مُثُلٌ عُليا 


حجم الخط-+=

قُبحت من شعب أردت لكَ الحياة، وأردت لي الموت” أحمد الثلايا/ 1955

في التاسعة مساء سُمع طرقٌ عنيف على الباب في شقة الطبيب خالد، هرعت زوجته السيدة ليلى التي كانت تعد طعام العشاء لترى من يطرق بعنف في مثل هذا الوقت المتأخر، وقبل أن تصل تناهى إلى سمعها صرخات متوسلة وغير مفهومة بصوت نسائي. اقتربت لترى وكادت أن تفتح لكنها تراجعت فور أن اتضح لها الأمر، كان الطارق عجوزا تجاوزت السبعين من عمرها يتضِّح على هيئتها آثار فقر مدقع. توسلت العجوز بصوت يائس من خلف الباب للسيدة أن تنادي زوجها الطبيب المعروف بإحسانه ليرى ابنتها الشابة التي اشتد مرضها، لكن السيدة ليلى رفضت وأجابت: الطبيب ليس هنا! غادر المنزل منذ الصباح ولم يعد حتى اللحظة. 

ردت العجوز وقد تهدج صوتها: إذا عاد فأخبريه عن ابنتي، منزلنا قريب من هنا، خلف حيّكم مباشرة. أتوسل اليك يا سيدتي أن تخبريه عنها تصوري أنها ابنتك وتعاني أمامك ولا تستطيعين فعل شيء لها ارجوك! 

قالت السيدة: حاضر سأخبره لا تقلقي! 

قالت ذلك واستدارت راجعة لتكمل اعداد الطعام بهدوء!
خرج الطبيب المقصود لتوه من الحمام والماء لا يزال يقطر من جسده العاري، كان ضخماً وبديناً برأس عريض، يعلو فمه شارب كثيف ولحية متوسطة الطول زادت مظهره مهابة ورصانة.

طلب من زوجته أن تحضر له منشفة وسألها: ما كل هذه الجلبة؟ من الذي طرق الباب بعنف هكذا؟

ردت: إنها متسولة أرادت أن أعط..، قفز الابن الأصغر مجيباً والده: امرأة كانت تبكي وتريد أن تقابلك يا أبي.

امتقع وجه الطبيب وقال بصوت أكثر حدة: لماذا تكذبين؟ ماذا تظنين أنك فاعلة؟ كم مرة علي أن أحذرك من مغبة تدخلك بمرضاي!

أسقطت المنشفة من يدها، وأجابت وقد ارتفع صوتها: لم أعد احتمل! قررت بأني سأضع حداً لهذا الأمر بنفسي بعد أن يأستُ منك! ما زلت غارقا بأوهامك الطيبة وتخدع نفسك منذ سنوات يا عزيزي! لن تكون ذلك البطل المُضّحي، أنا وصغارك المساكين أهم من كل أولئك الناس الذين تتفانى في خدمتهم المجانية. لن تجلب لنا تلك الدموع والدعوات ما سنأكله غداً. ولن تصنع لأولادنا مستقبلا يليق بهم. فكر بهذا ولو مرة. أرجوك.. ضع حداً لهذه المعاناة!
لم يكن لدى الزوج ما يرد به عليها فلقد تكرر هذا النقاش العقيم مرات لا تحصى ولم يخرجوا بحل يرضي كليهما. 

دائما ما حلم وهو في باكورة شبابه بامرأة تشاركه ذلك الظمأ البطولي للتضحية، وذلك التوق الذي لا يهدأ للتفاني في خدمة الناس وانتشال البؤس عنهم. كل تلك الأفكار المثالية عن العطاء والتضحية كانت تجلب له العزاء، وتريح رأسه المثقل وضميره المعذب بعذابات لا معنى لها. كان يرى أن خلاص الروح لا يتحقق إلا بتخليص الناس من شقائهم، وراوده إحساس دائم بأنه وُلد ليحدث فرقاً في هذا البلد البائس، وأنه لا يجب أن يقف أحد في طريقه هذا حتى ولو كانت عائلته. لكم كان في كل تلك الأفكار التي لا يختلف أحد في نُبلها من أنانية خفية. ولكن الأفكار النبيلة قد تُعمي صاحبها أحياناً.
التقط منشفته وعاد غاضباً إلى غرفته في حين استمرتْ بتوبيخه ولم يُشفَ غليلها بعد. كان صراخها يزداد حدة وهو يبتعد بخطواته عنها.

أخيراً بعد أن أفرغت كل ما في جعبتها وضعت أطباق العشاء على الطاولة ليتناولها الأطفال، وأسرعت إلى غرفة أطفالها وارتمت على السرير مطلقة العنان لدموعها. عادت بذاكرتها الى حين كانت شابة غضة وجميلة، تقدم كثيرون لخطبتها، وكان جوابها الرفض دائماً الى أن جاء ذلك الطبيب الشاب بقامته الممشوقة -قبل أن يصبح بدينا كما هو الآن- وافقت عليه فرحة جذلى، سوف تناديها النسوة بعد الآن بلقب زوجة الطبيب حيث حلت، تراءت لها حينها حياة حافلة بالمسرات والزهو. لكنها الآن تعض أصابع الندم. لو أنها ارتضت بأي واحد من اولئك الرجال العاديين لعاشت كما تعيش قريناتها الآن، يغدقُ أزواجهن عليهن الأموال من أي مصدرٍ كان، ولا تشغل رؤوسهم أي أفكار بائسة وعقيمة كما تشغل رأس زوجها. 

مرت الأيام والشهور سِراعاً ولم يطرأ أي جديد، العائلة ماضية في التعايش مع بؤسها والصراع ذاته بين الزوجين لا يخبو أواره ولا يهدأ. في أحد أيام الصيف الحارة ارتدى الطبيب ملابسه وانطلق إلى عمله صباحاً كعادته، وفور وصوله الى المشفى سُمعت أصوات صخب وتهديد، تجاهلها، واتجه مباشرة إلى مكتبه ليباشر عمله، جلس عند الطاولة وراح يراجع تقارير المرضى قبل ان يقوم بجولته المعتادة على غرفهم. فجأة فُتح الباب بعنف. ودخل رجل بقامة نحيلة وعينين محمرّتين ممسكاً بيده خنجراً صغيراً، حدج بنظرات خاطفة كلَّ ما في الغرفة، ثم انقض على الطبيب الجالس فوق كرسيه، لم يدرك بعد ما الذي يحدث، وسدد إليه خمس طعنات غادرة، سقط الطبيب صريعاً على إثرها. فرَّ الرجل مسرعا تاركاً الطبيب المُحسن مضرجاً بدمائه، ينازع النفس الأخير.
كان القاتل ابناً لمريض يشرف الطبيب المغدور على معالجته -توفي المريض قبل تنفيذ الجريمة بيوم-  والسببُ الذي دفعه لارتكاب جريمته على حد قوله تهاونُ الطبيب وتقصيره في علاج والده! 

كُشفَ عن ملابسات الجريمة كاملة بعد يومين من حدوثها. شيعت الجنازة في اليوم الثالث، وقد حضرها جمع غفير من المواطنين يكسو وجوههم الحزن لهذه الفاجعة، وها هم أولاء يشيعون طبيبهم والمُثل العليا معه إلى مثواهم الأخير.
تمتم رجل ممن ساروا بتشييعه لصاحبه بحسرة وألم واضحين: كان طبيباً عظيماً! لو أنه استغل ذكاءه لكان الآن صاحب منصب تسير كرشه قبله! ولكانت عائلته التعيسة تعيش في منزل محترم بدلا من تلك الشقة الصغيرة. لقد ضاعت العائلة الآن، ما من شك في ذلك.
رد صاحبه بغضب وبصوت مرتفع سمعه من حوله: يا رجل، ما هكذا تُقاس الأمور! الحقيقة أنه لا مكان للشرفاء هنا. أيُّ انحطاط وأي وحشية نعيشها، هل يسمى هذا وطن أو غابة؟ كلا! إنه زريبة حيوانات، زريبة حقيقية!   

فاطمة ياسر: قاصة من اليمن  

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى