مفهوم الانتقال في العلاقات العاطفية
School of life
ترجمة: دعاء خليفة
تعج العلاقات العاطفية بلحظات عسيرة تدفع بأحد الطرفين إلى أن يغالي بردة فعله تجاه موقف ما. لذا تنحدر لحظات كهذه سريعًا إلى جدال مرير، حيث مآل رد الفعل المغالي من قبل أحدهما هو استجابة صارمة وحادة من الطرف الآخر. وقد يتوفر النزر اليسير من التفاهم كما الشيء الزهيد من الكرم والتعاطف، ذلك لوعينا الناقص بردود الفعل المغالية على حقيقتها: تجليات ملتبسة لماضٍ عصيب عايشه الشريك، ولم يستوعبه كليا أو يناقشه بتبادل الرؤى من الطرفين. وتبيَّن أن جوهر العيش المشترك السليم يكمن في إدراك مدى دور (انتقال) مخاوف وهواجس الماضي البادي في سلوكياتنا. لنأخذ مثالًا: وأنت تتصفح مجلة أزياء وتقترح على شريكتك بعفوية مرحة أن تجدد من ملابسها. ماذا عن بنطال جينز مختلف التصميم أو قميص جديد قصير الكمين أو معطف واقٍ من المطر أو حذاء بكعب عالٍ؟ مع طرح هذي الاقتراحات، تثور سريرتها متعذرة بضيق الحال والوقت وحقيقة تكدس ملابسها، وعن سبب تعمد إزعاجها باقتراحات تافهة كهذه؟ تحصد استجابة منفرة جدا مقابل تقديمك مقترحا معقولا وتتأهب لخوض الحرب على الرغم من براءتك من التهمة. تبدو ردة فعلها متناقضة مع ما أثار حفيظتها، وقد تستنتج، كما فعلت سالفًا بمناسبات أخرى، أن محبوبتك تظهر عليها أحيانا “أمارات الجنون بعض الشيء”. هذا الاستدلال بما فيه من تخييب إلا أنه باعث على الرضا على نحوٍ غريب، لا سيما وأنت تعي شيئا من الخطب. سوى أننا بلا استثناء “مجانين قليلا” بطرق تستبعد مثل هذه العبارات المزدرية وتقتضي تحليلًا أدق وأكثر سخاءً. في نظرنا جميعا ثمة مواقف وسلوكيات يمكن الاعتماد عليها لحث استجابات سريعة وقوية لا تبدو متوافقة مع مجريات الحاضر. على سبيل المثال، يسافر من نحبه شهرا ويفصح لنا عن افتقاده لنا، ويحضننا، وبدل أن ينتابنا الحزن والحنو، تتلبسنا بلادة ونبتعد ونفتقر لقول ما يناسب فنعلق على الجو بأنه قارس على غير عادته. أو نعود إلى المنزل لنجد المطبخ في فوضى، وبدلًا من تقبل الوضع، نستشيط غضبًا في وجه شريكنا بحال المنزل الفوضوية وكيف أن الحياة معه لا تطاق. أو أن يحضر صديقنا عشر دقائق متأخرًا عن حفل عيد ميلادنا، ونُلزم بإرسال رسالة نصية نذمه فيها راجين ألا يكلف نفسه عناء الحضور. من المحال تبرير مثل هذه السلوكيات ببساطة وفقًا للوقائع الحاضرة (كما نميل نحن ومقترفوها لذلك). يكمن التدليل عليها فيما يُعرف بمصطلح “الانتقال”، وهي ظاهرة نفسية يستثيرنا فيها موقف في الحاضر استجابة متطرفة أو شديدة أو فاترة في طبيعتها عمومًا ربطناها بموقف في صغرنا واجهنا فيه تهديدا ونحن ضعفاء وغير ناضجين وبلا خبرة للتعامل معه بأسلوب صحيح. إننا نستقي آلية دفاعية عفا عليها الزمن لمواجهة تهديد يبدو مألوفا جدا.
في أغلب ماضينا، ولمّا تقوى لدينا ملكة الفهم وضبط النفس بعد، واجهنا صعوبات بالغة غلبت على محامد الاتزان والهدوء والثقة، وانتابنا الاضطراب في قضايا بعينها. نشأنا يستنفدنا التوتر أو الارتياب أو العداء أو الحزن أو الانغلاق أو الغضب أو الحساسية المفرطة على غير المعتاد، وما زلنا عرضة للمرور بها كرة أخرى حين تكرهنا الحياة على موقف يعيد إلى الأذهان مشاكلنا السابقة ولو بمعزل عنها. ربما هجرنا أحد الوالدين ممن نحبهم ردحًا من الزمن للعمل في الخارج، ودون قصد منهم تمادى الألم بداخلنا لكن ما تأتى منه أننا غلقنا على أنفسنا أبواب الحب تجاههم، فاتخذنا تبلد المشاعر وفقدان الحس وسيلة للتأقلم، وهي استجابة تتكرر حتى في الحاضر، وبعد مرور وقت طويل جدا، حين تستدعي الحاجة شخصا نحبه إلى الرحيل برهة من الزمن. وربما كان والدانا فوضويْين لا يمكن الاعتماد عليهما، وتجلت نتيجة هذه الخصال في تدبيرنا المنزلي بالتنظيم المنضبط لغرفنا، وترتيب الكتب حسب الحجم، والانزعاج لتشكل أدنى قدر من تكتلات الغبار، وحتى الآن يمكن للفوضى المحيطة أن تبث الذعر في دواخلنا موحية بخروج الأمور عن سيطرتنا مرة أخرى. أو أنَّ لنا أختا تتأخر دائمًا عن المناسبات الهامة، أو والدة مهووسة على نحوٍ معيب بالأزياء الدارجة من الملابس. يتأخر العقل الباطن في إدراكه تغير الأشياء في المحيط الخارجي لكنه وللأسف يعجل في اللَبْس بين شخص وآخر، ويبدو حكمه على الأمور مقتصرًا على مراسلات فجة، فتصرف عزيز لنا أو تلبية شخص لدعوة إلى حفلتنا كافٍ لإرباكنا، لحدوث “الانتقال” دون إدراكنا، فيعجزنا تفسير تصرفنا على هذا النحو عمومًا. تثقل كاهلنا سنوات غير متباينة نسينا أمرها، ولسنا في مقام يمنحنا فرصة لمحاورة الآخرين لنيل شيء من التعاطف والتفهم، وعلى حين غرة نصطدم بها فتثار حفيظتنا. في وضع نموذجي نحتاج إلى ملاك حارس يوقف الحاضر هنيهةً، ويعود بالطرف الآخر إلى زمان ومكان آخر، إلى لحظة تولد آلية الدفاع العصابي الذي ننقله، سيتمكنون من رؤية الوالدين غير الكفؤين، والمنزل الفوضوي، والوالد المحب لكن المهمِل، والأم المولعة بالأزياء، وما إلى ذلك. قد يتأثرون عاطفيًا بما يتناسب وإدراكهم لما اضطررنا إليه في التأقلم قبل معرفة كيفية التعامل معه.
يجود مفهوم “الانتقال” باستشراف بعض أكثر السلوكيات تثبيطًا التي نواجهها في علاقاتنا، ويسمح لنا بالتعاطف والتفهم حين ينتاب النفسَ شعورٌ كدر. إذا عجزنا باستمرار في التدبر في أمر علاقاتنا، فمن اللطف تكرمنا بمنح بعض الخرائط الساعية لرسم وتوجيه من يهتمون لأمرنا إلى أكثر المناطق اضطرابًا في نفوسنا. إن أساس بناء مثل هذه الخرائط يكمن في تحديد المواضع التي قد يحدث فيها “الانتقال”، ولهذا يمكننا الاعتماد على مجموعة من اختبارات “الانتقال”. من أشهر هذه الفحوص النفسية للتشخيص هو اختبار رورشاخ، الذي ابتكره عالم النفس هرمان رورشاخ في عشرينيات القرن الماضي لمساعدة الناس على معرفة المزيد عن مضمون الفصوص التي يصعب الوصول إليها في عقولهم. بعرض صورة مكونة من بقع حبر غامضة على المُمتحَن يُطلب منه تحديد ماهيتها، اعتقد رورشاخ أننا سوف نكشف بتحليل نفسي طبيعي عن بعض مخاوفنا وآمالنا وتحيزاتنا وافتراضاتنا الكامنة. يستخدم اختبار رورشاخ بقع الحبر المجردة أساسا للتحليل النفسي، والمقياس الجوهري في أي من اختبارات رورشاخ هو أن الصورة ليس لها معنى حقيقي متفق عليه. فالممتحَنون على اختلافهم يرون فيها أشياء مختلفة وفقًا لما يهيئه ماضيهم لتخيله. قد يراها شخص لديه ضمير لطيف ومتسامح إلى حد ما- قناعًا بعينين وأذنين مرنتين وغطاء للفم ورفارف عريضة تمتد من الخدين. وآخر، أكثر عرضة لصدمة نفسية من أب متسلط، قد يتبدى له شكل يحمل سيماء القوة ينظر إليه من الأسفل، بقدمين مفلطحتين وساقين غليظتين وكتفين ثقيلتين ورأس منحني إلى الأمام كما لو كان مستعدًا للهجوم.
استناداً إلى رؤى رورشاخ، ابتكر عالما النفس هنري موراي وكريستيانا مورغان رسومات تضم أشخاصًا تبدو على محياهم تعابير غير محددة لأمزجتهم أو أفعالهم. في إحدى نماذج الرسومات، تقف امرأتان متجاورتين، ترتسم على وجهيهما تحليلات عدة محتملة. ربما تربطهما علاقة أم بابنتها في حالة حداد على فقيد، ربما سمعتا أن صديقًا للعائلة قد توفي، أو قد يؤكد آخر أنها ربة منزل في طور إقالة (يعتريها حزن أكثر من كونه فورة غضب) عاملة نظافة مسنة غير مرضية البتة، أو قد يغامر ثالث بالقول أشعر أن شيئًا فاحشا يحدث في غرفة النوم، حيث المرأة المسنة تنظر إلى جسد المرأة الشابة وتُشعرها بغرابة شديدة، وربما يتولد لديها أيضًا بطريقة ما شعور بالاستثارة الجنسية. ما نعيه حقًا هو أن الصورة لا تبين أيًا من هذه الأشياء، إنها تعرض امرأتين، إحداهما أكبر سناً قليلاً جنباً إلى جنب، ويأتي التوضيح من الشخص الذي ينظر إليها، والطريقة التي يفسر بها، نوع القصة التي يرويها، تعبر بالضرورة عنه أكثر مما تشرح ما في الصورة.
يطلب منا اختبار ثالث “للانتقال” أن نقول أول ما يتبادر إلى ذهننا عندما نحاول إنهاء الجمل الجزئية. على سبيل المثال:
– إن رجال السلطة عموما…
– دائمًا ما تكون الشابات على وجه التقريب…
– عندما أُرقَّى في وظيفتي، فما سيتلو ذلك حتمًا هو…
– عندما يتأخر شخص ما، فمرد ذلك إلى…
– عندما أسمع وصفًا لشخص كونه مثقف جدًا، أتخيله…
ليس “الانتقال” تحليلا نوظفه عادةً سعيًا لاستيعاب بعض أكثر النواحي صعوبة في حياة شخص آخر، ذلك لأنه، لسوء الحظ، لا يبين لنا “الانتقال” عن سماته كما ينبغي. فالعقل لا يقول لصاحبه إنه في مرحلة معينة يبالغ في رد فعله لأنه صادف مشكلة قديمة كانت سببا للكثير من الاضطرابات. قد نشعر بشيء من الشفقة، أو بالخذلان، عندما نظن أن سلوكنا الحالي مدفوع من قبل ذاتنا التي تبلغ من العمر أربع أو تسع سنوات.
إن من دلالات النضج التقبل بحسن نية احتمال تورطنا في عمليات “انتقال” متعددة، والالتزام في مسايرتها بعقلانية حتى لا نواصل مكرهين في تعسير الأمور على من حولنا. وتتولى مسؤولية النضوج جعلنا ندرك بتواضع الفعاليّة المبالغ فيها التي قد نُقحمها عَنوة في بعض المواقف، وأن نضبط أنفسنا بدقة واعية ونقد أرحب حتى يغلب الحكم الصائب عندنا على المواقف، ونتصرف حيالها بمزيد من الإنصاف والحيادية.