نشيد النبيلونغ 

الملحمة الألمانيّة الوطنيّة 


حجم الخط-+=

مؤمن الوزان

نشيد النبيلونغ ملحمة شعرية جرمانيّة عن عالم الملوك والفرسان الأبطال وكل ما يتَّسمْ به من أعراف الفروسية والشجاعة والبسالة مقدمةً حياة هؤلاء وعاداتهم وسلوكياتهم وأخلاقياتهم سواء في داخل القصور والمساكن أو خارجها وفي أوقات السلم والحرب والاحتفالات والجنائز. ترسم عالمًا محددًا يرتبط بعليّة القوم لا غير فهم مادة الملحمة وأصلها وكل تفرعاتها، كما وتقدِّمهم في حُلَّةٍ بهيّة من القوة والجمال والعظمة والأسطوريّة والشجاعة الخارقة والشرف والوفاء وحفظ العهود والكلمة والطاعة المطلقة لمن هم أعلى قدرًا ومكانة، وإنْ خُرقت بعض هذه الصفات لكنها تُخرق لأجل عارضٍ أكبر أو على مضضٍ ولا تُصوَّر إلا بطوليًا في أكثر الأحيان. لم يقتصر حضور هؤلاء على الرجال فحسب، بل وشمل النساء كذلك وإن غلبَ الرجال عليهن لكنَّ الحضور الإنثوي بارزٌ وهو المحرِّك لمعظم أحداث الملحمة المهمة المتمثل في شخصيتين بارزتين هما كريمهيلد وبرنهيلد.

يرجع تاريخ تدوين هذه الملحمة إلى العصور الوسطى العليا ما بين سني 1191-1204م، واتباعًا لأعراف شعراء الملاحم البطولية في تلك الحقبة وإبقاء أسمائهم مجهولة، فلا توجد أيُّ معلومة متفق عليها بخصوص الشاعر وكل ما يرد عنه تحليلاتٍ وتكهُّنات فقط. لا يقتصر الأمر على الشاعر بل كذلك على راعي هذا الشاعر الذي يكتب عنه آرثر بأنه قد يكون، ولفغير، أسقف باساو (منطقة جنوب بافاريا)، ومن المرجَّح كذلك أن تكون نسخته المنقَّحة عن آخر نسخ الشاعر في سنة 1204م مُحدِّدَة لتاريخ كتابة الملحمة. 

بعيدًا عن البحث في خارج القصيدة لنتجه صوب الملحمة وعالمها وما فيه من أحداث تراوحت ما بين الفرح والحزن والبهجة والأسى والانتصار والهزيمة والشجاعة والجبن والوفاء والغدر. ولعلَّ آخر سطور الملحمة تدلُّ على فحوى الملحمة وفكرتها الأساس حين يقول شاعرها: “وانتهت احتفالية الملك السامية بالمآسي، كأي بهجةٍ تتحولُ أبدًا في النهاية إلى أحزان“. تتسم الملحمة في فصولها وتقلباتها بسمة تعاقب المسرَّات والأوجاع، ودائمًا ما عقب الحزنُ الفرحَ، فما من حزن دائم أو فرح خالد لكنهما متتابعان تتابع الليل والنهار، وللحزن الكعب الأعلى في هذه الاقتياف، فموت سيغفريد وكريمهيلد والأبطال من ملوك وفرسان يسم الملحمة بالأسى والألم، فهي إنْ مجَّدت البهجة طورًا فقد مجَّدت الحزن أطوارًا. لا يقف دور الحزن وتفتيته الأكباد في كونه يعقب الفرح فحسب بل في أنَّه محفِّز للأفعال باقتياته على ذوات الشخصيات ومؤجج لنيران الثأر من رماد النسيان وإنْ طواه الزمن آمادًا. ولعل نيران الانتقام والحقد التي ما خبا سعيرها في صدر كريمهيلد دليل على مدى ما يفعله الحزن في النفس البشرية، لا سيما باحتياج المرء إلى إطفاء نيرانه بالثأر لموت عزيزٍ، فهو حزن من نوعٍ أعلى، ممزوج برغبة الثأر، والحقد، والكراهية، والضغينة، وكما يقول شاعر قصيدة بيوولف: من الأفضل دائمًا أن نثأر لأعزائنا على الانغماس في النحيب. لا ترفع الملحمةُ الحزنَ والفرحَ إلى حلبة تصارعِ متنافسيْن اثنين بل في كونهما من الطبيعة البشريّة، وعنصران مهمان في هذه التركيبة النفسية، فلا انتصار لطرف على آخر بل في تقديم ما تفعله هذه المشاعر في النفوس وما تحضُّ عليه من أفعال عظيمة أو دنيئة. والملحمة كذلك لا تُمجِّد أبطالها تمجيدًا مطلقًا فثمة مثلبة تُنقصُ كلًا منهم على حدة، وفيها ما يكفي لأن يفسَّر ضدَّها، وإن بدت بعض الأفعال بدافع الخير كما في سيغفريد أثناء رحلته مع غونتر لزواج برنهيلد في آيسلندا. في خضمِّ كل هذا، فإنَّ الملحمة وفيّة لعالمها البطوليّ الذي أنشدته، فنحن في آخر المطاف نقرأ عن البطولة والبسالة التي يبذلها المقاتلون في سوح القتال، وكلما حميَ وطيس القتال اشتدَّت ذروات الملحمة لتحافظ على جوٍ دمويّ من صراع يفوح بالإقدام والرجولة والعزيمة والجراءة، فلا شيء يردع الشجاع من أن يسقي خصومه كأس الردى، والملحمة في بعض أجزائها تنتقل بتعظيمها لهؤلاء المقاتلين إلى نوع من الوحشيّة والهمجيّة كما في شرب الدماء إرواءً للعطش في أثناء القتال في معركة قاعة القصر وانعدام الماء، بل وإنَّ مذاق الدماء أطيبُ من الخمر. فصناديد الفرسان لا يخشون موتًا ولا يرغبون في حياةٍ لا يختارونها بأنفسهم فهم يجدون في الاستسلام مذلةً وفي إغماد السيف وقتَ إشهاره عارًا لا تُحتمل الحياة بعده، كما أنَّ رباط الصداقة والأخوَّة ورفقة السلاح عروة وثقة لا تنفصم وتزداد شدَّةً بتقدِّم القتال. لتتغنى بمآثر الأبطال والملوك والفرسان التي تُبرزُ علانيةً أو ضمنية متجسِّدة بالأفعال، فالحفاظ على هذه الأعراف طوال فصول الملحمة يُثبِّتها في وجدان المتلقي ليكون حكمه في صواب وخطأ ما يبدر من الشخصيات سابقًا لحكم الشخصيات بعضها على بعض أو تعليق شاعرها. 

لا أغفل بحالٍ من الأحوال عن موضوع الحب في الملحمة، فالنصف الأول من الملحمة الذي دار حول سيغفريد منذ سفره لأجل زواج كريمهيلد وحتى مقتله غدرًا على يد هاغن، لم يكن ليتمَّ أيُّ حدثٍ فيه لولا سفره بدافع الحب الذي كنَّه لكريمهيلد والوفاء والولاء لإخوتها وأهلها باسم حبِّه لها، كما أن الحبَّ نفسه هو المُحرِّك للنصف الثاني من الملحمة الذي تركَّز حول كريمهيلد ورغبتها بالثأر لزوجها من أهلها، وكل ما فعلته منذ زواجها الملك إتزل، وحتى أخذها ثأرها بإسراف أبادتْ فيه فرسانًا وأبطالًا وملوكًا من أنصارها وخصومها، ولم يردعها شيء عن تنفيذ ما رامت إليه سنين طويلة حتى تحقق مرادها في الأخير وقتلها هاجِن بيديها، وإن كان كلفةَ ذلك موتُها هي الأخرى. لا يلغي امتزاج الحب في الثأر أحدهما الآخر فهو امتزاج وانفصال في الوقت نفسه، فمشاعر الحب واضحة ورغبة الثأر جليّة، فطغى الحب على سيغفريد وأعمى بصيرته فمنح ثقة مطلقةً لمن يحبهم حتى كانت نهايته على يدهم، وحرَّك الثأر كريمهيلد وتغلَّب على أواصر الدم والقرابة والنَفْس حتى كان لها ما سعت إليه بعد مقتل زوجها. لذا فالثأر من مواضيع الملحمة التي سعى الشاعر لتصويره وتجسيد تأثيراته في الملحمة دون هوادة، فتجندُل الفرسان ومَقتل الشجعان ما هو إلا ثمرة نقمة الثأر التي بُذرت في نَفْسِ كريمهيلد بخطفها سيغفريد منها، الثأر الذي اتصل بالحزن والأسى والضغينة والحقد فتغذَّى على أوجاع صاحبته، ونما مستفحِلًا حتى صار وحشًا ضاريًا أهَلْكَ القريب والغريب والشريف والوضيع، ومن لم يرتشف من كأس المنون فقد حقَّ عليه النوح والبكاء على من خسرهم في انطلاقة وحشِ كريمهيلد. 

أكَّدت الملحمة الأخلاق التي امتازت بها الشخصيات الرجالية في فصولها العديدة وفي أحلك ساعات القتال والصراع، ومن أبرز المواقف التي أكدت أخلاق الفرسان ما حدث مع رودِغر الذي رفض طلبَ ملكه، إتزل وزوجته كريمهيلد، بقتال غونتر وأتباعه، متعذِّرًا بأنه قد استضافهم في أرضه وأطعهم طعامه وسقاهم شرابهم وهو الذي أوصلهم إلى  هنغاريا لحضور احتفالية منتصف الصيف التي أقامها إتزل، وكان هو المبعوث الذي رحل إلى مملكتهم في فورمز، كما وأنَّه قد زوَّج ابنته لغيزلهير، أخي غونتر، فهو يهين شرفه بقتال من استضافهم وأوصلهم بل وزاد أن طلبَ من ملكه أن يتنازل له عن كل أراضيه وقلاعه مقابلَ أن يعفيه عن قتال غونتر وأتباعه، ورأى في الموتِ راحةً من فعل ذلك، لكنه وباسمِ الولاء والرضوخ لملكه قاتل غونتر ورجاله قتالًا سُبقَ بما دمعت له مآقي الفريقين وما وقع فيه من إفصاح لدوافع القتال والاضطرار إليه من قبل رودِغر بل وإهداؤه درعه لهاجِن. 

يتجلَّى في الملحمة كذلك عالمُ الملوك وما فيه من آداب وضيافات وعادات وتقاليد وتشريفات واحتفالات واجتماعات خاصة به، وتكشف التفاصيل الواردة أنَّ الشاعر ملمٌ بهذا المجتمع والعالم الملوكي أو قد يكون جزءًا منه. كما أن أبطال الملحمة وأهم أحداثها متعلقة بالملوك الذين هم فرسان أيضًا، تبدأ الملحمة بذكر ملك الأراضي المنخفضة “سيغموند”، ثم لاحقًا ابنه الملك سيغفريد، وملك فورمز “غونتر”، وملكا السكسون “ليودغير وليودغاست”، وملكة آيسلندا “برنهيلد”، وأخيرًا ملك هنغاريا “إتزل”. ينقل الشاعرُ حياةَ البلاط وفعالياته الرسمية وطقوسه والبعثات الرسمية للرسل، حتى إنه خصص فصولا يعرض فيها كيف تحضَّر الملوك للسفر، وكيف تنقَّل الموكب الملكيّ في رحلاته، وكيف استُقبل عند وصوله، وما شابه ذلك من مواضيع قُدِّمت كاملةً ومن كل جوانبها الممكنة.   

يقتصر عالم الملحمة على البشرِ والمعقول تقريبًا لكنها تضم في بعض فصولها وأحداثها غيرَ المعقول والأسطوريّ والسحريّ. فيوجد في الملحمة أجناس أخرى غير البشر كالأقزام الذي كانوا أتباع سيغفريد، والعمالقة في أرض الأقزام، والجنيّات (Nixie)، والوحوش كالتنين، لكن هذه الأجناس غير البشرية دورها محدود لا يكاد يُذكر إلا عند الحاجة إليه. وتمتع سيغفريد وغونتر وهاغن والأبطال الآخرون بشجاعة لا تُضاهى ولا مثيل لها، وامتاز القتال الذي حدث في قاعة القصر بين الهنغاريين والملك غونتر وأتباعه البرغنديين دليل على أسطوريتهم القتالية إذ تقتل فئة قليلة المئاتِ والآلافَ في مبالغة واضحة لا تتناسب مع العالم البشري الضام لهذه الملحمة، فقوَّة وشجاعة هؤلاء الفرسان خارقة للطبيعة والمعتاد ليُوسَمَ هؤلاء الأبطال بسمة الأبطال الآلهة الذين لا يموتون إلا على يد أبطال آلهة مثلهم. وعلى الرغم من غياب الآلهة، التي كانت تحفظ الأبطال في ملحمة الإلياذة والإنيادة، فإن مقاتلو “أنشودة الضباب” يتمتعون بتلك الشجاعة التي تقوم مقامَ حِفْظ الآلهة ورعايتها للأبطال، فبسالتهم وإقدامهم هي الإله الذي يدعمهم ويُنجيهم من كل المخاطر المحدقة من ضربات السيوف وطعنات الرماح وكل ما يؤذيهم. ومن الأمور الخارقة للطبيعة في الملحمة ما تمتَّع به سيغفريد من جلد لا يُخترق بعد أن اغتسل بدم التنين الذي قتله خلا موضع في عظم الكتف، وكذلك العباءة السحرية التي تُخفيه عن الأنظار إذا ارتداها. 

شابَ أحداث الملحمة بعض التناقضات بين أقوال الشخصيات بين الفصول المختلفة كما في تبرئة غيرنوت نفسه من دم سيغفريد وهو الحاضر عند التآمر عليه، أو القرارات التي تتخذها الشخصيات ولا يمكن الوقوف على تفسير مقنع لها كما في قبول الملك غونتر قتل سيغفريد مع أن الأخير كان مخلصًا له ووفيًا وزوجَ أخته، ثم شعوره بعد ذلك بخطأ الفعلة لكنه يوافق بعدها على سلب هاغن كنزَ أخته، كريمهيلد، أو في رفض كريمهيلد العودة إلى مملكة زوجها المقتول في الأراضي المنخفضة (النيدرلاند) والبقاء في مملكة أهلها، في فورمز على نهر الراين، مع إدراكها أنَّ أخوتها وتابعهم هاغن من قتلوا زوجها. وينقطع ذكر بعض الشخصيات في الملحمة انقطاعا تامًا مع أنَّ لها بروزها وحضورها في فصولٍ سابقة أو انبثاق شخصياتٍ فجأة ليكون دورها الكبير في الأحداث التي تلج في قلبها كأي بطل من أبطال الملحمة الثابتين. يغيب مفهوم تأثير الزمن في الشخصيات لا سيما الفرسان وما يتمتعون به من قوة وشجاعة التي بدا أنها لا تتأثر بتقدم السن وصروف الدهر وكأنهم يتمتعون بشباب خالد وقوة أبدية. وتُذكر أعداد كبيرة من الجند لا يسعها المكان المذكور لا سيما تلك المعارك التي حدثت في قاعة القصر في مملكة هنغاريا في فصول الملحمة الأخيرة التي بدت أسطوريّة وخيالية ومبالغ بها كثيرًا.          

سيغفريد الفارس الهمام

لسيغفريد دورٌ بارزٌ في الملحمة؛ يشغل النصف الأول من الملحمة ويقترن بكريمهيلد التي سعت بعد موته للانتقام من قتلته، فثأرت له وقتلت قاتله بسيفه في النصف الثاني، لذا فلم يغب ذكر سيغفريد طوال الملحمة سواءً بحضوره الفعلي أو بغيابه الحاضر الذي حرَّك الأحداث وكان جزءًا منها ضمنيًا. يتَّسم سيغفريد بكل سمات البطولة من شجاعة وبسالة وإقدام وجمال وعظمة وفروسية ورفعة النسب فضلًا عن كونه ابن ملك وملكًا على النيدرلاند، وأتمَّ في شبابه مغامراتٍ وحقق مآثر كقتله التنين الذي استحمَّ بدمه فمنحه صلابة الجلد فلا يخترقه شيء، عدا موضع في عظم كتفه الأيسر لوقوع ورقة شجر عليه، وحصل على عباءة الإخفاء السحرية، وأخضعَ أقزام النيبلونغ له، واستولى على كنزهم العظيم، ثم بعد رحلته إلى مملكة فورمز شارك في قتال السكسون وهزيمتهم وأسر ملكيْهم وساعد الملك غونتر في الفوز بملكة آيسلندا، برنهيلد. زاده كل هذا من صفات الأبطال الذين تزخر بهم الملاحم فهو لا يقل شيئًا عن البطل الهوميريّ آخيل وأدويسيوس وهيكتور الطرواديّ، أو آينياس الطروادي في ملحمة فيرجيل، أو أبطال الهنود في ملحمتي المهابهاراتا والرامايانا، أو عن البطل رستم في ملحمة الشاهانامه، ويضعه هذا في مصاف أولئك الأبطال، لكنه يقلِّ عنهم بشيء واحدٍ فقط وهو الموت المبكر في منتصف الملحمة أيَّ إن الشاعر لم يمنحه المجد الكامل في أن تكون الملحمة منظومة في التغني بحياته وشجاعته. لم يكن موته بِدعًا من موت الأبطال من قبل فقد مات آخيل في حرب طروادة مع أن الإلياذة تنتهي قبل أن تذكر ذلك، لكن القارئ يعلم هذا بذكر موته في الأوديسة، وكذا الحال مع أبطال المهابهاراتا فهم يموتون أيضًا في نهاية الملحمة، ويموت رستم الفارسيّ لكن في حقبة متأخرة من الشاهانامه التي تتحول بعد وفاته إلى الجانب التاريخي أكثر من الجانب الأسطوري والخيالي العجيب، إذ امتازت به في حقبها التاريخية السحيقة التي عاش فيها رستم، ويطوي موت رستم صفحة الأبطال الخارقين فلا يظهر بعده بطل تتغنى الشاهانامه بمآثره وعجيب صنائعه. لكن موت سيغفريد هو موت في منتصف الملحمة ليغيب عن أعظم معارك الملحمة وأشدَّها ضراوة التي خاضها غونتر وهاغن والبقية في بلاط الملك إتزل في هنغاريا، فهو بموته لا يختم ذكر الأبطال ويطوي برحيله مسيرتهم لكنه يسلِّم الراية لأبطالٍ آخرين لا يقلون عنه قوة وبأسًا فكان واحدًا من مجموعة لم يتفوَّق عليهم بالمطلق مع استحقاقه هذا، وينقص من قدره أيضًا نهايته التي كانت غدرًا على يد أقارب زوجته الذين والاهم وأخلصَ في صُحبتهم، وهنا كذلك لا يتشابه موته مع موت رستم الذي قتله أخوه غدرًا لأن رستم عاش حياةً مديدة عاصر فيها ملوكًا وممالكَ وخاضَ حروبًا وكان قَلْبَ البطولة حيث حلَّ، وموته نهاية لأحداثٍ كثيرة ولم يسعَ أحدٌ للثأر له كما سعت كريمهيلد، وفي هذا السعي انتقاص من قدر سيغفريد كذلك فهو لم يمت في سوح الوغى كما مات آخيل في طروادة، وأن يسعى أحدهم للثأر له فهذا يشير إلى أن الطريقة التي مات فيها لا تليق ببطل فالأبطال حين يموتون يكون بالضرورة أنهم قد أخذوا ثأرهم سلفًا وليسوا بحاجة بعد رحيلهم إلى أن يثأر لهم أحد، فمثلهم ليس لهم نظير أو كفؤ حتى يُثأر منه، كما أن الثأر يوحي بالضرورة أن قاتله قد فاقه في سمة من السمات كالشجاعة أو الدهاء أو المكر، ومع سيغفريد فإن الثقة المفرطة وقلة التدبير وأخذ الحيطة والحذر هي التي سهَّلت موته على يد هاغن، كما أنه قد وقع في خطأ كشف السر لزوجته مرتين، وهاتان المرتان هما السبب في تعجيل قتله. لا يقلل ذلك من قيمة البطل سيغفريد وثقله في الملحمة لكنه يضعه بشكل أو بآخر في مقام أدنى من أبطال الملاحم الآخرين. 

منحَ الشاعرُ سيغفريد حياةً بطولية، ومما يبدو أنه قد أسبغَ عليه من سمات الإله الإسكندنافي بالدر، الذي أخذت أمه الإلهة فريج عهدًا من كل ما موجود على ظهر البسيطة ألا يؤذي بالدر وهكذا اكتسب الإله مقدرةً حصَّنته من كل ما يمكن أن يؤذيه ما عدا نبات الهدال الذي رأت فريج في غضاضته ما يمنع أذية ابنها، لكنها تُخطئ الظن ويموت بالدر بسبب هذا النبات بعد أن يرميه عليه أخوه هوث بمكيدة من الإله لوكي، وكان موته مُنبّئًا باقتراب معركة راجناروك ونهاية العالم، وهكذا فإن سيغفريد، مما يتراءى لي، هو تجسيّد بشري للإله بالدر سواء بما امتلكه من جلدٍ لا يُخترق ما عدا موضع في عظم كتفه الأيسر أو في كون وفاته هي بداية النهاية لمملكة فورمز والبرغنديين. فهو إنْ كان بشريًا فانيًا وبطلًا انتهت حياته مبكرًا فقد جمعَ في شخصه وقصته الإلوهية البشريّة والشجاعة الإلوهيّة الأسطورية. 

كريمهيلد والمرأة في الملحمة

ابتدأت الملحمة بذكر كريمهيلد والتغني بصفاتها المجيدة وانتهت الملحمة بموت كريمهيلد، وبالرغم من عالم الفرسان الذي دارت الملحمة حوله وفيه فلم يستطعْ شاعرها بأي حالٍ من الأحوال تغييبَ كريمهيلد كما غيَّب بقية الشخصيات الأنثوية على مدار فصولها. تشغل كريمهيلد حيزًا كبيرًا في الملحمة سواء بحضورها أو بأفعالها، فهي النسخة الأنثوية من سيغفريد، تُحرِّكُ سيغفريد وتتحرك بسيغفريد، ولا يمكن فصلهما عن بعضٍ فعند ذكر سيغفريد لا بد من التعريج عليها وكذا الحال معها. ارتبطَ موضوع الثأر والانتقام بها، ورفعت شأن هذا الثأر إذ كان من أهلها، إخوتها الثلاثة وهاغن وأتباعهم، ليفوق حبُّ سيغفريد في نفسها أيَّ صلة قرابة أو دم تجمعها بأهلها الذين تبرأت منهم بحقيقة أفعالها وما قامت به من سعي حثيث للتخلص منهم. كما لا يمكن لفصول الملحمة أن تتقدم وتتصاعد بأحداثها بدون كريمهيلد، لتتسيَّد على دورِ المرأة في الملحمة وتكون النظير الوحيد الذي وقفَ شامخًا حتى النهاية في مواجهة الرجل والفارس. تُقدِّم كريمهيلد نموذجًا للمرأة والزوجة المتفانية بحب زوجها والحبيبة المخلصة الشريفة المشاعر والأميرة الحافظة لأعراف قدرها الملوكي، والملكة الداعمة لقرينها الملك، والمدافعة عن رفعته وكرامته في غيابه، والقائدة المُنتقمة التي وإن شاب تصرفاتها التهور ورغبة تحقيق المراد بغض النظر عن أي شيء آخر، فتبقى قادرة على تحفيز أتباعها ومرؤوسيها على تنفيذ ما تُريده. لم تتركز الملحمة على شخص كريمهيلد، لكنها خصصت لها مساحة تتحرك فيها بحرية في مراحل مختلفة من زمن الملحمة، المساحة التي أكسبت حضورها سمة الثبات والشخوص بين كل أبطال الملحمة. فهي مع عدم كثرة حديثها أو تعلق مجريات الأحداث بها مباشرة ترتبط ارتباطًا وثيقة مع كل الأحداث المهمة من البداية حتى النهاية. 

بيد أنَّ الشاعر لم يجعل ملحمته خاصة بكريمهيلد ولا أسبغَ عليها الإطراء العظيم والتبجيل الذي خلعه على الملوك والفرسان في ملحمته، فكريمهيلد نوع من خلفية ضامة للأحداث أكثر من كونها لاعبًا مباشرًا فيها، كما في زواجها سيغفريد، وعلاقتها المتوترة مع برنهيلد التي وصلت إلى حد الشجار وتبادل الإساءات والإهانات، ومساعدتها اللا مقصودة في اغتيال سيغفريد، ثم سلبها كنزها، وأخيرًا في زواجها إتزل والمعركة الأخيرة ضد غونتر وهاغن والبرغنديين حتى قتلها هاغن، وأخذها ثأرها من قاتل زوجها بيديها. كل هذه الأمثلة في مراحل الملحمة المختلفة كان لكريمهيلد دورٌ لا تُغيَّب عنه لكنها تُحرم من خاصيّة المؤثر المباشر في سريان الحدث، ولا يعيبها هذا كونها امرأة وليست رجلًا لذلك فقد استخدمت كل صلاحيتها المتاحة كاملةً دون أن تبخيل أو تدَّخِر شيئًا منها سواءً عن طريق الممكن وما تستطيع فعله دون الحاجة إلى آخر، أو ما فعلته بالخداع واستغلال طاعة التابعين لها.

لم تُقدَّم كريمهيلد على أنها شخصية مثالية، كحال بقية الشخصيات التي كانت لها مثالبها، لكن اقترنت مثالب كريمهيلد بكونها امرأة أكثر من كونها إنسانًا يُصيب ويُخطئ، فالرجل الفارس في ملحمة تُسبغ عليه أُبهة الفروسية والشجاعة والمُلك ليصبح خطؤه جزءًا من التركيبة الذكورية التي لا تُعيبه، في الوقت الذي تُنزع من المرأة حتى اللحظات التي يُفترض أنها لحظاتُ انتصار خاصة بها ليشترك معها الرجل الذي يتفرَّد بما يناله وحده. تُخطئ كريمهيلد خطأين فادحين ينتجُ عنهما عواقب وخيمة تودي بحياة زوجها، الأول عندما عيَّرت برنهيلد، زوجة أخيها، بماضيها ووصفتها بأنها عشيقة التابع طاعنة بشرفها وأثبتت ما اتَّهمت إياها بأن أخرجت خاتم برنهيلد الذي أخبرها سيغفريد بقصته عندما ساعدَ غونتر عليها في ليلة زواجهما، والآخر حين كشفت سرَّ سيغفريد عن نقطة ضعفه التي لم تبلغها دماء التنين حين اغتسلَ به وقتله هاغن بفضل إفشاء هذا السر. 

تُتجاوز الحادثة الأولى ظاهريًا بتعليل إنَّ ما حدث هو “مشكلة نساء” استخفافًا وتقليلًا مما جرى ومن التصرفات الناتجة من اختلافهن، وفي الثانية تُستغل عاطفة المرأة وتقدَّم بكونها نقطة ضعف يُؤتى منها الرجال. لكن الأهم من هذا هو ما لم يُذكر صراحةً في الحادثتين، إذ ترتبط الحادثتان بسرٍ يُشاركه سيغفريد لزوجته دون سائر الناس، وكأن الشاعر يقول لا تضعْ سرك في فم زوجتك مهما كلَّف الأمر وبدا أمينًا مشاركته إياها، فسيغفريد في آخر المطاف يقع ضحية إفشائه سرِّين لم يكن من المفترض عليه أن يفشيهما لزوجته كريمهلد. لم يتوقف تصوير المرأة انتقاصيًا في الملحمة عند هاتين الحادثتين لكن ثمَّة ثلاث حوادث أخرى انتُقِصَ فيها من المرأة لكونها امرأة فقط دون الرجل. 

الحادثة الأولى حين يسافر غونتر رفقة سيغفريد وهاغن ودانكراوت لخِطبة برنهيلد لغونتر، لكن برنهيلد القوية لم تكن لتتزوج أيًّا كان حتى يهزمها في المسابقة التي وضعتها وشرطت لا أن تقتل منافسها المباشر وحده هذه المرة، كما اعتادت، بل أن تقتل الأربعة جميعًا، لذا فإن هزيمتها لغونتر تعني قتله وقتل رفاقه الثلاثة. ونقرأ قول دانكراوت حين رأى موقف غونتر الضعيف أمام برنهيلد القوية: “نادمٌ من صميم قلبي على زيارتنا هذا البلاط. فدائما ما حملنا لقبَ الأبطال، لكن يا لعار موتنا إن انتهى بنا المصير على يدي امرأة!” فالعار ليس في الموت بل في أن يكون على يد امرأة. 

أما الحادثة الثانية فهي متعلقة برفض برنهيلد أن يقترب زوجها غونتر منها ليلة زواجهما وبعد أن يكاشفَ سيغفريدَ ما حصل معه؛ يعرض الأخير المساعدة عليه بفضل العباءة السحرية وأن يروضَ له زوجته بدلًا منه، ويطلب منه غونتر أن يفعل كل شيء أثناء ذلك سوى أن ينال منها وطرا، قائلًا له: “أوافق على ذلك عدا أن تغشَّى سيدتي العزيزة بأي حال. افعلْ ما يحلو لك حتى لو قتلتها. سأجدُ لك عذرًا من أعماق قلبي فهي امرأة بغيضة!”. وخاطب سيغفريد نفسه عندما صارعَ برنهيلد فوق الفراش في الظلام ورأى منها بأسا وقوة: “يا حسافتي لو خسرتُ حياتي أمام امرأة، فإما أن تعتَّدَ بعدها كُلُّ النساء بأنفسهن تجاه أزواجهنَّ، وإما ألا يتصرفنَ معهم بمثل هذا أبدا”. يبرز لنا أمران من هذه الحادثة هو الاستهانة بدم الآخر بما أنه امرأة حتى لو كانت زوجته، وألا تُمسَّ كرامته مُقدم عنده على حياتها، والأمر الآخر أنَّ رفضَ برنهيلد لاقتراب زوجها منها إهانةٌ لكل الرجال، وهذا يُحتِّم مبدئيًا مساندة الرجلِ للرجل على حساب المرأة لأن الأمر قد خرجَ سلفًا من علاقة خاصة بين زوجٍ وزوجة ودخلَ ضمن حلبة صراع الرجل والمرأة وترويض الأخيرة في الفراش هو غاية الرجل ورمزَ انتصاره عليها. 

تكرر هذا الأمر لكن على نحو أشدِّ قسوة وانتصارًا للرجل في الحادثة الأخيرة، وهنا على حساب كريمهيلد، أبرز امرأة في الملحمة التي قصَّتْ في نصفها الثاني مسعاها في الثأر. فبعد أن تأسر كريمهيلد هاجِن وغونتر بعد معركة القاعة وتأمر بقطع رأس غونتر وتقتل بيدها هاغن، يرى هيلديبراند، تابعها، هذا فيستهجن ذلك ورفض قائلًا: “وأسفاه أن يُقتلَ أفضلُ الفرسان وأعظمُ من حملَ ترسا في معركة على يد امرأة! لقد كنتُ عدوَّه وسبَّب لي أكمدَ الأحزان، لكنِك لن تهنأي بتجرؤكِ على قتله مهما كلَّفني الأمر. ولن يردعني ما سببه لي من آلام ومخاطر عن الثأر لموت سيّد ترونِك الشجاع!” ثم يثبُ على كريمهيلد ويقتلها. لا يهم هنا إن كان هاغن قد أثخن قتلا في الهنغاريين، الذين انتمى إليهم هيلديبراند، بل إنَّ من يقتله لا بد أن يكون رجلًا فلم نرَ ردة فعلٍ كهذه عندما قُتل غونتر، وهو الملك وهاغن تابعه الأمين، لأن من قتل غونتر رجلٌ آخر وليس امرأة. 

لا يعني كل هذا بالضرورة أنَّ الشاعر قد تعمَّد الانتقاص من المرأة لكنه نظم قصيدته وأحداثها بما تركَّبت عليه أفكاره ونشأ عليه من قيم وعادات وتقاليد اجتماعية حددت مقام الرجل والمرأة، والتمايز فيما بينهما وفضل الرجل عليها، وأنها في مقام أدنى منه. تُعطينا هذه الأقوال والأحداث فكرة عامة وأساسية عن النظرة إلى المرأة أو أسلوب التعامل معها وكيفية تفسير أفعالها من قبل الرجل المحيط بها، كما ويساعد ذلك على دراسة البُنية الاجتماعية لبيئة الشاعر وحقبته الزمنية، وهذا من فوائد الأدب التي لا تقتصر قراءته ودراسته على بُنية العمل وأفكاره وشخصياته ضمن الإطار النصيّ بل الخروج إلى مكونات النص غير الموجودة أمامنا، لكنها تُشكل الدوافع لكتابة النص واللُبنة التي تكوّن منها النص والجو الفكري العام الذي انبثق منه، وكذلك بما أن القصيدة تذكره بهذا الشكل المباشر فهو يكشف حتمًا عن طبيعة الأعراف لدى القارئ المعاصر لها فوجودها وتلقيها لا يسيء للقارئ المتفق مبدئيًا مع ما ورد. وفي أفضل الأحوال إن لم يكن الأمر حينها كما يكشفه تحليل النص فهو يشير إلى التطوّر في التعامل مع النص المسيء للآخر الذي قد لا يُتفقُ على هذه الاستنتاج والقراءة، أو قد يُرجع هذا التحليل والاستنتاج إلى عوامل خارجية تُقحم على النص لكنها في الأخير أدوات تحليلية لا يمكننا التغاضي عنها واستقراء النص من كل جوانبه الممكنة وفقًا للآليات الفكرية لعصر تلقّيه، فما لم يجده السابقون يجده القارئ الحالي، وما لا يجده القارئ الحالي سيجده اللاحقون، وهكذا تبقى عملية قراءة النص وتحليله متقدِّمة بتقدم الزمن، وغير متوقفة عند أفكار الكاتب ومقاصده الآنية، فعملية القراءة تراكمية وتطوّريّة ولا يوجد نص يعود إلى الوراء، فبلحظة خروجه إلى الحياة يدخلُ سلسلةً غير منتيهة من حلقات القراءة والتلقّي المختلفة. يبقى الضابط في كل هذا الآليات والوسائل التي يُقرأ بها النص والنتائج التي يخلص القارئ إليها، وكيفية الاستفادة من هذه النتائج في التعامل مع النص والتاريخ والمجتمع والآخر بعيدًا عن الأهواء والعبثية وحصر النص في رؤى سابقة يُلوى النص ومقاصده لأجل إثباتها، أو تستخدم لخدمة توجهات فكرية بعينها.  

راجناروك الفرسان

لا يمكن لقارئ الملحمة والمطَّلع على الأساطير الإسكندنافية التغافل عن التشابهات والإسقاطات الواردة في الملحمة، والتي هي بلا شك، نظرًا للاشتراك البيئي والثقافي والعقائدي والاجتماعي لشعوب تلك المنطقة مع الإسكندنافيين، قد ألهمت الشاعرَ من قصص الآلهة الإسكندنافيين. حاول الشاعر الاستفادة من الأساطير الإسكندنافية أو في أفضل الأحوال لم يستطع أن يتغلب على تأثيراتها الفكرية والخيالية فيه فظهرت واضحةً في حبكة أحداث الملحمة. سآخذ مثالين عن هذه التأثيرات الأول موت سيغفريد والآخر معركة قاعة القصر. 

يقص سنوري ستورلوسون في كتابه The Prose Edda، في الفقرة الحادية والخمسين من القسم الأول في الكتاب، مقتلَ بالدر على يد أخيه الأعمى، هوث. تبدأ القصة مع بالدر الطيب المعروف برؤاه المتحققة بخيرها وشرها التي تشكِّل خطرًا على حياته. لذا فقد ارتأت الآلهة أن تحميه من كل أنواع الأخطار. أخذت أمه فريج عهدًا من جميع ما موجود على وجه المعمورة من مخلوقات وجمادات وأشياء غير ماديّة من صخور وأمراض وسموم وأشجار وطيور ووحوش وهوامٍّ ألا تؤذي بالدر وتحفظه من السوء، وبعد أن أُخذَ العهد عليهم اجتمعَ الآيسر للتسلية ووقف بالدر على المنصَّة (مترجمة إلى الإنجليزية بـ الشيء مع هامش “اجتماع تشريعي في آيسلندا”) وبدأ الجميع يحاول أذيته بالرمي والحذف والقذف ومحاولة الجَرح. سألت امرأةٌ بعدها فريج إن كانت قد أخذت العهد على جميع الأشياء فأجابت فريج بنعم عدا نبات، وهو الهدال، ينبت شرق فالهالا رأته غضًّا على أن يؤذي بالدر. استغل لوكي هذا بعد أن سمع الكلام وأخذ غصًا من النبات وأتى إلى هوث (هودر)، وسأله لماذا لا يرمي هودر، فأجابه لأنه لا يراه إضافة إلى أنه أعزل. أزَّ لوكي هودر على رمي أخيه ورماه بمعونته بغصن الهدال فقتله. أشاع موته بين الآيسر الحزن والأسى وبكوا عليه جميعًا وماتت زوجته، نانا، كمدًا عليه حين رأت جثمانه مسجّى على متن سفينة متجهة نحو مثواه الأخير في هيل (منزل الأموات وهيل اسم إلهة عالم الأموات). لم يهدأ بال الآلهة حتى أرسلت هيرمودر الجريء، ابن أودين، في إثر جثمان بالدر، ووصل إلى هيل وطلب منها أن تعيد بالدر إلى الحياة وتخرجه من الجحيم لكنها رفضت ذلك وشرطت على إعادته أن تنوح كل المخلوقات على بالدر حتى يخرج من الجحيم مجددًا. أخبر هيرمودر الآلهةَ بعد أن أسرع عائدًا إلى آسغارد، التي سرعان ما بعثت الرسل إلى كل أجزاء المعمورة لتطلب من المخلوقات أن تنوح على بالدر، وكان لها هذا باستثناء عملاقة اسمها ثوك، تسكن كهفًا، رفضت أن تنوح عليه وقالت: 

ستذري ثوكُ دمعًا بلا ماءْ 

على بالدر ورحلةِ الشقاءْ 

حيًا أو ميْتًا لم أحب يومًا ابنَ البخيلْ     

لتحتفظْ بالذي حصلتْ عليه السعيرْ

هكذا تنتهي قصة إله بالدر الذي لا يعود إلى الحياة إلا بعد معركة نهاية العالم راجناروك، ومما يهمنا من هذه الحكاية عدم أذية كل ما موجود على الأرض لبالدر بعد أن أخذت أمه فريج من كل الأشياء عهدًا بألا تؤذيه، وأرى في هذه القصة البذرة في فكرة الاستحمام بدم التنين الذي أكسبت دماؤه سيغفريدَ مناعة وحصانة وصلابة لا يخترقها أي سلاح عدا ذلك الموضع من في عظم كتف سيغفريد الأيسر، بسبب سقوط ورقة شجر عليه أثناء استحمامه بدم التنين منعت من إكسابه الحصانة الكاملة، ليكون هذا الموضع نقطة ضعفه الوحيدة. تأخذنا هذه الحكاية إلى آخيل وعقبه الأيسر حين لم يصل إليه الماء عندما غسلته أمه، ثيتيس، بماء نهر ستيكس، عندما علمت أنَّ ابنها سيموت شابًا فغسلته بماء نهر ستيكس من أجل حمايته لكن يخيب مسعاها إذ يُقتل آخيل في حرب طروادة بسهم باريس الطرواديّ بمعونة الإله أبولو الذي أخبره بخبر عقبه. تبدو هذه القصة ممكنة التأثير في الشاعر في حالة ثبت وصولها إليه، لكني لا أميل إلى هذا لسببين الأول هو القرب المكاني والزمني والتشارك الثقافي والديني ما بين الأساطير الإسكندنافية والجرمانيين الذين ينتمي إليهم الشاعر، والآخر هو في حبكة موت بالدر وسيغفريد:

– يموت بالدر بعد أن حاولتْ أمه حمايته وأخذت العهد من كل الموجودات على الأرض بعدم أذيته. وهذا ما حدث تماما مع سيغفريد إذ يموت بعد أن حاولت زوجته كريمهيلد، متطوعةً دون استشارته أو العودة إليه، حمايته من الموت. 

– يأتي موت بالدر بسبب أمه التي أفشت السر للمرأة التي سألتها إن كانت أخذت العهد من جميع الموجودات على الأرض، فتخبرها بسر نبات الهدال الذي لم تأخذ العهد منه وسمع ذلك لوكي واستغله في قتل بالدر. تتشابه القصة مع كريمهيلد حين تُخبر هاغن بسر الموضع في عظم كتف سيغفريد الأيسر وكيف أنه لم تصل دماء التنين عندما استحمَّ بها سيغفريد. ونتجَ موت الاثنين بسبب إفشاء سرٍ لا يجب أن يُفشى لأي أحد. 

– يُقتل بالدر على يد أخيه الأعمى هوث، لكن هذا الأخير لم يكن ليُقتل بالدر لولا معرفة لوكي بالسر، ولوكي هو من الآلهة الآيسر الذين ينتمي إليهم بالدر، كما أنه أخو أودين، والد بالدر، بالعهد والولاء لا النسب، فهو من الناحيتين قريب بالدر، وموت بالدر جاء بسبب أقاربه، أمه ولوكي وأخيه هوث. في حين يُقتل سيغفريد على يد هاغن البرغندي، تابع غونتر، أخي كريمهيلد، زوجة سيغفريد، فموت سيغفريد هو الآخر جاء على يد أقاربه. 

– ما يستبعدُ قصة موت آخيل من التأثير في قصة موت سيغفريد هو أنَّ آخيل قُتل على يد عدوٍ واضح العداوة كان يحاربهم، ولم يقتل آخيل إلا بعد أن ساعد الإله أبولو باريسَ وأرشده إلى نقطة ضعف آخيل، وهذا لا يتشابه مع موت سيغفريد. 

– إنَّ موت بالدر كان بداية نهاية العالم والسابقة لمعركة الراجناروك التي يموت فيها أغلب الآلهة، كما هو تأثير موت سيغفريد الذي فتحَ صفحة جديدة من الملحمة هيَّأت نهاية البرغنديين على يد أختهم كريمهيلد. قد يتشابه هنا أن نهاية الطرواديين أتت عقب قتلهم آخيل كما حدث للبرغنديين لكن المثال الآخر التالي يدعم استبعاد قصة آخيل من التأثير ويُبقي تأثير الأساطير الإسكندنافية.   

المثال الآخر متعلق بفالهالا ومعركة راجناروك. فالهالا قاعة في آسغارد يجمع فيها أودين، كبير آلهة الإسكندنافية وهو بمقام زيوس في الميثولوجيا الإغريقية، الشجعانَ الذي يسقطون في المعارك وترفعهم إلى السماء محارباتُه الفالكيريات اللائي يطفن على سوح الوغى بعد أن يخمد وطيس المعارك فيخترن القتلى الشجعان، لذا فكلمة الفالكيريات تعني “مُختارت القتلى”، وبعد أن يرفعنهم إلى السماء يجتمعون مع أودين في فالهالا في انتظار معركة راجناروك، التي تدور ما بين فريقين، أودين وآلهة الآيسر والشجعان المختارون، وبين العمالقة ولوكي والموتى والذئب فينرير والثعبان ميثغارثسورم وآلهة أخرى. تنتهي المعركة بموت عديد الآلهة والذئب والثعبان ثم يحترق العالم بأجمعه ويعود الكون هوَّة من الفراغ قبل أن ترتفع الأرض من الماء مجددًا ويعود بعض الآلهة بما فيهم بالدر وهوث إلى الحياة، وهكذا تبدأ سيرة الحياة مجددًا. ينتهي نشيد النبيلونغ بمعركة قاعة قصر ملك هنغاريا، إتزل، فتتقاتل جحافل الفرسان الهنغاريين والبرغنديين فيما بينها، ليدور كأس الردى والموت الزؤام على الأبطال واحدًا تلو آخر، في معركة ملحمية قطفت الرؤوس الرفيعة رأسا إثر رأس وجندَّلت الأجساد العظيمة جسدًا تلو آخر في نزالات ومواجهات فردية وجماعية أبانت عن شجاعة الفرسان وإقدامهم ومدى عظَّمتهم التي أُشيدَ بذاك التصوير الملحميّ لبطولتهم وبسالتهم التي قلَّ نظيرها. 

يمكننا إيجاد التقارب بين صورة فالهالا موطن الشجعان في ضيافة أودين وبين قاعة القصر ورمزيتها إلى فالهالا بالفرسان المجتمعين فيها للاحتفال والأكل والشرب، ثم في تجمعهم فيها للقتال، وكأن قتالهم في فالهالا الأرضية هو تحضيرٌ لينتقلوا بعد موتهم إلى فالهالا السماويّة. فالقتال الذي تدور رحاه بين الهنغاريين والبرغنديين في قاعة القصر إشارةٌ لا يُغفل عنها إلى معركة راجناروك وموت الآلهة. الفرسان هنا في مقام الآلهة المتقاتلة فيما بينها ورمزٌ لهم، وليس الجوهر في أن نعرف من الفارس الذي يرمز إلى ذاك الإله أو أي فريق يمثِّل هذا الطرف في معركة راجناروك، لأن الغاية من المعركة هو نهاية عصر زماني وبداية عصر آخر، وموت الفرسان وأبطال الملحمة جميعًا هو نهاية حقبة وعالم فروسيّ تغنَّت به الملحمة طوال فصولها ونهايتها بموت فرسانها وتلاشي عالمهم. 

لا تصبغُ الملحمة الصبغة الوثنية على فرسانها المسيحيين على الرغم من التشابه أو التأثر بالقصص الوثنية الأسطورية للشعوب الإسكندنافية، لكنها لا تشنِّع على الديانة الوثنية، ويغيب على نحوٍ ما أي مفهوم ديني أو فضائل دينية يتمتع بها الفرسان، فمعتقدهم هو الفروسية وما يتربط بها من سلوكيات وأخلاق ومواثيق. وبهذا يُجرِّد الشاعرَ ملحمته من أي توجهات عقائدية يمكن أن تُفهم على هذا النحو أو ذاك مع أنَّه ذُكرت بعض الطقوس المسيحية، وهي ليست غالبة أو مؤثرة أو حاضرة على نحوٍ بارز، ويُرجّح التأثر بالمعتقد الوثني الإسكندنافي اهتمامًا بهذه الأساطير الشعبية ومدى شيوعها وأثرها في فكر الشاعر الذي نظم الملحمة.             

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى