ملحمة آل فولسونغ Völsungs saga

أسطورة سيغورد قاتل التنين


حجم الخط-+=

مؤمن الوزان

يلعبُ الأدبُ الآيسلندي التراثي دورًا مهمًا في توثيق حقبات زمنية طويلة تمتدُ من القرون الميلادية الأولى وحتى العصور الوسطى المتأخرة، وشملَ هذا التوثيق الخيال والحقيقة والأسطورة والتاريخ والميثولوجيا والدين والعادات والتقاليد وأخلاقيات المجتمع وسلوكيات أفراده. كان اكتشاف جزيرة آيسلندا على أيدي قبائل الفايكنج الإسكندنافية التي مخرت عُباب البحر بدايةَ عصر جديد، فاستقرَّت فيها في الربع الأخير من القرن التاسع نحو عام 876م، وقامت منذ حينها ممالكٌ ودولٌ اهتمَّ فيها ملوكها بالأدب. من بين ما برزَ جديدًا في آداب الآيسلنديين الملاحمُ النثرية التي عُرفت بSaga وهي نصوص كُتبت باللغة الآيسلندية القديمة ابتداءً من القرن العاشر تقريبًا مُستمدَّة من أحداث تاريخية، وقعت غالبا في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر في آيسلند في عصر يُعرف بعصر الملاحم، بيد أن بعض أحداثها تؤرخِ لقرون أسبق في شمال القارة الأوروبية حيث عاشت هذه الأقوام وأسلافها من قبل. ما يُميز هذه الملاحم أنها دوِّنت نثرًا على عكس السائد حينئذ من التدوين الشعري وذات مواضيع مقترنة بالأرض الجديدة، ولم تنفك في الوقت نفسه عن ماضيها وأصولها. وثمة ما يزيد على ثلاثين ملحمة آيسلندية كبرى شكّلت القسمَ الأول من الأدب الآيسلندي التراثي. أما القسم الثاني فتمثَّل بكتاب إيدا الشعري Poetic Edda، يضم هذا الكتاب نحو واحدة وثلاثين قصيدة طويلة نُظمت ما بين القرنين التاسع والعاشر موزعة على قسمين الأول هو قصائد الآلهة ذات مواضيع دينية وأسطورية وفلسفية، والقسم الثاني هو قصائد عن الأبطال ومغامراتهم (لا سيما البطل سيغورد وغونار وهوغني). اعتمد سنوري ستورلوسن، الأديب والمؤرخ الآيسلندي، في القرن الثالث العشر على هذه القصائد في كتابة بعض فقرات كتابه Prose Edda وهو أول مصدر مدوّن عن الأساطير النورماندية (الإسكندنافية والآيسلندية). أما القسم الثالث، الأخير، من الأدب الآيسلندي فمتمثلٌ في الشعر الآيسلندي Skaldic poetry (يُعرف الشاعر الآيسلنديّ والنورديّ بأنه Skald)، وتوجد نحو 6000 قصيدة دونها نحو 500 شاعر ومحفوظة في أكثر من 700 مخطوطة. وينقسم شعراؤها إلى أربعة أصناف: محترفون، قصائدهم وثيقة مؤكدة. وخاصة، ينظمون الشعر في المحافل الشعرية. ورهبان، قصائدهم دينية. ومجهولون، قصائدهم متحررة من القيود المفروضة.

ملحمة آل فولسونغ والبطل سيغورد 

يرجع تاريخ تدوين ملحمة آل فولسونغ إلى القرن الثالث عشر (ما بين 1200-1270 يعتقد البعض أنها كتبت في العقد السابع وآخرون في بواكير القرن الثالث عشر) كتبها مؤلف مجهول اعتمادًا على القصص الموجودة في الشعر النورماندي القديم (قصائد Poetic Edda). واتسعت دائرة قراءة الملحمة في القرن التاسع عشر، ويعود فضل كبير في ذلك إلى الموسيقار الألماني فاغنر ودرامته الموسيقية خاتم النبيلونغ The Ring of Nibelungالتي اقتبسها من هذه الملحمة وملحمة نشيد النبيلونغ. تحكي هذه الملحمة، كما واضح من عنوانها، عن سلالة فولسونغ وأيامها ومآثرها ورجالاتها، من ضمنهم سيغموند وابنه البطل الأسطوري سيغورد. تقدِّم آل فولسونغروايةً مغايرة عن الرواية الجرمانية (نشيد النبيلونغ) لحياة هذا البطل، الذي ساهم التاريخُ والأسطورة في إبداعه واختلفت الروايتان الجرمانية والآيسلندية على أصله، لكنه من المرجَّح أنه سليل الإسكندنافيين وانتقلت أسطورته إلى الجرمانيين، فبين أيدينا مصادر آيسلندية مختلفة عن سيغورد أهمها: ملحمة آل فولسونغ (القرن الثالث عشر)، وقصائد الأبطال في كتاب إيدا الشعري Poetic Edda (القرن العاشر)، وملخص أسطورته التي يُقدِّمها المؤرخ والأديب الآيسلندي سنوري ستورلستون في كتابه نثر إيدا Prose Edda (القرن الثالث عشر)، في حين أهم مصدر للرواية الجرمانية متمثلٌ بنشيد النبيلونغ (أواخر القرن الثاني عشر) وفيه من التأثرات بالأساطير النورماندية الإسكندنافية

يتربعُ البطلُ سيغورد بن سيغموند على عرشِ ملحمة آل فولسونغ، وشغلت حياته ومغامراته أكثر فصولها واندثرت بمقتله سلالة فولسونغ وإنْ أعقب ابنة اسمها آسلاوغ، فكان آخر رجالاتها الأبطال وخاتمة ملوكها الشجعان. نقف في هذه الملحمة على حياة سيغورد على نحوٍ أكثر تفصيلًا ابتداءً من ولادته ونشأته في بلاط الملكِ هيالبريك، أهل زوج أمه هيورديس، ثم ترعرعه على يد معلمه ريغن واختياره فرسه غراني وحيازته سيف أبيه غرام، ثم ثأره لمقتل أبيه وجده لأمه إيليمي من لينغفي وأبناء هوندينغ، ومغامرته لقتل الثعبان فافنر وحيازة كنزه، ثم لقائه ببُرنهيلد وحبِّه لها، وزواجه غدرون ابنة الملك جوكي وصداقته بأخويها غونار وهوغني وقسمهم على إخوة الدم، ومساعدته غونار في زواج برنهيلد، وانتهاءً بمقتله إثر خيانته من غونار وهوغني بتحريضِ برنهيلد. تمنحنا قصة حياة سيغورد، وفقًا للرواية الآيسلندية، تفاصيلَ غير مذكورة في نشيد النبيلونغمثل طبيعة علاقة ببرنهيلد فتشير الرواية الآيسلندية إلى حب ووعد بالزواج بين سيغورد وبرنهيلد ينساه سيغورد بعد أن سحرته أم غدرون، غريمهيلد، فنسي وعده لها وساعدَ غونار على زواجها، ولا يعرف قارئ الرواية الجرمانية ماضي أو طبيعة العلاقة التي جمعت برنهيلد بسيغفريد. وقصة قتل الثعبان/ التنين فافنر وحيازة كنزه مختلفة أيضا عن الرواية الجرمانية حول قتل سيغفريد التنين واستحمامه بدمه، ثم قتله الأخوين نبيلونغ وشبيلونغ وسلبه كنزهما، وإخضاعِ أتباعهما وأرضهما لسلطانه ومن هذه الواقعة نال لقب ملك النبيلونغيين. وفي الوقت الذي يكون دورُ غدرون مقتصرًا على فصول الملحمة الأخيرة فإن كريمهيلد (معادلة غدرون) في الرواية الجرمانية لها حضور مستمر وهي أحد شخصيات الملحمة المهمة إن لم تكن الأهم. ثمة اختلافات أخرى بين النصَّين لستُ هنا بصدد المقابلة بينها فلكلِ نص طبيعته ونسيجه الخاص وروايته لحياة سيغورد/ سيغفريد، لكن ما ينبغي الإشارة إليه أنَّ قراءة الروايتين تمنحنا رؤية أكثر وضوحا وشمولًا لحياة هذا البطل الأسطوري وثأر زوجته لمقتله، ونقف على نصَّين يتعاملان مع قصة واحدة مع مراعاة اختلاف بيئة الأحداث وطبيعتها، فنصِّ آل فولسونغ متوافق مع بيئة الإسكندنافيين وأساطيرهم ومغامراتهم وأيام ملوكهم، وهو أساس قصة سيغفريد في الرواية الجرمانية، فلا يُتاح الفَهم الكامل لقصة سيغفريد دون الإلمام بالرواية الآيسلندية المتمثلة بقصائد إيدا وملخص سنوري وملحمة آل فولسونغ فهي تقدِّم سيغورد في حقبة زمنية تسبق سيغفريد الملك القروسطيّ والمحارب المبرَّز في عالم الفروسية والشهامة الأوروبيّ.  

بيد أن الملحمة لا تقتصر على سلالة فولسونغ بأجيالها الستة فهي تشمل طائفة من الملوك والسلالات التي اقترن بها الفولسونغيّين أو حاربوهم لا سيما الملك أتلي وأبناء الملكُ جوكي: غونار وهوغني وغدرون، ويشغلُ هؤلاء الثلاثة فصول القصة حين تتمحور حول البطل سيغورد، ويتسيَّدون الواجهة مع أتلي بعد وفاته وبنهاية سلالتهم تنتهي الملحمة. إذًا، فالملحمة متشعبة السلالات ومتداخلة العائلات والشخصيات، وتغطي مساحة كبيرة من الأزمنة والأمكنة والأحداث، يجعل منها نصًّا ملحميًّا تشعبيًّا ممتد الأطراف أشبه ما يكون بكتاب حوليات وتاريخ. لا تقلل هذه البُنية التوثيقية لنسيج نص الملحمة من متعة قراءتها لا سيما فيما يتعلق بسلالة فولسونغ، فالنص مليء بالقصص الثانوية والأساطير وحضور الآلهة متمثلة بأودين منذ البداية وحتى النهاية، إذ ارتبطت سلالة فولسونغ بأودين وقيلَ إنَّ سيغي، الجد الأعلى للسلالة، ابنُ أودين.    

بنية الملحمة 

تبدأ الملحمة في عصورٍ سحيقة وإن لم تذكر ذلك صراحة لكن قصر الخبر المروي عن سيغي يُنبّئنا بذلك، وتتقدم تصاعديا على حياة ريرير ابن سيغي، ثم تتوسع بالحديث أكثر عن ابنه فولسونغ، مَن حملت السلالة اسمه، وأبنائه الأحد عشر ومن ضمنهم سيغموند وابنته الوحيدة سيغني. مع فولسونغ الانطلاقة الحقيقية للملحمة التي تتضحُ دقة تفاصيلها وتمركز فصولها اللاحقة حول شخصية سيغفريد، التي تتبعتها منذ صغره وشبابه وزواجه وكهولته حتى مقتله، ثم انتقال الخبر إلى أبناء جوكي الذين تزوج سيغفريد أختهم غدرون، وتنتهي الملحمة بمقتل أبناء غدرون من الملك يوناكر

إنَّ الملحمة في بُنيتها العامة مرتكزة على الأخبار المُجمَّعة المتعاقبة عن الفولسونغيِّين، فهي رواية أجيال وشخصيات، وربما من أول النماذج الأدبية عن قصة أجيال متعاقبة في عائلة واحدة، لكن تمتاز هذه الأجيال برعاية الآلهة لا سيما أودين الذي ساعدَ سيغي في منفاه وريرير في عجزه عن الإنجاب وسيغموند في إبراز شجاعته وسيغورد في اختيار فرسه غراني وقتله الثعبان فافنر. فظهر للجميع سوى فولسونغ لكنه كان السبب في إنجابه بفضل التفاحة التي أرسلها إلى أبيه، وبقائه في بطن أمه ست سنوات فخرجَ إلى الحياة صبيا. وهنا نرى أن الملحمة تمتازُ بعنصر وجود الآلهة لكن تدخلها مقصور على شخصيات بعينها لأجل غايات خاصة وليس تدخلا مُغيِّرًا لمسار الأحداث، وينقطع حضور أودين بعد قتل سيغورد لفافنر حتى يظهر في آخر الملحمة مجددًا، لكن ظهوره هذه المرة غير مرتبط بسلالة فولسونغ. في الوقت الذي اقتصر ظهور الآلهة على أحداثٍ بعينها فقد لعبَ السحرُ دورًا أكبرَ في الملحمة لا سيما في حدثين الأول حين تبادلت سيغني هيئتهما وجهها مع ساحرة، وذهبت إلى أخيها سيغموند في مستقره أسفلَ الأرض حين اختبئ زمنا بعد نجاته من المذبحة ونامت معه وأنجبت منه دون علمه سنفيوتلي، وكان لهذا الابن مغامرات مع خاله/ أبيه سيغموند جلَّلاها بالانتقام من الملكِ سيغيير الذي قتلَ فولسونغ وتسعًا من أبنائه. أما الحدث الثاني للسحر فارتبط بغريمهيلد، المتضلعة من فنونه والشعوذة، حين سحرت سيغورد أولًا فنسى وعده لبرنهيلد بزواجها وتزوَّج غدرون، ابنة غريمهيلد، وكان هذا الزواج بداية نهاية سيغورد، أما ثاني سحرها فقد مارسته على ابنتها بعد مقتل سيغورد وأنستها أحزانها وكرهها لأخوتها ورغبتها في الثأر.    

السمة الأخرى المائزة في الملحمة هي الرؤى في منام الشخصيات، وتأويلها الذي يكشف عن مآلات مصيرها، واستباقية الحدث بالتنبؤ واستقراء الآتي من الزمن. برزت هذه السمة على نحوٍ جلي ومتكرر مع فصول سيغورد، ولا يكاد يخرجُ حدثٌ من أحداث الملحمة المهمة عن دائرة  التنبؤ أو الرؤيا. تُشير هذه السمة إلى اهتمام تلك الأقوام بالرؤى ونبوءات العرَّافين والعرافات عن الحدث القادم والمصير وضرورة تصديقها، في الملحمة حتمية الوقوع دائما، لتجنُّبِ الأخطارَ والشرور. لكن المفارقة أنَّ الشخصيات ترفضُ الاستجابة لهذه الرؤى والنبوءات، فحين يحذر الثعبان فافنر سيغورد من أخذ الخاتم ذي اللعنة وأنه سيجلب عليه هلاكه أجابه لو كنت أعلم نفسي مخلدًا لما أخذته لكني لست كذلك فسآخذه، وكذا الحال مع تحذيرات رؤى زوجتي غونار وهوغني قبل ذهابهما إلى الملكِ أتلي فما استجابا لتخوفات زوجتيهما وأوَّلا الرؤى خطأً، وعدم استجابة أبناء غدرون الثلاثة لوصية أمهم قبل ارتحالهم للانتقام لمقتل أختهم سفانهيلد، إذ طلبت منههم أمهم عدم استعمال الحجارة في أذية أحد فقتلَ هامدير وسورلي أخاهما الأصغر يرب بالحجارة، وما كانت نهايتهما إلا قتلًا بالحجارة. هكذا نرى أن الرؤية والنبوءة والوصيّة جزءٌ من بُنية الحدث وطبيعته، وعدم الاستجابة للتحذيرات المجهولة المصدرِ تنفي الحاجة إليها، ولا تؤكد إلا حتمية القدر المكتوب واستعلاء الإنسان على ما يجهل، ظنًا منه بتفوقه وعلمه الغالب على ما لا يفهم أو يُدركُ كنهه حقًا.     

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى