مصطفى وهبي التل.. الشاعر الإنسان  

عمران أبو عين


حجم الخط-+=

ولد الشاعر عرّار في الخامس والعشرين من أيار عام 1899م، وسُمِّي مصطفى تيمناً باسم جده وأضيفت إليه كلمة وهبي على الطريقة السائدة بين العائلات التركيّة، وهي إضافة اسم إلى اسم الوليد الاصلي. عُرف عرَّار موظفا ذا حول وطول، نديم ملوك وأمراء، وصديق طفارى وسكارى، وغنياً موروم الجيب وفقيراً يتمنى الفلس والسحتوت. كما إنَّ الشاعر يُعدُّ من رجال الرعيل الأول الذين قاسوا الأمرين في سجون جدة ومكة والسلط وعمان وغيرها. أنهى مصطفى وهبي دراسته الابتدائية في مدينة إربد، مسقط رأسه، في شمال الأردن. وفي عام 1912 شدّ الرحال الى دمشق مع رهط من لِداتِه وانتسب لمدرسة عنبر. بدأت تتكشف في هذه المدرسة شاعريةُ عرار حتى أصبح شاعر الصف، وبدأت حوادث شاعريته تلفت النظر. وقد كان عرار على سعة اطلاع، وكثيراً ما كان يتحدث عن نظرية دارون، وسبنسر، وتعاليم تولستوي، ولنين، وأصل الحياة، والكون، والظواهر الجوية، وعن الجنة والنار، يوم كان شرقي الأردن في قحط من الكتب والمجلات حتى الصحف السيارة! أوضح شاعرنا مبادئه الفلسفية، وميوله الاجتماعية، في رسالته المعنونة بـ “أصدقائي النّور” قال فيها: “… ولقد فاتني أن اذكر أنني رجل طروب، وأنني في حياتي الطروبة أفلاطونيّ الطريقة، أبيقوريّ المذهب، خياميّ المشرب، ديوجينيّ المسلك، وأن لي فلسفة خاصة هي مزيج من هذه المذاهب الفلسفية الأربعة التي أتيت على ذكرها”.

الشاعر وقضايا الفقراء والمساكين

كان عرار ثائراً على الإقطاعية المجرمة، والأنانية البغيضة، يحلم بحياة تفيض طمأنينة وعدلا، ولما يئس من تحقيق أمانيه التي راودت نفسه، وأهدافه السامية المعتلجة في صدره، إذ كان نصير الفقراء والمفاليس عندما كان يشغل بعض المناصب في وزارة العدل نقمةً على الذين كان يسميهم بإخوان الشياطين، وكثيراً ما ضحى بوظيفته، مصدر رزقه، في سبيل شعب يائس مسكين، وإنصافه من طغمة المرابين وذوي النفوذ. عمل مساعداً للنائب العام، ومأمورا للإجراء، وكان يرفض تنفيذ قرارات المحاكم بحبس الطفارى والمفاليس، الأمر الذي أثار سخط إخوان الشياطين، وقد نظم قصيدة بعنوان “إخواني الصعاليك” تفيض أبياتها عطفاً وإشفاقاً على أولئك المناكيد الذين سامهم المرابون ذلاً وخسفاً، يقول في بعض أبياتها: 

هذا يقول: غريمي كيف تمهله؟ ** وذاك يصرخ: لم تحبسه مديوني؟ 

كأنما الناس عبدان لدرهمهم ** وتحت إمرتهم نص القوانين!

يا رهط “شيلوخ” من يأخذ بناصركم ** يجنِ على الحق والأخلاق والدين

فما كظلمكم ظلم الفرنج ولا ** كفتككم بالورى فتك الطواعين

أأسجن الناس إرضاء لخاطركم ** وخشية العزل من ذا المنصب الدون؟

هذي الوظيفة إن كانت وجائبها ** وقفاً عليكم فعنها الله يغنيني! 

حتى إنه حسب النَّوَر (الغجر) متساويين والأردنيين أمام القانون، ولو قدر له أن يعدل قانون الانتخاب في إعطاء الحق لهم بممارسة العملية الانتخابية لما أبطأ ولا تردد. وفي هذا قصة للشاعر مع الشخصية النَّوَريّة التي أطلق عليها لقب “الهبر”، ذلك أن الهبر يمم لمراجعة المدعي العام في إربد، كان يومها الأستاذ أحمد الظاهر، في قضية تخص نوَرياً، فصده الجندي عن الدخول، فعاد المسكين إلى عرار يشكو ما وقع، ومن ساعتها نظم الشاعر قصيدة يقول فيها: 

يا مدعي عام اللواء ** وخير من فهم القضية

ومناط آمال القضاة ** وحرز إنصاف الرعية

الهبر جاءك للسلام ** فكيف تمنعه التحية؟ 

فأسرعْ وكفِّرْ -يا هداك الله- عن تلك الخطية

فالهبر مثلي ثم مثلك أردني التابعية

في سبيل ذلك الشعب البائس وتطلعاً لرفعته ركل عرار كبريات الوظائف وناصب ذوي الشأن العداء، وشن عليهم أعنف الغارات. يوم شغل الشاعر وظيفة مأمور الإجراء في إربد؛ تلقت وزارة العدلية عشرات الشكاوى من المرابين في لواء عجلون، فحواها أن شاعرنا أهمل قضاياهم وحرّض المدينين على ألا يدفعوا ديونهم، وحارب المرابين حرباً لا هوادة فيها. حتى إنه خطب يوماً بالمرابين وعلى مسمع من المسؤولين. شرع يقول: “يا قساة القلوب”، “يا غلاظ الأكباد”! وحتى إنه ذات يوم طلب مرابٍ في عمّان الحجز على ثلث مرتب موظف فقير يعمل في دائرة البريد، وجَّه عرار إلى مدير البريد العام كتاباً رسمياً قال فيه “… لذا أرجو حجز ربع راتبه لا ثلثه كما يطلب المرابي اللعين”.

تميّز الشاعر عرار بالعطف على الفقراء، والشعور مع العاجز، حتى كانت أشهى الساعات لعرار تلك التي يقضيها مع أصحاب المهن كالفرّاء وبائع السوس والسحلب والطحالات. وكتب عام 1934 مقالاً في جريدة “الكرمل” تحت عنوان “اللهم” قال فيه: “اللهم ساعدني على أن أزرع الأمل في القلوب، وأضمد الجراح، وأمسح الدموع، وأضيء شمعة في كل كوخ وفي كل بيت مظلم”، “اللهم امنحنِ ذاكرة ضعيفة تنسيني إساءات الناس، وذاكرة قوية تسجل مآثرهم”. ومن مواقف الشاعر تجاه الفقراء أنه نقدَ صاحب صيدلية مائة جنيه فلسطيني لتكون رصيدًا لكل فقير لا يملك ثمن الدواء. والحقيقة إن لدى الشاعر عشرات ومئات المواقف التي سجلها التاريخ  في مناصرته للفقراء والعطف عليهم، ومناجزة خصومهم العداء والسخرية منهم، حتى إن كانوا من أصحاب النفوذ والسلطة. وبالرغم من هذا التعاطف مع الفقراء والمساكين فإن عرارا أمعن في تصوير الناس ووصف خِلالهم، وما طبعوا عليه من صفاقة وحماقة، وتقبيلهم اليد التي صفعتهم وبصقهم على اليد التي آست جراحهم، ومن أجدر من عرار بتصوير هذه الطغمة من الناس، التي أسفّت في المذلة وأبت إلا أن تؤدي تحية الإجلال والإكبار لمن حملها على ذبح الدجاج ونحر النعاج ودفع الخراج: 

الناس! ما الناس عبدان القوي بهم ** ما بالمطية من مهماز مغوار!

يزجون من سامهم خسفاً وأرهقهم ** عسفاً تحيات إجلالٍ وإكبار!

حمقى يجارون أفرادا ومجتمعا ** وأمة وشعوبا كل تيار!

ويشمخون بآناف مروضة ** على التمرغ في أعتاب جبار! 

عرار وعلاقته بالنَّوَر 

ربطت بين عرار و النَّوَر، يوم كان حاكماً في “الشوبك”، صداقة مديدة الجذور، راسخة الأصول، وكلما نشبت معركة أو احتدم خلاف بين أولئك “الزط” لأتفه الأسباب، كان الشاعر مصطفى التل يوفَّق إلى حلِّه وتسويته تسوية يرضى بها المتنازعون ويقابلونها بالشكر والامتنان، والتسليم والإذعان. فلم يحفل عرار طيلة السنوات الخمسين التي عاشها، بالأنظمة والقوانين، والمناصب والنياشين، بل كان رجلاً منطلقاً في شؤونه الشخصية وأموره الرسمية، حتى روي عنه أنه علق يوماً على باب مكتبه في دار الحكومة بالسلط، وهو منصرف، العبارة التالية: “من يطلبني خلال ساعات الدوام الرسمي، يجدني في خرابيش النَّوَر”.

لم يقف عرار عند حد من صراحته في تعداد محاسن النَّوَر وثباتهم على المبدأ، بل تجاوز ذلك مكاشفة قومه، المزهوين بآبائهم وأجدادهم، الفخورين بماضيهم وأمجادهم، بقوله والصراحة رائده:

فدعِ الرصانة والرزانة والحجى ** برؤوس عبدان الفلوس تنقرُ

وهلم عند الضاربين بطبلهم ** للناس أمثلة الصراحة نسمرُ

الراقصين على حبال جدودهم ** رقصاً كرقص الأمس لا يتغيرُ

الثابتين على مبادئ قومهم ** الحافظين زمام من لا يخفرُ

نَوَرٌ لئن كانوا فإن وفائهم ** مما يحار بأمره المتبصرُ

لا يكذبون ولا تبور فعالهم ** ولقلما ظهروا بما لم يضمروا

حتى أنه زاد على ذلك وقال : 

نَوَرٌ نسميهم ونحن بعرفهم ** منهم وفي عين الحقيقة أنورُ

ومما روي عن عرار، أنه ذات يوم سأل زوجتيه، وهو مأمور للإجراء في إربد، أن تعدا وليمة فاخرة لضيوف أعزاء وعندما فرغت الزوجتان من إعداد الطعام جاء الضيوف فإذا هم “السيد سعيد الموسى الصالح” شيخ النَّوَر في الأردن، وحاشيته وفي عدادهم الهبر -الشخصية النَّوَرية التي لقبها عرار بذلك- والعازفون على الرباب والنافحون بالناي والضاربون على الطبل. ولعل سائلًا يسأل عن الهبر من هو؟ ونجيب: الهبر شخصية نَوَريّة لقبها عرار بذلك، لوفرة لحمه وضخامة جسمه، وهو شخصية دميمة الخلق، مسيخة القوام، اختارها عرار لزراية شكلها، وحقارة شأنها، هدفاً لسهام نقده، ومخاطبتها عندما يحلو له خطاب ذوي الشأن واستفزازهم! وبكلمة، اتخذ عرار من الهبر تكأة يلعق من ورائها بلسانه الدرب الجارح، والتواء الخلق. إن الحكمة في اختيار هذه الشخصية الدميمة تكمن في احتجاب عرار خلفها ويحقّر من يخاطبهم من وراء ستار قائلا لهم: “لم أجد أمسخ وأحقر من شخصية الهبر لأوسعها سباً وشتماً لكنكم بيت القصيد”. الخلاصة أنَّ عرارًا تستر وراء الهبر واتَّخذ منه شبحاً. بادل عرار النَّوَر حباً بحب، ووداً بود، ولم ينسَ نصيرهم في بؤسه، وأيام نحسه، حتى إن الهبر كان أول من خفَّ إلى عمان للقاء الشاعر والترحيب به بعد عودته من منفاه في العقبة عام 1931م، ونقد الهبرُ الشاعرَ مبلغاً كان قد ادَّخره لليوم العصيب. لكن الشاعر قابل هذا الجميل بأضعافه، وكان للنَّوَر موئلٌ وملاذٌ، ورأى النَّوَرُ فيه نعمَ الظهير والنصير.

نوادر متفرقة من حياة الشاعر 

كان الشاعر عرار ظريفاً فكهاً، خفيف الروح، حلو الدعابة، ولكن في قوة ورصانة، وله من اعتزازه بقلمه واعتداده بنفسه ومن أنفته وتمرده ما صانه عن الابتذال والإسفاف. وتجلى هذا في شعره بصورة واضحة قوية بالرغم من أن أكثر الموضوعات التي طرقها تتميز بالسخرية وعدم الجدية، فقد أسبغ عليها بشخصيته القوية لوناً جدياً يميل إلى الصرامة في بعض الأحيان لكنه لم يخل من العذوبة وخفة الروح. في صيف عام 1927 ضرب الأردنَ زلزالٌ شديد أودى بالكثير من الأرواح والمنازل فأصدرت الحكومة بلاغا ناشدت فيه المواطنين التبرع بمرتب يوم واحد، فبعث عرار من بلدة الحصن بحوالة قدرها جنيه مصري أرفقها ببطاقة كتب فيها:

الله يعلم والأيام شاهدة ** إنّا كرام ولكنا مفاليس

ومن الطرائف التي تروى عن الشاعر أنَّه قبل الحرب العالمية الأولى عزم فريق من أبناء مدينة أربد، مسقط رأس الشاعر، على السفر إلى دمشق للالتحاق بمدرسة عنبر، وبعد أن بلغوها بملابسهم القروية؛ خلعوها واستعاضوا عنها باللباس الفرنجي، وفي عدادهم عارف التل، الذي ارتدى معطفاً كحلياً وسار يوماً في سوق الخواجا فلمحه شاعرنا مصطفى التل من بعد، وتبعه بقطعة من الطباشير، وفي غفلة منه كتب بخط واضح على ظهره عبارة “فلاح متمدن جديد!”، سار عارف وسط الناس، وهم ينظرون إلى عبارة السخرية التي يزدان بها معطفه. ومن الطرائف أو النوادر في حياة شاعرنا مصطفى وهبي التل، يروى أن شحاذًا لجوجًا لحق به وأخذ يسأل حسنة، فخطر لعرار خاطر غريب “إذا كان الشحاذ لم يكفّ عن طلب المال بإلحاح، ولم يخجل من مد يده متسولاً لسد جوعه بقوله حسنة لله فما الذي يمنعني من طلب ما يسد حاجات قلبي الجائع؟”. في حينها خرج الشاعر من منزله متوجها إلى شارع وادي السير وجلس على الرصيف، ثم أشرع عرار يمناه لكل فتاة مرت به وهو يقول: “نظرة لله …لفتة لله” فذعرَ الأوانس والسيدات لهذه القحة المفاجأة، فرمقنه بشزر ووجهن إليه اقذع السباب وحمل الحنق بعضهم على البصق عليه! وأخيراً مر به سرب من الحسان تتوسطهن فتاة سمراء، فخاطبها عرار ويده مشرعة بقوله  “نظرة لله!” فلاقى هذا الطلب هوى في نفس السمراء فرفعت نقابها وطلبت إلى رفيقاتها أن يحذون حذوها، وتقدمت من الشاعر المتسول وقالت: “تفضل.. هذه نظرة لله” فخفق قلب الشاعر ودنا منها قائلا ” لفتة لله” فأدارتِ السمراء جيدها وقالت “تفضل!” ثم تركنه متسمرا في موضعه وانطلقت مع تربها يتضاحكن من ذلك المتسول الطماع! 

أما عرار فقد نظم قصيدة نشرت في اليوم التالي في جريدة الأردن بعنوان “تسول شاعر”، نأخذ بعض الأبيات: 

بين الأنين وغصة الذكرى ** أبعد العمرِ ينقضي عمرا

واَنْفُضْ يديك من الحياة إذا ** يوماً أطقت عن الهوى صبرا

ما قيمة الدنيا وزخرفها ** إن كان قلبك جلمداً صخرا؟ 

يغضي إذا حيته آنسة ** ويهش إن نظرت له شزرا

وضلوعه قفراء موحشة ** تتجشأ الكفران والغدرا

ظبيات وادي السير هل نفرت ** من سربكن الظبية السمرا؟ 

فهذه كانت بعض المواقف اللطيفة من حياة شاعرنا عرار، والمواقف كثيرة لا يمكننا ذكرها أو سردها هنا، فلكل قصيدة من قصائد الشاعر قصة وحكاية! 

خاتمة 

هذه كانت جولتنا لكتاب  صدر بالخمسينيات من القرن الماضي، وهو كتاب “عرار شاعر الأردن”، من تأليف الأديب يعقوب العودات، الملقب بـ”البدوي الملثم”. بالطبع، احتوى الكتاب على جوانب عديدة من حياة الشاعر ومواقفه في شتى الميادين، لكننا ركزنا على بعض الجوانب الإنسانية والشخصية من حياة شاعرنا، وعملنا على تلخيصها، لتعريف القارئ بالشاعر الإنسان، وإلا فإن الجوانب الأدبية معروفة لدى الكثيرين، كما إنها منثورة هنا وهناك.  

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى