ميشيل دي مونتين (1533-1592)

Great Thinkers


حجم الخط-+=

ترجمة: موسى جعفر

نحسبُ عمومًا أن على الفلاسفة الفخر بعقولهم الكبيرة، وحب التفكير والتأمل والتحليل المنطقي. لكن هناك فيلسوف ولد في فرنسا عام 1533 بمنهج فذ مختلف، إنه ميشيل دي مونتين. كان مونتين مفكرًا أمضى حياته التأليفية في انتقاد عنجهية المثقفين. وأثبت في كتابه وتحفته الأجمل «المحاولات» أنه ذكي وحكيم على الدوام، ومتواضع في ذات الوقت وحريص على فضح ذرائع التعلم. وهو طريف جدًا إضافة إلى ذلك، ونذكر قوله: «لا أهمية لمعرفة أننا قلنا أو فعلنا شيئًا غبيًا؛ يجب علينا تعلم درس أهم أشمل هو أننا جميعًا أغبياء… حتى على أعلى العروش مكانة في العالم، نحن نقعد على مؤخراتنا». ولا ننسى قوله: «الملوك والفلاسفة يتغوطون، والسيدات كذلك». كان مونتين طفل عصر النهضة، وقال من اشتهر في عصره من الفلاسفة القدماء إن مَلَكة المنطق التي لدينا يمكنها أن تقودنا إلى سعادة وسمو حرمت منها المخلوقات الأخرى. قال الفلاسفة أمثال شيشرون إن المنطق يُمكِّننا من السيطرة على عواطفنا وتهدئة مطالب أجسادنا الجامحة. لقد عُدَّ المنطق أداة معقدة شبه مقدسة تهبنا السيادة على نفسنا والعالم على حد سواء. لكن مونتين امتعض من توصيف المنطق البشري بهذا الشكل، وكتب بعد مخالطته الفلاسفة والأكاديميين: «من منظور عملي فإن آلاف النساء اليافعات عشن في قراهن حياة أثبت وأهدأ وألطف من شيشرون». لم تكن فكرته أن الكائنات البشرية لا تستطيع التفكير بمنطق على الإطلاق، بل تميل إلى العُجبِ الشديد بعقولها فحسب، وفي ذلك قال: «ترتكز حياتنا جزئيًا على الجنون، وجزئيًا على الحكمة. وكل من يكتب عنها يهمل أكثر من نصفها بداعي الاحترام والقواعد السائدة».

ولعل كفاح العيش بجسم بشري هو أوضح مثال على جنوننا؛ أجسامنا تتوجع وتترهل وتنبض وتخفق وتشيخ وتبعث الروائح. وقد كان مونتين أول من يتحدث بإسهاب عن الضعف الجنسي في العالم، وربما الفيلسوف الوحيد، لأن الضعف الجنسي بدا له مثالًا مهمًا عن وهن عقولنا وجنونها. كان لمونتين صديق أصابه الضعف الجنسي مع امرأة تروق له. لم يلم مونتين القضيب بل قال: «خلا العجز الجنسي الحقيقي، لن تعجز عن القيام بالأمر أبدًا ما دمت تستطيع فعله مرة»؛ إذ اعتقد أن المشكلة كانت في العقل، في الاعتقاد الظالم أن لنا مطلق السيطرة على أجسادنا، وفي الرعب من مغادرة الصورة المبالغ فيها التي رسمناها عن الحالة البشرية التقليدية. كان الحل في رأيه إعادة رسم الصورة، بتقبل أن خسارة السيطرة على القضيب عند الجماع هي احتمالية غير ضارة يمكن للمرء توقع حدوثها (كما اكتشف المصاب في النهاية). تعلَّم عندما يكون على السرير مع امرأة أن: «يقر سلفا بأنه معرض لهذا الضعف ويتحدث عنه بصراحة، لإزاحة الهم عن كاهله. وبفضل التفكير في المرض بأنه شيء مُتوقع، قل إحساسه بالانقباض وتأثيره السلبي عليه»؛ إن صراحة مونتين تسمح بانشراح صدر القارئ نفسه. 

يستطيع رجل فشل مع حبيبته وعجز عن تقديم شيء غير الهمس باعتذار أن يستجمع قواه ويهدئ روع محبوبته عبر تقبل أن عجزه ليس بالنادر جدًا ولا الفريد، بل ينتمي إلى مجال واسع من الحوادث الجنسية. عرف مونتين نبيلًا عجز عن إدامة الانتصاب مع امرأة، فما كان منه إلا الفرار إلى المنزل وقطع قضيبه وإرساله إلى السيدة «ليكفر عن ذنبه»! اقترح مونتين بدلًا من ذلك: حري بالأزواج عدم التسرع إن لم يكونوا مستعدين. الأفضل لهم انتظار اللحظة المناسبة عوضًا عن الوقوع في تعاسة أبدية سببها القنوط بفعل رفض أولي. يجدر برجل عانى رفضًا أن يجري مبادرات وفحوصات رقيقة بمباغتات مختلفة صغيرة؛ لا الاستمرار بعناد في إثبات عدم كفاءته! 

اتخذ مونتين في عمله من القضيب وإطلاق الريح والتغوّط مواضيعًا جدية للتفكر. فكتب للقراء على سبيل المثال إنه يحبذ الهدوء عندما يجلس في الحمام: «هذه أكثر فعالية طبيعية لا أتسامح مع مقاطعتها عن طيب خاطر». أوصى الفلاسفة القدماء بالاحتذاء بحيوات ناس محترمين معينين، عادة ما يكونون فلاسفة. ويجدر بالمرء في التقاليد المسيحية أن يقتدي في حياته بالسيد المسيح. جذابة هي فكرة الاقتداء؛ إنها تقترح أننا نحتاج إلى إيجاد مرشد يقودنا وينير دربنا. لكن من المهم جدًا نوع الصور الموجودة حولنا. فنحن سنضمِّن فينا ما نراه في الآخرين، لكننا لن نستطيع إبصار ما أبقوه سرًا وربما نختبره لكن بدرجة أقل. أما مونتين فهو شخصية مُجدِّدة لأنه يهبنا حياة تشابه حياتنا لكنها ملهمة جدًا؛ إنه قدوة بشرية بحق. 

كانت الأكاديمية آنذاك ذات هيبة كما اليوم؛ ومع أن مونتين كان باحثًا ممتازًا فقد كره الحذلقة العلمية. كان يرغب في تعلم المفيد وحسب، وانتقد الأكاديمية واستمرار كونها بعيدة عن الواقع بشدة، وقال: «إن كان الرجل حكيمًا فإنه سيقيّم أهمية الأشياء الحقيقية استنادً إلى فائدتها وملائمتها لحياته». لا شيء لا يجعلنا نشعر أفضل يستحق الفهم.  نبّه مونتين إلى الغطرسة والتحذلق العلمي في مجالات كثيرة وحاول باستمرار جعلنا نفكر بواقعية. فحكم دولة أو إدارة سفارة أو استغلال ثغرة للهجوم هي أعمال مميزة. لكن التوبيخ والضحك، والبيع والشراء، والحب والكره، والعيش معًا برفق وعدل مع سكان بيتك -ونفسك- دون إثقال نفسك أو تزييفها، لعمل أكثر تميّزًا وندرة وصعوبة! بغض النظر عمّا يقول الناس فإن هكذا حيوات منعزلة تتصدى لواجبات بذات صعوبة وكثافة الحيوات الأخرى في أقل تقدير. أيضًا فقد هزأ بالكتب صعبة القراءة؛ واعترف أنه يحسب أفلاطون مملًا وأكثر، وأنه أراد أن يستمتع بالكتب وحسب: «لست مستعدًا لتبريح دماغي لأي سبب كان، ولا حتى بغرض المعرفة مهما بلغت أهميتها. كل ما أرغب فيه من الكتب إسعاد نفسي بتسلية محترمة… إن صادفت فصولًا صعبة عند المطالعة فلن أصدع رأسي أبدًا، أنا سأحاول مرة واثنتين ثم أتركها… إن أرهقني كتاب ما فإني أقرأ غيره». ويمكن له أن يكون سليطًا مع الفلاسفة المبهمين: «الصعوبة عملة يسبكها المتعلمون لستر خواء دراساتهم، ويميل الغباء البشري إلى قبولها».

لاحظ مونتين أيضًا كيف جعلتنا الثقافة البحثية المُرهبة ندرس كتب الآخرين قبل دراسة عقولنا. مع هذا، وحسب تعبيره: «نحن أغنى مما نعتقد، وهذا يشمل كل واحد منا». فقد نستطيع جميعًا التوصل إلى أفكار حكيمة، ذلك إن توقفنا عن التفكير في أننا غير مناسبين للمهمة لأننا لا نعيش قبل ألفي سنة، ولا نهتم بمواضيع محاورات أفلاطون، وحياتنا اعتيادية كما نسميها. «تستطيع ربط كامل الفلسفة الأخلاقية بحياة خاصة مألوفة مثلما تربطها بحياة أغنى». ربما أراد مونتين من عرضه الكثير من المعلومات عن كم هي عادية حياته، برهنة كلامه هذا! ربما لذلك أخبرنا أنه لا يحب التفاح: «لست مولعًا بأي نوع من الفواكه خلا البطيخ».  وعلاقته بالفجل معقدة: «وجدت في البداية أن الفجل يتوافق معي، لكنه لم يتوافق بعد ذلك، والآن هو كذلك». ويمارس أكثر طرق صحة الأسنان تطورًا: «دائما ما كانت أسناني جيدة بإفراط، تعلمت منذ صغري فركها بمنديلي عند الاستيقاظ وقبل الأكل وبعده». وكان يأكل بسرعة «كثيرًا ما أعض لساني وأحيانًا أصابعي في أثناء تعجلي». ويحبذ مسح فمه «يمكنني تناول العشاء بسهولة دون غطاء طاولة، لكنني لا أشعر براحة كبيرة بغياب مناديل نظيفة… آسف على عدم اتباعنا النهج الذي ابتدأه ملوكنا، بتغيير المناديل كما الصحون مع كل طبق».

قد تبدو هذه أمورًا سخيفة لكنها مذكرات رمزية بوجود ذات مفكرة وراء كتابه، وأن فلسفة أخلاقية صدرت -وقد تصدر مجددًا- من رجل اعتيادي يأكل الفواكه. لذا لا داعي للإحباط إن لم نبدو -من الخارج- كأولئك الذين تأملوا في الماضي. في صورة مونتين المعاد رسمها للإنسان المقبول نصف العاقل، من الممكن ألا نتحدث الإغريقية ونطلق الريح، ويمكن للفرد أن يغير رأيه بعد الطعام، ويمل من الكتب ويضعف جنسيًا ولا يعرف أيًا من الفلاسفة القدامى. فحياة اعتيادية صالحة، نتشوق فيها إلى الحكمة ولا نبتعد كثيرًا عن الحماقة، لإنجاز مُرضٍ. ما زال مونتين الكاتب دون تكلف والمفكر الكبير الذي نستطيع معه أن نسخر من شتى أصناف المثقفين والذرائع. لقد كان نسمة التجديد التي هبت في أروقة أكاديمية القرن السادس عشر المختالة الساذجة المتقوقعة على نفسها. ولأن أكاديميات اليوم لم تتغير كثيرًا للأسف، ما زال مونتين يمثل إلهامًا وعزاءً لجميعنا نحن الذين نشعر بالاضطهاد من خيلاء وحذلقة «الأذكياء».

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى