موسوعة السرد العربي – د. عبد الله إبراهيم.

كتب 1-4


حجم الخط-+=

مؤمن الوزان

إنَّ موسوعة السرد العربي أحدث موسوعة أدبية عربية تبحث وتستقصي وتدرس الظاهرة السردية وأصول السرد العربي بأنواعه المختلفة سواءً في الأسطورة والخرافة أو القصة أو السيرة أو المقامة أو الرواية بأنواعها أو السيرة الذاتية، ومزيات كل نوع وخصائصه الأسلوبية واللغوية ومدى تأثرها بالحاضنة الثقافية والمرجعيات الدينية والفكرية المعاصرة لها. وهو عمل يمثل الإكليل الذي توج به الدكتور عبد الله إبراهيم جهود ربع قرن من البحث والدراسة والكتابة في موضوع السرد العربي كما في كتبه المتنوعة في هذا المجال، وصدرت الموسوعة عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016.  

في مقدمته لهذه الموسوعة، يشير الدكتور إلى خطأ عزل الظواهر الأدبية عن سياقاتها الثقافية التي تشترك فيها عناصر تاريخية وأدبية ودينية التي تتلازم مكونات الثقافات القديمة فيها وتتشابك عناصرها كما تكشف المدونة الثقافية العربية – الإسلامية عن ظاهرة التلازم لذا فيقول: “ينبغي أن نضع كل هذا الاعتبار قبل الانصراف إلى معالجة الظاهرة السردية؛ لأنها ظاهرة مشتبكة بخلفيات، ومرجعيات، وأصول، ولا نرى سبيلا لتعرّفها، وملامسة خصائصها، إلا إذا أُخذت تلك العلاقات مأخذ الجدية الكاملة. ولا يمكن مقاربة الأدب العربي بكامله، شعرا وسردا، إلا برؤية تربط الظاهرة النصية بالظاهرة الثقافية، وإلى غياب كل ذلك تعزى الإخفاقات الحاصلة في دراسة الأدب العربي، فكثير من الدراسات انطلقت من تحيزات مسبقة غايتها الفصل بين هاتين الظاهرتين المترابطتين مراعاة لأطروحات منهجية تقول بذلك الفصل. إذا كان مثل ذلك الفصل مفيدا في دراسة نص مفرد، أو ظاهرة فنية صغيرة، فهو بالقطع لن يكون مفيدا، أو صحيحا، في أية معالجة شاملة تهدف إلى تحليل الظواهر الأدبية الكبرى”.[1-ص6]. 

كان الكتاب الأول من الموسوعة توطئة للسرد والظاهرة السردية، إذ خصص الفصول الأربعة الأولى لدراسة قضايا السرد ومفاهيمه وانبثاق الأنواع السردية والتمثيل السردي في الأنواع الأدبية، ودور المركزية الدينية وتأثيراتها في السرد والكتابة عموما وما أضافته من سياقات جديدة ومعانٍ عززت دور الكتابة واكتسابها الصفة الدينية، إذ كان لكتابة حديث النبي في بدايتها داخل نواة المجتمع الإسلامي الأول صيت سيئ، كما تشير بعض الأحاديث النبوية في ذم الكتابة، والتي وضع أهل علم الحديث لبعض هذه الأحاديث مخارج توضح الأسباب والمقاصد، وذاكرين شواهد أخرى في كتابة الحديث في عهد النبي. كره الرعيل الأول من الصحابة كتابة الحديث بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأن يُعتمد في نقل الأحاديث على الحفظ فقط، إلا أن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ أصبحت الكتابة ضرورة ملحة بعد أن فَترت الهمم وخشي على الحديث من الضياع والنسيان، الأمر الذي دعمته الأسانيد التي لها الأهمية القصوى في معرفة صحة الحديث ودرجته. 

ويتبع بعدها بدايات نشوء السرد العربي في المراحل التي ترجع إلى القرون الميلادية الأولى. إذ أخذت ظاهرة القص والقصص شكلا أكثر وضوحا واتساقا بعد بعثة النبي وتأسس نواة الدولة الإسلامية التي امتدت حتى يومنا الحاضر، حيث أصبح للسرد العربي في وقت لاحق فنونا وأنواعا كان من أبرزها الرواية. وبعدِّ النثر سجلا للأمم والأمة العربية ليست بمنأى عن هذا، فقد قُدِّم في الكتاب مراجعات تاريخية عن حقيقة السرد العربي وعن أصول جذوره ومكانة النثر لدى العرب قديما، الأمر الذي يؤدي بنا إلى الفكرة الرئيسة التي يقدمها في موسوعته حول قِدم النثر وأهميته وكونه أسبق من الشعر. “وأن الشعر تطور عن صيغ سجعية، وتطورت هي الأخرى عن الكلام العادي، وهو الذي يخالف القول الشائع بين الدارسين حول أولية الشعر”. [1-ص185]. بتتبع متأنٍ يستقصي الأسس التي تطور منها السرد ورسمت الخطوط العريضة له في تراث الأمة العربية والإسلامية ولا سيما بعد شيوع التدوين في النصف الأول من القرن الثاني الهجرة، وما سبقها شيوع ظاهرة القصّاص أمثال وهب بن منبه، إذ كان للقُصّاص دور وعظي وديني مهمان في مراحلهم الأولى مع المكانة  الرفيعة للقص حتى انحدارها وازدرائها. فقد تقصّى ظاهرة القُصاص في التاريخ العربي لا سيما أنهم اتخذوا من المساجد أماكن لأداء هذه الوظيفة. وتبلورت ظاهرة القص والقصّاص بداية مع النبي الذي كان يقص على المسلمين من القرآن الكريم ما حدث للأمم الغابرة؛ بعد أن أنزل الله عليه القرآن، وقصَّ عليه القصص، إذ يقول تعالى “نحن نقص عليك أحسن القصص”. من هنا يبدأ القص بصورته التي أوطِّرت لخدمة الدين وتذكير الناس، وما آلت إليه بعد ذلك هذه الوظيفة من انحراف منهج القُصّاص والنظرة الدونية التي أُنيطت بهم، إذ أصبحت أحاديثهم مليئة بالكذب والابتداع بعيدا عن الغاية التي أُريد لهم أن يتّبعوها، فرفضوا لانحراف منهجهم في القص وأُبعدوا عن المساجد وانتقلوا إلى الأسواق والساحات، وأماكن تجمع الناس. هكذا كان للسرد تطوره وأهميته مع القص في إنتاج مرويات سردية شكلت مادة السرد العربي القديمة ونواة مادته الحديثة فيما بعد.

**

الكتاب الثاني من الموسوعة، إكمال لانطلاقة السرد العربي في مساره التصاعدي، وتنوعه، والذي ابتدأ الكتاب فيه بالحديث عن الخرافة وحديث الخرافة، وفيه تتبع لأولى أحاديث الخرافة، أو القصة المعروفة بـ”حديث الخرافة” وهي قصة رجل اسمه خرافة اختطفته أو أَسَرَته أو كانت له علاقات مع الجن وأُخبر بقصص عجيبة غريبة، ويحلل الدكتور عبد الله إبراهيم في فصل الكتاب الأول أصل الحكاية وسندها إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أو زوجه عائشة (رضي الله عنها) والاختلاف الدائر حول أصلها، فيما يكشف الفصل الثاني -وهو الأسلوب الذي اتبعه إبراهيم عبد الله في كتابه الثاني- عن نسيج البنية السردية للخرافة، ومن أمثلة الخرافة الأخرى كانت كتابي كليلة ودمنة وحكايات ألف ليلة وليلة، والتي توزع الحديث فيهما عن أصولهما، والحكاية الإطارية- وهي حكاية تضم عدة حكايات ليس بينهما رابط-. يعد ابن المقفع أول من كتب واستخدم هذا الأسلوب (الحكاية الإطارية) عند ترجمته لكتاب كليلة ودمنة الذي تأثرت به الآداب العالمية كما في الأدب الإنجليزي والإسباني والإيطالي كما في حكايات كانتربري والتربية الكهنوتية والديكاميرون على التوالي، ونقلت نسخة ابن المقفع المترجمة إلى اللغة السنسكريتية- اللغة الأصلية للكتاب- بعد أن اختفى الأصل، والنسخة السنسكريتية الحالية هي مترجمة عن نسخة ابن المقفع. تنوع الحديث عن حكاية ألف ليلة وليلة وعن مصادرها والاختلاف حول هذه المصادر، ومستويات السرد وتنوع الساردين، وأحداث القصة التي انتهت بشفاء شهريار من مرضه شكه بالنساء بعد خيانة زوجته له، ونجاة شهرزاد من الموت بعد أن أسرت الملك وسلبت لبه بحكاياتها التي امتدت لألف ليلة. الفصل الثالث من الكتاب وتطور السرد العربي هو ما تمثل بالسير والتي ابتدأت بسيرة النبي لابن إسحاق التي أعاد كتابتها مع التشذيب ابن هشام، والسير الشعبية الشهيرة التي ظهرت فيما بعد والتي كانت امتدادا للسيرة النبوية، ولها صلة وثيقة بعادات العرب وثقافاتهم كما يذهب بعض آخر، لا سيما في مركزية البطل الذي يحارب الأعداء وينتصر عليهم، وكذلك تأثرها بالإسلام، حيث يسعى البطل لمحاربة الكفر وتطهيرها من الرجس، ويقول بعض الباحثين بأن الأبطال يحاربون الكفر وتمهيد الأرض لخروج النبي، وهنا يبدر لنا سؤال مهم، ما دور النبي إذن، إذا كان هؤلاء الأبطال يحاربون الكفر وأهله بجيوش جرارة؟ على أي حال، يبقى دور السير الشعبية، مثل سيرة الأميرة ذات الهمة، وعنترة بن شداد العبسي، وسيرة بني هلال، والظاهر بيبرس، وسيرة سيف بن ذي يزن، من السير الشعبية المهمة، والتي مثلت المخيلة الشعبية العربية. والفصل الرابع، هو دراسة في نسيج البنية السردية للسيرة الشعبية، وبحث تحليلي نقدي حول التشابه في بنية السيرة وأحداثها وأبطالها. 

الفصل الخامس من الكتاب، شمل نوعا مهما من السر السرد العربي القديم هو المقامة العربية، والتي ابتدأت على محو مميز كما يشير الكاتب مع بديع الزمان الهمذاني، يؤكد د. عبد الله على أهمية التفريق بين البداية الزمانية والبداية الإبداعية التي أعطت للمقامة مكانتها والتي كانت انطلاقتها الفعلية مع بديع الزمان ومقامته الهمذانية. وبلغت قمتها مع الحريري ومقامته. أما النسيج وبنية المقامة، وعلاقة الراوي مع المروي والمروي له، والبطل الراوي والراوي المجهول، والبُنية السردية للمقامة فكانت هي حصة الفصل الختامي من هذا الكتاب. 

*****

الكتاب الثالث من الموسوعة، خُصِّصَ للموروث العربي السردي المتمثل بعلاقته مع الآخر (دينيا/ ثقافيا/ عرقيا/ اجتماعيا)، وتمثلت هذه العلاقة عبر مشاهدات دوّنها الرحالة، أو عبر ما وصل إلى العرب من أخبار مسموعة ومرويات شفوية أسست خلفيات مرجعية وفكرية عن هذا الآخر (طبع على سمته في الغالب الانتقاص والازدراء كما يرجح الدكتور ويميل إلى هذا الرأي). وبدأت العلاقة مع الآخر مكانيا عبر تقسيم الأرض إلى دار إسلام ودار حرب، مع الاختلاف حول وجود دار الصلح أو دار العهد، ونظرًا لتوسع دول الخلافة الإسلامية، وازدياد رقعة الأراضي التي بسط المسلمون يدهم عليها وفتحوها ونشروا الدين الجديد، وحملوا الرسالة، فقد تعرفوا إلى ثقافات ولغات وأعراق جديدة، كانت لها الدور الكبير، في تشيئ وتطعيم الفكر والثقافة العربية، وفتح آفاق جديدة لم تكن سابقا، وقد كانت السفارات والرسل إلى خارج ديار الإسلام هي الأولى التي من خلالها تأطرت هذه العلاقة مع الآخر/ الكافر أو الوثني أو أهل الكتب السماوية ونقلها إلى الكتب السردية، وتحولها إلى سرديات تطورت عبر الزمن، ومثلت حلقة في سلسلة تطور السرد العربي. وكانت أولى الرحلات المدونة هي رسالة ابن فضلان، وسفارته بأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، في القرن الرابع الهجري سنة ٣٠٩ هـ. وهذه الرحلة تعد أول رحلة تدوين ومشاهدة طبيعية قام بها رحالة عربي مسلم، وتعد كذلك أول رحلة سردية مدونة عن قبائل الفايكنج النورماندية، ولها يرجع الفضل في ذكر عادات هذه القبائل كما تجمع على هذا الأمر المصادر في الغرب والشرق، ورحلة ابن فضلان التي امتدت سنة كاملة ذهابا، والمرجح هي ذات المدة إيابا، ودوَّن رحلة الذهاب، في مهمة وعظية إلى الصقالبة، بعد أن طلب زعيمهم من يعلمهم أمر دينهم، وبعد رحلة امتدت من بغداد ومرورا بفارس وخوارزم وبلاد الترك وصولا إلى جنوب روسيا، دون ابن فضلان مشاهداته عبر هذه الرحلة، ووصف عادات القوم واقتصر على الغريب العجيب أو المنكر الفظيع من مشاهداته لهذه الأقوام، وبالرغم من فشل الرحلة في تأدية المهمة المناطة بها، فإن هذا لم يمنع ابن فضلان من التدوين، ولا سيما فيما يخص قبائل الفايكنج وعاداتهم وهي أكثر من لفت انتباه ابن فضلان. وعودة ابن فضلان بعدها إلى بغداد. رحلة ابن فضلان تدون مرحلة الذهاب، لكن الإياب يبقى مفقودا، والرحلة غير مكتملة، والجزء الذي بقي منها وسَلِمَ بقي ناقصا، لأسباب لم تعرف بالتحديد والضبط ما هي، إلا أن د. عبد الله إبراهيم يرجح أنها أُهملت نظرًا لأنها جاءت بصورة غربية عن الآخر لم تكن مألوفة أو مطابقة لما تُخيّل عن الآخر البعيد في دار الحرب، مما جعل اهتمام المؤرخين والعلماء العرب معدوما، ومن اهتم بها، قام باقتطاع أجزاء من النص تخدم أفكاره ورؤاه. وفي كل الأحوال تبقى رحل ابن فضلان أولى المشاهدات المدونة التي افتتحت أدب الرحلات العربية التي امتدت لقرون بعدها بلغت أوجها مع ابن بطوطة. توزعت مرحلة التدوين اللاحقة في جهات مختلفة هي: أقصى الشرق في آسيا وصولا إلى الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا، والجنوب الإفريقي، وأوروبا والقسطنطينية. كانت الرحلات إلى الشرق والتعرف على أقوام وعادات جديدة، بجيدها وسيئها بعجيبها وغريبها غير المألوف لدى الرحالة العرب والمسلمين مثار اهتمام هؤلاء الرحالة، فركزوا على تدوين ما شاهدوه، ولم يكتفوا بذكر عادات هؤلاء القوم وثقافاتهم وأنظمتهم الاجتماعية أو السياسية أو التنظيمية أو العقوبات، والعقائد، والطقوس، والنساء، والطعام، والثياب، والصناعة، والحيوانات، وأعجب الرحالة ببعض مدن الصين والهند وما وجوده في هذه المدن من نظام وعدل بين الرعية، وقوانين تحمي المواطنين، وعقوبات قاسية وصارمة تجاه المخالفين. وكانت أقاصي الشرق هي وجهة كثير من الرحالة، ليدونوا مشاهداتهم ويتعرفوا في رحلاتهم على غريب الأحداث والعادات. الوجهة الآخرى كانت إفريقيا ويأخذ الآخر الإفريقي، سمات كثير منها غريب وعجيب يدخل في باب النقص والازدراء، والبعد عن الواقع الإنساني والحضاري، وهذا رأي امتد منذ اليونانين ونظرية الكيوف (التأثر والتغيير حسب الأنواء الجوية) حتى القرن التاسع عشر، كما ترد أقوال مشابهة عن تخلف الأفارقة وانعدام الواعز الأخلاقي والبشري على لسان الفيلسوف الألماني هيجل، وأورد الرحالة العرب كذلك آراءً مشابهة سواء من مرجعيات أخبارية سابقة أو مشاهدات، حيث يتسم الإفريقي الذي يعيش في قلب وجنوب القارة الأفريقية بصفات غريبة مثلما قد أُشيع عن بعض القبائل أكلها للحوم البشر، والعري، وانعدام نظام اجتماعي أو أخلاقي. اتجهت الرحلات بعد ذلك نحو أوربا وإن مستوى أقل، ونحو القسطنطينية وقت أن كانت تحت سيطرة البيزنطيين وبعد أن فتحها المسلمون، ومن هذه الرحلات رحلة هارون بن يحيى وابن بطوطة ومحمد رشيد رضا. ويعد ابن بطوطة أكثر الرحالة العرب شهرة، حيث زار ودوّن مشاهداته في عديد البلدان شرقا وغربا وجنوبا. ويؤكد د. عبد الله إبراهيم في تحليله وعرضه لهذه المرويات السردية، أن أغلب الرحالة تأثروا وكانوا حبيسي مرجعيات سابقة تؤكد انتقاص وازدراء الآخر، الأمر الذي دفعهم إلى تصوير غريب ما شاهدوه بصورة ناجمة ومتأثرة بفوقية أخلاقية واجتماعية وفكرية ودينية، ويبقى الأخذ بهذا الرأي يحتاج إلى تفصيل وتحليل، دون التسليم به مطلقا، فما ذكره عديد الرحالة من الشواهد شملت آسيا وأوروبا وأفريقيا، ودونوه  بسيئه وجيده، لا يجب أن يوضع  في خانة واحدة، أو حسب ما حكموا عليه من عجيب وغريب العادات أنها ناجمة عن انتقاص وازدراء، كون بعض ما شُوهِد لا يقبله الحس السليم ولا الذائقة الإنسانية ولا الفطرة البشرية، وإن تأثر بعضهم بمرجعيات ثقافية وفكرية ودينية، فهذا ليس بالضرورة أن ما شاهدوه يستحق أن يُتقبّل أو يُذكر وصفه دون تهويل أو نقل مجرد من إبداء الرأي. وقد أردفت نهايات بعض فصول الكتاب مقاطع كاملة من مشاهدات هذه الرحلات، سواء رحلة ابن فضلان أو رحلات ابن بطوطة.

****

يكاد الكتاب الرابع من الموسوعة يكون أهم كتب هذه الموسوعة، نظرًا لكونه يُقدم مرحلة مهمة في تاريخ النثر العربي، ومحطات المخاض الأولى التي كان لها التأثير الأكبر والرئيس في إنجاب الرواية العربية بشكلها الحديث والمتعارف عليه اليوم، لكن هذا الإنجاب مرَّ بمراحل متعسرة من تأثر وتفكك وإعادة صياغة، خاصة في عند العرب الذين تعلّق وارتبط الأدباء عندهم بالآداب القديمة، وما كان لهذه الآداب من مكانة أخذت من الموروث الديني كثير الهيبة والمثالية والكمال الذي لا يجب تجاوزه أو الانقلاب عليه. يبدأ هذا الكتاب من الموسوعة في طرح قضية مهمة حول تأثير الحملة الفرنسية التي قادها نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر في تطور الأدب العربي، وما مدى حقيقة إضافتها إلى الجانب الأدبي والاجتماعي العربي عموما والمصري خصوصا، ويتكشّف لنا من خلال أطروحة وشروحات وتحليلات د. عبد الله إبراهيم كذب هذه الإشاعات التي ربطت مرحلة التحديث العربي الأدبي الجديد بالحملة الفرنسية، التي سرعان ما انتهت بهزيمة الجيش الفرنسي، وفشل مخططات نابليون التوسعية، وكما تشير مذكرات بعض المشاركين في الحملة فإن الحملة عادت بربع عدد الجنود الذين أتوا، إضافة لمقتل الجنرال كيلبر على يد سليمان الحلبي. بل إن الحملة شهدت فظائع تمثلت بسرقة الآثار الفرعونية والتي توزعت الأسباب بعدم معرفة محمد علي بقيمتها وتوزيعها هدايا ومِنحًا إلى الفرنسيين والبريطانيين، وما قام به شامبليون من فك رموز اللغة الهيرغوليفية وتبيّن مدى أهمية وقيمة هذه الكنوز التي بقيت آلاف السنين تحت أرض مصر، كل هذا مع انعدام أي إضافة ثقافية أو أدبية، أظهرت حقيقة الحملة الفرنسية وأكدت على مدى ضعف وهوان إشاعة التأثير الفرنسي على الأدب العربي. 

في القرن التاسع عشر بدأت مرحلة جديدة في تفكك المرويات السردية وتطور اللغة العربية، والابتعاد عن الأساليب اللغوية القديمة المتمثلة بالسجع والبديع وكثرة الاستعارات والزخارف اللفظية والترصيع، مع بدء النفور من هذه الأساليب التي ظهرت بأنها غير مناسبة لهذه الحقبة الجديدة من الحياة، فكانت الحاجة الملحة لظهور أنواع جديدة، انتهى الأمر بالنثر العربي في القرن التاسع عشر بفرز أسلوبين في النثر العربي لكل منه مرجعياته وسياقاته الثقافية وارتباطاته بالموروث الأدبي الأول مثّل نموذج التعبير اللغوي المفتوح الشفوي، والآخر نموذج التعبير اللغوي المغلق النثري. وكذلك تغيرت النظرة إلى المقامات كمقامات الحريري التي كان يُنظر لها فيما خلا من العصور بالكِبر والإعجاب وحسن الصنعة، من خلال فقدانها لقيمتها اللغوية والإبداعية وعدم توافقها مع حاجيات العصر، وبذلك فقدت قيمتها ومكانتها الريادية لأنواع جديدة أخرى. ومع شيوع الصحافة وحركات التعريب، يؤكد د. عبد الله إبراهيم أن القرن التاسع عشر شهد أفول المرويات السردية القديمة وبداية الإعلان عن عصر السرد العربي الحديث.

القسم الثالث من هذا الكتاب اختص بحركة التعريب ومحاكات المرويات السردية الأجنبية، إذ مثلت مرحلة التعريب مرحلة مهمة من تلقيح الثقافة العربية والأدب العربي بالمرويات والآداب الغربية، رغم التركيز على الكتب العلمية والسياسية والعسكرية التي تصب في مصلحة الدولة وإدارتها للبلاد، وبدأت حركة التعريب مع الطهطاوي ومدرسة الألسن للتعريب، و يقول عنها الطهطاوي إنه عمل على تخريج عدد من المعربين الذي يشهد لهم بالمكانة والاقتدار. لكن التعريب قد اتخذ مسارا خاصا به تمثل في إخضاع المرويات السردية الأجنبية للثقافة العربية السائدة وقتئذ سواء من ناحية الأحداث أو أسماء الشخصيات أو تغيير ما يلزم تغييره ليوافق الذائقة السائدة، مع تضمين لآيات من الذكر الحكيم أو أبيات شعرية أو أمثال عربية، كل هذا يؤكد أن ما قام به المعربون يمثل مسخ للنصوص المعربة مع غياب لأسماء مؤلفيها الأصليين، مما يجعلها تشويه وتخريب لهذه النصوص على أيدي الكثير ممن اشتغلوا بالتعريب. 

ولحقت مرحلة التعريب مرحلة هي الأهم تمثلت في الكتابة الروائية، ويناقش الفصل الخاص بإعادة تركيب سياق الريادة الروائية الآراء المتعلقة بكون الرواية ظهرت نتيجة التأثير أم هي نتيجة تلاقح وتمثل ثمرة التقاء الأدب العربي بنظيره الغربي. قبل الخوض في هذه الآراء كان لا بد للكاتب من العودة إلى الانطلاقة الأولى التي ساهمت في ظهور الرواية والتي تمثلت بهجرة الشوام إلى مصر وما أضافوه وقدموه للأدب العربي في مصر وما كان لهم من مكانة ريادية في بيئة خصبة ونهمة ومستعدة لاستقبال الجديد، بحكم ارتباطات واختلاط الشوام بالفرنسيين والغرب وتعلمهم اللغات الأجنبية وقربهم من السلطة الحاكمة في مصر. ويبدأ بعدها د. عبد الله إبراهيم في مناقشة آراء الطرفين بين من يقول بأصالة الرواية العربية وصعوبة نشوء فن نثري/ سردي أدبي كالرواية بدون أصول تساعده وتشد من أزره وتقوّي عوده حتى النضج، ومن يقول بأن الرواية هي غربية بحتة انتقلت إلى الأدب العربي وأن الأدب العربي لم يعرف فن الرواية مسبقا وبعضهم من نفى عن العرب القصة نفيا قاطعا، تبدو هذه الآراء المتضاربة بحاجة إلى النقد والتحليل، وهذا ما قام به الدكتور، بالرغم من أسلوبه في الطرح والتحليل والنقد لما ورد من أقوال فإنه لا يكشف عن فريق يُناصره بوضوح، لكن مما يُستقرأ من متن كلامه أنه يقول بقول إن للعرب فن نثري قصصي، وكان للرواية جذورها في الأدب العربي مع صعوبة واستحالة نشوء فن روائي دون أن تكون له جذوره وبيئة ثقافية وأدبية ترعى نشوء هكذا نوع أدبي، وما يقوي هذا القول إن الرواية الحديثة بدأت في القرن السابع عشر مع رواية دون كيخوته لثربانتس الإسباني، في ذات الوقت الذي لا يوافق جميع النقاد على هذا ويعدون رواية باميلا لريتشاردسون الإنجليزي في منتصف القرن الثامن عشر هي بداية الرواية الحديثة، مع الأخذ بعين الاعتبار تطور الرواية ومرورها بمراحل متعددة وعناصرها الفنية المختلفة عن الرواية الحديثة، وما قامت به رواية ما بعد الحداثة من ثورة على العناصر الفنية للرواية الحديثة؛ كل هذا يؤكد أن الفن الروائي فن متجدد، قد نتفق على انطلاقة واحدة لكننا لا يُمكننا أن نجزم بأنها تخص أدبا لأمة ما دون سواها. ويختم الكتاب بفصل المرويات السردية العربية في القرن التاسع عشر، والذي تمثل بستة كتّاب؛ الأول كان الخوري وروايته “وي.. إذن لست بإفرنجي” التي تُعد الرواية العربية الأولى التي بدأ نشرها سنة ١٨٥٩، ورواية غابة الحق للمرّاش، وكتاب علم الدين لعلي مبارك، وأول سلسلة روايات عربية للبستاني، وروايات جورجي زيدان، انتهاء بكتاب المويلحي “حديث عيسى بن هشام”. يستعرض هذه الروايات ويحللها وينقد عناصرها الفنية وأعمال كتّابها الأُخرى، وشيوع الرواية التاريخية والأهداف من كتابتها عند البستاني وزيدان، وتشتت الصورة عند علي مبارك في كتابه علم الدين. ومثل المويلحي مرحلة تحول وانتقال في المرويات السردية العربية ويُشبهها د. عبد الله إبراهيم برواية دون كيخوته لما فيها من تحولات وتصادم بين الشخصيات والواقع الاجتماعي والثقافي ألا إن ما يميز الباشا عن دون كيخوته هو تقبله لهذا المجتمع الجديد وسعيه لتعلم كل مستحدث فيه، وما امتاز به هذا العمل عن الأعمال العربية التي سبقته هو البناء للشخصيات وتفردها وابتعادها عن إسقاطات الكاتب الشخصية وكونها مجرد قناع له.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى