنني مررت بتجربة مشابهة لما مررت به مع فارق نسبي، فأنا غادرت مدينة بكين في الثامنة عشر من عمري إلى الخارج وعشت هناك لما يربو على عشر سنوات ومع ذلك لا أحسن إلا كتابة قصص تقع أحداثها في بكين. ولأُصدقك القول، حينها كنت لا أزال طفلة ولم أكن أعرف سوى القليل جدًا عن المدينة، لكنني أشعر بأنني أعرف مدينة بكين أكثر من أي مكان آخر عشت فيه. أتخوف جدا من أن ذاكرتي عن بكين ستخذلني يوما ما، فالذكريات لا يمكن الاعتماد عليها. غالبًا ما أتساءل عن مدى دقة وصحة تلك الذكريات في ذهني سواء في الماضي أو الواقع الحالي. إذا كنت أبتعد أكثر عن بكين فكيف يمكنني أن أثق في مواصلة الكتابة عن تلك القطعة من الأرض؟ ربما ما وُجد الخيال إلا لهذا، أليس كذلك؟

يان ليانكه: أوافقُكِ الرأيَ. يجب أن تكون مسافة أدبية بين الكاتب ومكان ما. فتلك الأرض التي نشأ وترعرع فيها الكتَّابُ ستكون دائما أرضهم الخصبة التي تثمر لهم الأفكار الرئيسة. لا مناص من أن بساتين الذكريات سيجرفها الوقت ويغير من حالها فتنمو زهورها ثم تذبل، ولكنها تحثُّ الكاتب على الإيمان بأنها موجودة وباقية على حالها ولم تمسَّها يدي الزمن. ستبقى دائما مدينة بكين التي تكتبين عنها نسختَك وحدك إلى الأبد، وليست شخص سواك. كلما بعدت بك الخطى جسديا لا نفسيا عن هاتيك المدينة؛ بقيت حية في نفسك. وما دمتِ مرتبطة بمدينتك عقلا وقلبا فلا حاجة إلى ارتباطك بها جسديا.

آن يو: إن قولك هذا يريح قلبي. لأنني حقا أستمتع بالكتابة عن بكين من بعيد. ذلك البعد يمدني بالوضوح في أحيان كثيرة، وفي أحيان أخرى يسدل على المدينة ستارا من الغموض. أتخيل لو كنت أعيش وسط هذا كله، هل سأكون قادرة على كتابة ما كتبته؟

يان ليانكه: أعتقد اعتقادا جازما بأن المسافة الأدبية بين الكاتب والأرض التي كتب عنها لا بد أن تكون متزنة بعناية. فالبعد الشديد سيحل وثاق الرابط النفسي بينهم، في حين القرب الزائد عن اللازم سيُغرقهم في وحلِ الروتين اليومي دون وعي. آملُ أن أعيش في الواقع الصيني وليس حقيقة ذلك البلد الذي ترعرعت في كنفه، بيد أن الواقع الصيني يرتبط بتلك البلد التي بدورها تتصل بالعالم اتصالا وثيقا. نرى من خلال الأدب أن القرية قد تغدو دولة أو حتى عالما بأسره، وفي بعض الأحيان نراها شيئا أكبر من ذلك كله.

آن يو: وأنت قابع في بكين تكتب عن الريف الصيني، فبأي عين تراه؟

يان ليانكه: عندما أتأمل تلك القرية من مكاني هذا، بكين، أشعر وكأنها عاصمة للصين. في ذات الوقت عندما أضع قدمي على ثرى القرية موليا وجهي شطر بكين فأراها العالم كله، وهذه القرية التي هي موطأ قدمي محضَ مرصادٍ أراقب منه اتساع ذلك العالم.

آن يو: هل أنت بصدد كتابة عمل جديد؟ هل كان للجائحة تأثيرا على نمط كتابتك اليومي؟

يان ليانكه: التغيير الأبرز هو أنني ما عدت أخرج كثيرا، واستغللت هذا الوقت للتركيز أكثر على القراءة والكتابة. منذ بداية الجائحة شرعت في كتابة رواية نُشرت مؤخرا في مجلة Flower City، وأعمل حاليا على إنهاء مسوَّدة لرواية أخرى.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى