ملحمة الإنيادة – فيرجيل

مؤمن الوزان


حجم الخط-+=

الإنيادة: العملُ الكلاسيكيُّ لكل أوروبا. 

 ت. س. إليوت  

افتتحت الإنيادة عصرًا جديدا من الشعر الملحمي العالمي والمتمثل بالملحمة المكتوبة، إذ كانت العصور الأدبية والملاحم الشعرية التي سبقت عصر فيرجيل هي عصور الملاحم المنظومة شفويا والمرويَّة لسانيًا مثل ملحمتي هوميروس، حتى جاء فيرجيل الذي عاش في القرن الأول ق. م. ليسلكَ آفاقًا جديدة في الشعر الملحمي في ملحمته الإنيادةالتي كتبها في السنوات الأخيرة من حياته قبل وفاته في سنة 19 ق. م. للإنيادة تأثير في الأدب الأوروبي بارز سواء في الأسلوب أو المواضيع أو عدد الأبيات، فكما يشير د. عبد المعطي إلى “أنَّ الملاحم الشعرية الأوروبية التي تلت ملحمة فيرجيل بقيت محافظة على ذات عدد أبيات الإنيادة البالغة 9896 أو تجاوزتها بقليل”1. لذلك فقد أصبحت الملحمة الشعرية بعد عصر فرجيل مختلفة عن تلك التي سبقتها لا سيما في مجال التدوين، إذ أصبحت الملحمة مكتوبة عكس ما كانت سواء مكونة من أناشيد متعددة أو ينظمها عدد من الشعراء أو قد يطرأ عليها تغيير الرواة مع احتفاظهم بالفكرة العامة ونسق الأحداث وتسلسلها. لكن مع بدء عصر التدوين الأدبي امتلكنا مخطوطات موثوقة تنسب هذه الأعمال لشعرائها وتُمكننا من الوقوف على النص الكامل كما نظمه الشاعر عكس عصور التناقل الشفويّ للملاحم. فعلى سبيل المثال فإنَّ محلمتي هوميروس ما زالتا حتى اليوم مثار جدل حول شاعرهما الحقيقي أو هل هما لشاعر واحد أو عدة شعراء، وعن أصول ومنابع أناشيد الملحمتين، وعلى الرغم من تقييدهما كتابةً بعد أكثر من قرنين على شيوعهما شعرًا مرويًا فإنَّ التثبت اليقيني من صحتهما كما نُظما أو هل نظما كتابةً بطريقة ما أو شفويًا تبقى أسئلة تحتاج إلى إجابات يقينيّة، كُتبت فيها البحوث والدراسات قديمًا منذ السكندريين وحتى وقتنا المعاصر. لقد شرع فيرجيل في النظم كتابةً ليسد الباب أمام ذرائع كثيرة قد تتأتى من النظم الشفوي، وهذا التدوين ليس خاصًا بفرجيل دون غيره بل هو نتيجة للتطور البشري والتقدم اللغوي وظهور الكتابة المتزامن مع تطور الحياة البشرية. إذ عاش فيرجيل في حقبة رومانية متقدمة ومتطورة رغم الاضطراب السياسي الذي شهد نهاية الجمهورية الرومانية باغتيال يوليوس قيصر، ونشوء الإمبراطورية مع أول أباطرتها أغسطس في سنة 27 ق. م. الذي جمعته علاقة صداقة مع الشاعر فيرجيل يُختلف في أسباب نشوء هذه العلاقة أو زمن نشوئها لكن الثابت هو الصداقة التي جمعت الاثنين، وكانت إحدى الأسباب الرئيسة في كتابة الملحمة

درس فيرجيل في روما ونظم الشعر ونشره كما في ديوان الرعويات، وديوان الزراعيات الذي نظمه بطلب من الإمبراطور لتشجيع الزراعة في إمبراطورية روما بعد كثرة الحروب والجنود والابتعاد عن الزراعة في محاولة لتشجيع الزراعة، واستثمار الأرض بعد أن وطَّدت الإمبراطورية نفسها وبدأت بالبحث عن الاستقرار. وبقي كتابة ملحمة تكون إرثًا وطنيًا لروما حلمًا يراود فيرجيل كما يذهب د. عبد المعطي، وتدل عليه بعض أبيات فيرجيل في أشعاره التي سبقت الإنيادة

بدأ فيرجيل كما تشير المصادر بنظم الإنيادة في العقد الأخير من حياته في اثني عشر كتابًا عشوائيا، إذ من المرجَّح أنه كتب مسوَّدات نثرية لخطوط العمل الرئيسة، ومما يذكر في هذا الجانب إنشاده بعض كتب الملحمة على الإمبراطور أغسطس وزوجته. لكنَّ المؤسف في الأمر أنَّ فيرجيل مات قبل أن يُكمل تدقيق وتنقيح ملحمته، فطلب قبيل وفاته حرق مخطوطات العمل. ارتحل فيرجيل في أيامه الأخيرة إلى اليونان في رحلة انتعاش وتنشيط الفكر من أجل إكمال عمله لكنه مرضَ واشتدَّ مرضه في رحلة العودة قبل وفاته على سواحل إيطاليا في الميناء

فمن نشر العمل وكيف وصل إلينا؟ يُذكر أنَّ الإمبراطور أغسطس طلب من القائمين على أعمال فيرجيل، وهما فاريوس وتوكَّا، نشرَ الإلياذة كما تركها مؤلفها، فنُشرت الإنيادة ووصلت إلينا بعدها. وتُطرح أسئلة عن أسباب أوامر أغسطس بنشر العمل. يبدو أنَّ كتابة هذا العمل كان بطلب من أغسطس أو أنَّ أغسطس كان على دراية بكتابة هذا العمل ودوافعه التي استمدَّها فيرجيل من التاريخ الروماني والمعتقدات والأساطير من أجل كتابة عمل بطولي وطني يرفع من اسم روما عاليًا. وتُشير شادي بارتش التي نُشرتْ ترجمتها عن الإنيادة في شهر تشرين الأول لسنة 2020– “أنَّ آينياس كان يُعدُّ خائنًا قبل عصر فيرجيل وساعد الإغريق في أخذ طروادة. غيَّر فيرجيل فهمنا لتاريخ روما، وما فقده القرَّاء تاريخيًا معرفة أنَّ وصف فيرجيل في الإنيادة كان ذا وعي سياسي ذاتي ومصممًا ليؤطر توسِّع الإمبراطورية الرومانية كما هي فاضلة ومكلَّفة إلهيًا. فهو يكتب ملحمة شعرية تشير إلى ذاتها ويقول: ’انظر، أنا في طور إبداع أسطورة وطنية‘وتضيف شادي قائلة: “الإنيادة في الواقع قصة عن كيفية إعادة كتابة شخصية وإدخالها التاريخ محولةً إياها من شخص كان مُنتقدًا إلى شخص مُشادٍ به“. 

وما يمكن استنتاجه مما سبق أنَّ إنيادة فيرجيل قد لا تكون ذات دوافع أدبية ووطنية حسب بل وذات دوافع سياسية. وقد يكون سبب كتابتها الحقيقي واستمرار العمل عليها مدة عقد من الزمن هو التقاء مصالح الإمبراطور أغسطس مع طموح الشاعر ليخلِّد اسمه وروما في ملحمته الشعرية

ملحمة الإنيادة 

تروي الملحمة رحلة القائد الطرواديّ آينياس مع قومه بعد خراب طروادة على يد الإغريق ليبدأ رحلة التيهان في البحر واللجوء إلى جزر مختلفة من أجل تأسيس وطن جديد وبناء مدينة ترث مجد طروادة، لكنَّ الآلهة دائما ما كان لها رأي آخر وأنَّ الوطن الموعود للطرواديّين لا بد أن يكون في مدينة لاتيوم بالقرب من شواطئ لافينيوم في إيطاليا. إيطاليا هي الوجهة التي سعى إليها الملك الطروادي الجديد، وليست بوجهة يسهلُ الوصول إليها دائما، وتلعب الآلهة ممثلةً بجونو، زوجة جوبيتر، دورًا في إعاقتهم عن تحقيق مبتغاهم

إنَّ أبرز ما يُلاحظ في الإنيادة نقطتان رئيستان في العمل: الأولى اللجوء والمكوث المؤقت في مملكة القرطاجيّين في ليبيا وملكتهم ديدو، وهي من المحطات الأخيرة التي وطأت أقدام الطرواديّين شواطئها قبل الوصول إلى وجهتهم المنشودة. وفي حضرة الملكة ديدو يقصُّ آينياس ما حدث قبل سقوط طروادة وحيلة الحصان الخشبي ثم الاجتياح اليونانيّ للمدينة الحصينة ليهرب آينياس، ابن الإلهة فينوس حاملًا والده أنخسيس فوق ظهره وجارًا ابنه أسكانيوس معه، من المدينة نحو شواطئ طروادة ليلتقي مع قومه الفارين والناجين من مذبحة المدينة لتمخرَ سفنُهم عبابَ البحر بحثًا عن وطن جديد

كان موضوع اللجوء عن آينياس وقومه جليًّا عند الوصول إلى أي جزيرة جديدة، وليست مملكة القرطاجيين بمنأى عن هذا، فيحاولون إما البدء ببناء مدينة لهم وإما خطب ود السكان الأصليين لمساعدتهم وتكوين علاقة صداقة معهم ملتزمين بسلوكيات وديَّة ومبتعدين عن أي عنف أو خصومة إلا ما يحدث عن زلل غير مقصود كما في جزيرة الهاربيات. لكنَّ هذا اللجوء، والذي تمثَّل تماما عند الملكة ديدو، تحوَّل إلى مأساة تقع فوق رأس المضيف، إذ تهوي الملكة ديدو في حبه، وتطلب منه البقاء معها، إلا إنَّ أوامر الآلهة تُحتِّم عليه إكمال رحلته لتتردَّى ديدو في بؤسها وحبها الضائع وألمها في فراق آينياس وتنتحرَ بسيفه في نهاية تراجيدية زاخرة بالحب والمشاعر والتعارض ما بين نداء الآلهة ونداء المشاعر وكيف اتَّبع آينياس أوامر الآلهة بكل إخلاص وتفانٍ

يتفق الكثيرون على أنَّ الرمزية في عمل فيرجيل مجسَّدة في شخصيات الملحمة فمثلا آينياس يرمز إلى العبودية للآلهة والإخلاص والالتزام بأوامرها، وترمز ديدو إلى الضعف السياسي، ويرمز مشهد حمل آينياس لوالده وجر ابنه إلى الاهتمام بالماضي الغابر الذي لا نفع فيه وتجاهل الحاضر الناشئ، كما صوَّرت بعض اللوحات هذا الموضوع في عصر النهضة وما لحقه. ولعلَّ فيرجيل كان يرمز بهذا التصوير إلى ضرورة التخلص من الماضي الذي يشكِّل عبئًا والتطلع إلى المستقبل الواعد، ولعل مصداق هذا موت أنخسيس مبكرًا في الملحمة وبقاء أسكانيوس حيا وشبَّ في الوطن الجديد.     

أما النقطة الرئيسة الأخرى، وهي الغاية من العمل وربما ذات الدوافع السياسية في صنع الأسطورة الوطنية، فتتمثل في تأسيس الوطن الجديد في لاتيوم إيطاليا. إنَّ لاتيوم ليست محض أرض جديدة لتأسيس وطن، إنما وعد الآلهة كما صوَّرها فيرجيل، وكما أشارت شادي بارتش إلى إنَّ الأمر تعبيرٌ عن تبرير وجود هذه الإمبراطورية الرومانية المكلَّفة سماويًا“. ولا يمكن نمرَّ على التكليف السماوي والإلهي لتأسيس وطن مرور الكرام بأي حال من الأحوال، فهو المحرك لرحلة آينياس في البحر وتحمله وقومه مشاق وصعوبات وهو محور العمل أيضا، فكان بإمكانه وقومه لولا وجود هذا الأمر الإلهي الاستقرارُ في أي جزيرة وصلوا إليها أو حتى البقاء في مملكة القرطاجيّين وتزوِّج الملكة ديدو في تحالف لا يتكرر له في كل مرة ولا كل أرض، لكن سبق الأمرُ الإلهي بالذهاب إلى لاتيوم اتباعَ أيّ خطّة بديلة. يبدو الأمر إلى حدٍ ما شبيهًا بما تحتويه التوراة من نصوص وعد الرب لبني إسرائيل في تمليكهم أرض كنعان، وقد يكون فيرجيل اطَّلع على الديانة اليهودية وتأثَّر بها، لا سيما وأن الإمبراطورية الرومانية قد توسَّع ملكها وامتد سلطانها في قارات العالم القديم الثلاث. لذا فمن غير المستبعد أن تكون فكرة الأمر الإلهي لآينياس في إقامة وطن جديد في لاتيوم مقتبسة ومستوحاة من الوعد الإلهي العبرانيّ في منح أرض كنعان لبني إسرائيل. وحتى بعد وصول آينياس إلى لاتيوم وإرسال وفد إلى ملك لاتيوم لاتينوسفإنَّ النزاع ينشب بين الفريقين بسبب جونو2 التي لم ترد الخير للطرواديَّين، لتندلع حربًا ما بين الطرواديين اللاجئين في لاتيوم وبين اللاتين أتباع الملكين لاتينوس وتورنوس. يتأسس وطن الطرواديين الجديد أو كما طلبت جونو من جوبيتر بمحو اسم طروادة بقولها: “لقد سقطت طروادة وليسقط اسمها حيث سقطت”وطن أسلاف الرومان واللاتين الجديد في لاتيوم، لكنه تأسيس تمَّ بالسيف والدم والقوة غصبًا، فيتحول اللاجئون إلى غزاة في إعادة مشهد خراب طروادة على يد الإغريق لكن هذا الخراب الجديد الذي وقع على لاتيوم تمثَّل في تمازج دماء جديدة مع دماء اللاتين، وتقاسم قومٍ غرباء لأرضهم وخيراتهم وملكهم

نُفِّذ الأمر الإلهي في تأسيس وطن جديد للطرواديين في لاتيوم في نهاية المطاف، لكنَّه على حساب آخرين وبالدم المسفوك وبضرب السلاح المؤيَّد بالآلهة. لنصل إلى استنتاج مفاده: إنَّ أرض روما هي تخصيص من آلهة للاتين، وإنَّ هذه الإمبراطورية قامت برعية الآلهة وإشرافهم وقبل كل شيء هم مفوَّضون بتأسيس مدينة سماوية على الأرض. كل هذا يمنح إمبراطورية روما في عصر فيرجيل بفضل هذه الملحمة البعد الديني والأسطوري والتاريخي أحقيَّة هذه الإمبراطورية والمدينة وأفضليتها على ما سواها، وتربية الناشئة على هذا الفضل والتكريم الإلهي للاتين في وطنهم وكيف أنَّ أجدادهم جاءوا إلى هذه الأرض بتوجيه وعناية سماوية وليست مجرد أرض وطأوها صدفةً بل هي قدرهم وإرثهم الذي حصلوا عليه من الآلهة. لذا فلا نستغرب من أمر الإمبراطور أغسطس من نشر الإنيادة، وما كان للإنيادة فيما بعد من قيمة أدبية وثقافية واجتماعية في روما وأوروبا

 

____

1- مقدمة عبد المعطي شعراوي لملحمة الإنيادة. 

2- لا بد من فهم دوافع عداء جونو للطرواديين حتى نقف على أسباب كرهها لهم. لكن في البداية يجب معرفة أنَّ آلهة روما لا تفرق عن آلهة الإغريق في شيء سوى الأسماء

جوبيتر = زيوس 

جونو = هيرا 

مينيرفا = أثينا

فينوس = أفروديت 

فولكانوس = هيفايستوس

ميركوريوس = هرمس 

نبتونيس = بوسيدون

أبولو = أبولو 

لكل إله إغريقي نظيره الروماني في أساطير الأمتين، ونقرأ في الإلياذة انقسام الآلهة فريق إلى جانب الإغريق وآخر إلى جانب الطرواديين. لكن ما يهمنا من كل هؤلاء الآلهة ثلاث فقط وهنَّ: جونو (هيرا) ومينيرفيا (أثينا) وفينوس (أفروديت). تبدأ قصة عداء هيرا وأثينا للطرواديين ووقوف أفروديت معهم حين تخاصمت الإلهات الثلاث على من الأجمل بينهنَّ واتفقن على طلب التحكيم من أول عابر، فكان أول عابر هو باريس بن بريام حين كان متوجها نحو مملكة أبيه طروادة، ووقع اختيار باريس على أفروديت لتغضب منه هيرا وأثينا ويحقدن عليه مبغضاتٍ وكارهات. استثمرَّ فيرجيل من هذه التاريخ الأسطوري اليونانيّ في ملحمته باستمرار عداء جونو للطرواديين، وما جلبه عليهم هذا العداء من مصايب ومصاعب.    



أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى