وليم وردزورث
Poetry Foundation
ترجمة: مؤمن الوزان
الشخصية التي كانت مفتاح الحركة الرومانسية الإنجليزية؛ دمج وردزورث ما بين العبادة الصوفية للطبيعة والقلق بشأن الحياة في الريف الفقير. وباستخدامه “لغة الشعراء الحقيقية”، بات تأثيرهُ دائمًا في الشعر الإنجليزي.
ولد وردزورث في كوكرماوث بكمبِرلاند، شمال غرب إنجلترا، في عام 1770، ابنا لمحام عمل ممثلًا قانونيا لمالك أراضٍ محلّي يدعى إيرل لونزدايل. كان وردزورث واحدا من بين خمسة أطفال، وتُوفي كلا والديه وهو بسن الثالثة عشرة، وبسبب الإرث الكبير الذي خلفه والده، فقد تأخر توزيعه عشرين عاما بسبب الإجراءات القانونية. حقّق هؤلاء الأطفال إنجازات كبيرة: فقد أصبح أخ وليم الأكبر محامي لندن الناجح، وأصبح أخ آخر له أستاذا في كلية ترينتي بكامبريدج.
الطفولة والدراسة
جرت وقائعُ من طفولة وردزورث الريفية الشاعرية عندما كان تلميذا داخليا في مدرسة هاوكسهيد لقواعد اللغة في قرية صغيرة ضمن تخوم منطقة بحيرة إيسثوايت. شكلت تلك الوقائع جزء بارزا من قصيدة سيرته الذاتية “المقدمة (1805)”: تزلجٌ فوق بحيرة متجمدة، وتسلق أنقاضٍ حجرية بحثا عن بيض طائر”. نشأ وردزورث، وفقا لوصفه الشخصي، صبيًا “جموح ساذج، بتفكير فَتي، واستسلام، لأجل الطبيعة والكتب”. وأعارته السنوات الثلاث في كلية سانت جونز، كامبريدج، واجهة من الثقافة الرفيعة، بالرغم من أنه لم يتفوَّق في أي مادة سوى في الشعر الإنجليزي.
مغامرات ثوريّة
لم يشأ وردزورث أن يكون كاهنا تقليديا أو ذا مهنة قانونية، ودخل جراء ذلك مرحلة تجريبية في حياته. أشعلت الثورة الفرنسية عام 1789 ثائرة الأصوليين البريطانيين، وأجرى وردزورث زيارة موسعة إلى فرنسا ما بين 1791-1792، حيث تحوَّل إلى الجمهورياتيّة الثوريّة. ثم احتفى بمشاعره خلال هذه المدة بهذه السطور: “النعيم هو في بزوغك لتكون حيا/ لكن أن تكون شابا فهو الفردوس الدائم”، إلا أن انشغالاته لم تكن سياسية بالكليّة. أصبحت امرأة فرنسية ملكيّة، هي أنيتي دي فالون، عشيقته وحملت بطفله، إلا إنَّ هذه العلاقة قُوطعت باندلاع الحرب بين بريطانيا وفرنسا واندحار الثورة وتحولها إلى مذبحة جماعية. وبعودة وردزورث إلى إنجلترا، فقد انقطع اتصاله بأنيتي وابنته. طبع وردزورث في عام 1793 أولى قصائده “نزهة مسائيّة ورسوم وصفية”، وأعاد في هذه المدة أيضا إنعاش علاقته بأخته دوروثي التي كانت قد وهنت في السنوات الماضية، وأصبحا ملازمين لبعضهما البعض. عانى وردزورث في منتصف العقد الأخير من القرن الثامن عشر من اكتئاب شديد يُحتمل أنه عائد إلى خيبة أمله من مسار الثورة الفرنسية التي بنى عليها آماله. أضف إلى ذلك خيبته من مسيرته الأدبية كونه لم يعثر على من هو مستعد لتحضير مسرحٍ لمسرحيته التاريخية “الخطوط الفاصلة” المكتوبة ما بين 1795-1796. عثر وردزورث في عام 1797 على سبيل يقوده للأمام، ويتمثّل في اتحاده مع شاعرٍ آخر يدعى صامويل تايلر كولريدج. كان الاثنان جارين في كوانتوك هيلز، وكان كلاهما محبا للنزهات الريفية الطويلة، والأغاني الشعبية، وتناقشا في قيود حركة التنوير العقلانية. أثمر عن شركتهما هذه طباعة “الأناشيد الغنائية” في عام 1798. وهنا بالذات تحدّدت معالم شخصية وردزورث الشعرية عبر استخدامه لغة غير مبتذلة للتعبير عن مشاعره الرفيعة التي ألهمته إياها الطبيعة، وقصِّ حكايات القرويين المعوزين الذين يملكون قلوبا نقية آمن بأنها تكشف عن جوهر الطبيعة الإنسانية.
شعراء البحيرة
بدخوله مرحلة الإبداع المزدهرة، بدأ وردزورث بالعمل على مُسوَّدة قصيدة سيرته الذاتية “المقدمة” التي كان ينوي أن تكون الجزء الأول من ملحمة فلسفية أطول هي “المُنعزِل”، والتي لم تُكتب قط. بدأ خلال هذه المرحلة أيضا بكتابة “دير تنتيرن (1798)”، مُستحضِرًا روح الدير السامية التي “دمجها” مع الطبيعة، وقصائد لوسي الغنائية (1798-1801)، ولم تتبين قط هوية المرأة الحقيقة المقصودة فيها، وما إذا كانت في حياة وردزورث فعلا. عاد وليم إلى منطقة بحيرة إيسثوايت، حيث استقر في دوف كوتج، وانضمّ إلى كولريدج، ثم لحق بهما روبرت ساوثي الذي كان يسكن بالقرب منهما، وشكّل الثلاثة معا ما عُرف بـ “شعراء البحيرة”. استمر فيض القصائد بالانهمار، ومن بينها قصائد مميزة مثل “قرار واستقلال” التي أُلهمه إياها لقاء جامع عَلَقٍ فقير، و”قصيدة: إيحاءات الخلود”، مادحا فيها أفضلية رؤية طفل على رؤية البالغين. بدأ وردزورث أيضا بكتابة السونيتات، إذ وجد سلواه من “وطأة الحرية المُفرطة” في صِيَغ الشعرِ المتنزِن. كتب في تلك الأوقات أفضل سونيتاته، مثل “العَالَمُ مُفرطٌ معنا” التي كانت هجوما على المادية المعاصرة له، و”فوق جسر ويستمنستر”.
الأفول
استلم وردزورث أخيرا إرثه في عام 1802 وشعر بأنه قادر على اتخاذ زوجة لنفسه. تزوج ماري هتشنسون التي كان يعرفها منذ طفولته؛ وأرادا إنجاب خمسة أطفال. بقي وردزورث يسكن في دوف كوتج برفقة أخته وزوجته وعائلته حتى عام 1808. وكتب في هذا الوقت مجموعة من أفضل قصائده، كـ “الحصاد المنعزل” و”النرجس الأصفر”، لكن قواه كانت في تضاؤل: إذ أظهرت قصيدة “الانحراف” (جزء آخر من ملحمته الشعرية المُخطط لها “المُنعزِل”) تناقصا واضحا في مسيرة كتابة “المقدمة”. دمّرت عدة مصائب معنويات وردزورث، ابتداء بوفاة أخيه في كارثة بحرية، والتي تبعتها انتهاء صداقته بكوليردج الذي انتكس بسبب إدمانه الأفيون. أضف إلى ذلك رد الفعل العدواني على قصائده المطبوعة في جزئين (1807) من قبل لورد بايرون، الذي وصف لغته بأنها ليست واضحة، بل صبيانية، وأصابه ذلك بأذًى عميق. بيد أنّ مأساته الكبرى تمثّلت بوفاة اثنين من أطفاله عام 1812. عاش وردزورث منذ عام 1813 في ريدال مونت بالقرب من أمبلِسايد، وحصل على وظيفة لا تتطلب الكثير من الجهد، إذ عمل موزّع طوابع بريدية في ويستمورلاند، وهي وظيفة أمّنت له دخلا ماديا. وفي هذه الأثناء، انقلبت مواقفه السياسية رأسا على عقب على إثر تعرّضه للتجسس بعدِّ أحد المُخرّبين المحتملين. وهكذا، أصبح داعما بارزا للملكية والمؤسسة الكنسيّة، فكتب قصائد بطريركية في مدح القوات العسكرية البريطانية الفيكتورية، وصار مناهضا لجميع الاحتجاجات الشعبية والإصلاحات السياسية. أصبح وردزورث شخصية مؤسساتية، وسخر منه الجيل الشاب من الشعراء الرومانسيين من أمثال بيرسي شيلي، لكنه استمر في مناصرته قضية الفقراء والمنبوذين، وعارض بشدّة قانون الفقر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الذي يدين العاطلين ويسوقهم إلى الإصلاحية. جفَّ إلهام وردزورث مع الاعتراف الرسمي به؛ كان قد كُرِّم لمسيرته الشعرية عام 1834. ثم في سنواته الأخيرة، ومع سقوط دوروثي في عالم الشيخوخة المبكرة، أصبحت ابنته دورا واحدة من النساء اللواتي يخضعن لأوامره ويلبين احتياجاته قبل أن تهرب -رغما عنه- لتتزوج وهي بسن التاسعة والثلاثين. كانت وفاتها عام 1847 الأسى الأخير في حياة وردزورث، وتوفي بعمر الثمانين في الثالث والعشرين من أبريل/ نيسان عام 1850.