مختارات من رسائل الشاعر سيرغي يسنين لصديقه بانفيلوف
ترجمها عن الروسية: عمران أبو عين

على الرغم من انتشار قصائد الشاعر الروسي سيرغي يسنين (1895-1925) مترجمة للعربية، وبعض عباراته وأقواله المنثورة هنا وهناك، فإن رسائله بقيت مجهولة -بحسب علمي- لم تترجم للعربية ولم يُشر حتى إليها. ومع انتشار ما بات يعُرف بـ”أدب الرسائل”، وعلى مستوى الأدب الروسي، فقد تُرجمت رسائل دوستويفسكي، غوغول، تورغينينف، تشيخوف، غورك، إلخ. غير أن رسائل يسنين وبعض أعماله النثرية ما تزال مجهولة للقارئ العربي. لذا، فقد ترجمت هنا مجموعة من رسائل الشاعر أرسلها إلى صديقه غريغوري بانفيلوف. لنلحقها بمجموعة رسائل أخرى -إن شاء الله- متنوعة أرسلها الشاعر لبعض الشخصيات الأدبية المختلفة.
مختارات من رسائل الشاعر سيرغي يسنين لصديقه بانفيلوف
الرسالة الأولى
ج.أ. بانفيلوف
كونستانتينوفا، 7 يوليو 1911
صديقي العزيز..
جريشا، يبدو أنك قد نسيت ما قلته لي، قُلت بأننا سنتبادل الرسائل، وفجأة لا ترد على رسائلي! لماذا؟ أرجو أن توضح لي السبب. أجلسُ في البيت والجميع هنا ذهبوا لموسم الحصاد، لا أقرأ شيئاً في الوقت الحالي، ألعبُ الكروكيت. قمتُ ببعض الأمور المنزلية. جلستُ في موسكو أسبوعاً واحداً فقط، وكنتُ أرغبُ في البقاء أكثر، لكنَّ أموراً منزليّة حالت دون ذلك. لقد اشتريتُ 25 كتاباً، أعطيتُ 10 منها لميتكا، و5 لكلافديو، مسرور جداً بأنه أخذها. البقية أخذها طُلاب المدرسة في قريتنا، ولم يبق لديّ شيء.
__
ملاحظة1: غريغوري بانفيلوف (1895- 1914) وهو صديق مقرب ليسنين من مدرسة المعلمين في سباس-كليبيكوفسكي. وهذه الرسالة من أولى رسائل الشاعر.
ملاحظة2: عندما يقول: “جلست في موسكو أسبوعاً واحداً فقط”. ذهب يسنين عند والده الذي كان يعمل مع التاجر ن.ف. كريلوفا في زاموسكفوريتشي.
*
الرسالة الثانية
كونستانتينوفا، من يونيو حتى 8 يوليو 1912
صديقي العزيز..
أعطني من فضلك عنوان صحيفة ما، وانصحني أين أرسل قصائدي. لقد انتهيتُ من كتابتها. أتلفتُ بعضها، وعدّلتُ على البعض الآخر. مثلاً في قصائد “روح الشاعر الشبابية” في آخر مقطع أجريت تغييراً لتصبح هكذا:
أَجبْ دَعواتي وتَوَسّلاتي
تلكَ الّتي رَجوتُك بها
سأُغنّي لكَ الأغاني
وأجعَلُكَ خَالداً في قَصائِدي.
أتلفتُ “بدأ الرّبيع”. انصحني يا صَديق، سأُرسِلُها فوراً. وبلِّغ بيريكوف تحياتي. لا أدري ماذا أكتب. سأبقى صديقك المُخلص.
__
ملاحظة1: قصيدة “روح الشاعر الشبابية”، في الأغلب أن القصيدة فقدت، ولا يوجد مصدر آخر يتحدث عنها.
ملاحظة2: ديميتري بيريكوف: صديق للشاعر في مدرسة سباس-كليبيكوفسكي، توفي عن ثمانية عشر عاما في 1912.
*
الرسالة الثالثة
موسكو، حتى 18 أغسطس 1912).
عزيزي جريشا..
تسلّمت رسالتك، لقد أرسلوها إليّ من المنزل. أرى أن حياتك ليست أفضل من حياتي، روحك تعاني أيضاً. لا تجد من تشاركه مشاعرك الروحية. تنظر إلى هذه الحياة وتفكر هل نحن أحياء؟ تسير الحياة بنحوٍ رتيب، ومع كل يوم جديد يصبح الوضع لا يطاق، لأن كل شيء قديم يصبح مُشْمئزّاً، تتعطشُ للجديد، الأفضل، الأصدق. سأخبرك كيف أعيش أنا؛ لم أعد أشعر بنفسي “هل أنا أعيش، وهل عشتُ حقاً؟” مثل هذه الأسئلة أطرحها على نفسي. لا أستطيع تفهم لماذا أصبحت الحياة بهذا الشكل، تحديداً بهذا الشكل. أن تعيش ولا تشعر بنفسك، لديك فقط روح وقوة كالبهائم.
أنا أيضاً لا أقرأ ولا أكتب شيئاً، فقط أجلس وأفكّر.
ما زلت أقابل شخصيات “تورغينيفيّة”.
اسمع، أنا الآن في موسكو، قبل مغادرتي بأسبوعين أو ثلاثة، كان لدينا احتفال عند الكاهن، حضر الكثير من الأشخاص في المساء وكنت أحد المدعوين. هنالك التقيت “ساردانوفسكايا” التي أهديتها قصيدة “لماذا تنادي ت. ر. م ” عرفتني إلى صديقتها “ماريا بالزاموفا”، كان لهذا اللقاء أثر كبير في نفسي، لأنها غادرت بعد ثلاثة أيام، وفي المساء الأخير دعتني أن أبقى معها في الحديقة وقد وافقتُ. هذه الفتاة هي ليزا تورغينيف في “عش النبلاء” بكل روحها وصفاتها باستثناء نظرتها إلى الدين. ودعتها وكنت أعرف أنه الوداع الأخير، لكنها ستظل في ذاكرتي سأتذكرها عند لقاء أيّ امرأة أخرى.
صحتي في العشرين جيدة، لقد أقلعتُ عن التدخين.
كتبتُ في الآونة الأخيرة ” قطرات”. بُعث كليميونوف، لكنه لن يصمد كثيراً.
القطرات اللؤلؤيّة، قطراتٌ مذهلة
ما أجملك بأشعتكِ الذهبيّة
ما أحزنكَ أيّتها القطرات
خريف أسود خلف النافذة
***
أيها الناس، أصبح المرح شيئاً من الماضي
كنظرتكم إلى العُظماء القُدامى
ويا لبؤسكم في سقوطكم المظلم
لن يكون لكم راحة في عالم الأحياء
***
أيّتها القطرات الخريفية، كفى! لا تشيري
إلى الأرواح الحزينة، فأنتِ ثقيلة عليها
لا تنزلقي ببطءٍ على النوافذ
كأنكِ تبحثين عن شيءٍ مبهج!
***
أناسٌ غاضبون، قتلة للحياة
مع آلامكم الروحية، ستكملون حياتكم
مضى الفرح، لن تستطيعوا نسيانه
ستجتلبونه مجدداً، في أوقات كثيرة
*
موسكو، شيبوك، متجر كريلوف، ألكسندر نيكيتوفيتش يسنين، ولنفسي.
المخلص لك يسنين.
__
ملاحظة1: يقول الشاعر “أنا الآن في موسكو…” كان الشاعر في هذا الوقت في موسكو. تقول أخت الشاعر أ.أ. يسنين: طلبه الوالد ليحضر إليه في موسكو للعمل في مكتب عند صاحبه حتى الخريف لحين التسجيل في مدرسة المعلمين.
ملاحظة2: قصيدة “لماذا تنادي ت. ر.م” القصيدة غير موجودة، وأهدى الشاعر قصيدته “وراء الجبال ، وراء الوديان الصفراء” لآنا ساردانوفسكايا.
ملاحظة3: “ليزا تورغينينف” نسبة إلى الكاتب إيفان تورغينينف. وعمله “عش النبلاء”.
ملاحظة4: “لقد بعث كليمينونوف…” إيفان كليمينوف ولد في قرية كوزمينسكوي، وبحسب كلام يسنين “إنه أول من أشار إلى حب القرية، الكتابة عن ملحمة الأرض، والعمل الربيعي الأبدي”.
*
الرسالة الرابعة
موسكو، نوفمبر- ديسمبر 1912
بدايةً، الصدق أفضل من النفاق. أتظن أنكَ على حقٍ بلومك لي؟ أشعرتَ بالإهانة لأنني قلت “إنك نائم؟” كان عليك احترام الصدق والحقيقة. أعلم أن هذا ما شعرت به وقلته، وأنا دائماً أقول ما أشعر به. ما الذي يشكِّكُكَ في هذه الكلمات؟
إذا كنت تعتقد بوجود شيء ما أحمق، فأقول لك لا. إذا كنت تظن بوجود شيء ما سيئاً، فلا تنتظر الاعتذار فلن أعتذر. قلتُ شيئاً بإخلاصٍ كأيّ رجل عندما يرى مماطلة. بكلماتي لم أطلب منك رسالة مفصلة، لكن طلبت جواباً: هل استلمت الكتب أو لا؟ لأنني خشيت عليها، فالطرد لم يكن مدفوع الثمن وفقدت الإيصالات.
إذا كنت تنتظر مني أن أرسل لك كل ما هو جميل وصادق وممتن ولطيف، لكن بنفاق، فأعلم أنه لن يكون إخلاص، أقولها تحديداً “إخلاص”. إذا كان في كلامي شيئاً ما قد لامس روحك، فأعلم أنني لست فكرة محضة مجردة (أيّ فكرة) لكنني شخص بنقائصه ومشاعره وضعفه. الذنب ليس ذنبي بأنك لقيت إهانة في رسالتي، بل هو ذنبك، لأنك لم تفهم جيداً، إذا كنت قلتُ شيئاً ضد فلان لا بُدّ أن تكمل حتى نهاية العبارة، وأن تنظر لمن قيلت، وهل هو مسموح قول ذلك. لم أكن من أهنتك بل أنت من أهنت نفسك، لقد جرحتني حتى انهالت دموعي. أتعرف أين هي مثالياتك؟ أم إنها اختفت الآن، أم إنك أنت من تركتها؟ أما أنا فلا أعرف لكنني أرى. على كلماتك، أستطيع أن أقول كما قال رحمانوف: ما العمل؟ يا تشيرنيشيفسكي “إما أنك وغد وإما كاذب”. لكني لا أريد ذلك، ولن أكون لا مبالياً، فأنا أعرفك جيدا، وأقدرك أفضلَ صديق. بالرغم من أن شعور الإهانة لم يفارقني لم تكن من كلمات مؤلمة كهذه الكلمات! أولاً عارٌ عليك أن تطلب مثل هذه الأمور؛ ليزاموفا والبطاقة البريدية. إذا كان من شيء ما هنا فيجب أن نعزوه للأنانية، تريد أن تكون مثالياً ومختلفاً عن المجتمع، لكنك ملتزم بكل الحشمة الاجتماعية، وأنت سعيد بهدم كل أسس الصداقة. ما عادت صداقة بل بقايا مثيرة للشفقة.
لن أطلب منك إجابة، لربما ستكون محرجاً، وتحسب نفسك غيرَ مُلزمٍ ولا مذنبٍ بينك ونفسك. ولسبب ما تتسرب إلى رأسي خطوط مُظلمة:
تطايرت الزهور، انطفأت الأنوار
ليلة منيعة، كظلمة القبر.
__
ملاحظة: “ليلة منيعة، كظلمة القبر” يشير إلى قصيدة “ماتت تأملاتي، منذ زمن بعيد”.
*
الرسالة الخامسة
موسكو، 16 يونيو 1913
جريشا العزيز..
المعذرة على أنني لم أجبك منذ زمن طويل. وقع خلاف كبير، وأخذ والدي مني كل شيء، ولم أتصالح معه إلى الآن. بالطبع لم أسئ التصرف معه وأعطيته كل شيء. وبقيت وحيداً في وضع صعب، خصوصاً مع نقص المال عندي، لكنني صمدت أمام القدر الصعب، لم ألجأ إلى أحد ولم أطلب شيئاً من أحد. كنت أشعر بالجوع الشديد ولكن الآن أشعر بتحسن جيد. أرجو أن تقدر ذلك وتعذرني، لا تعرف ما أصعب ما كنت عليه. مع كامل التوفيق.
أنتظر ردك.
*
الرسالة السادسة
موسكو، يناير 1914
عزيزي جريشا..
أكتب لك رسالة وأنا محطم، وقعت على قدمي مؤخراً، ونزفت كثيراً من أنفي ولم يساعدني شيءٌ على إيقاف النزيف وكانت نتيجة ذلك فقراً حاداً في الدم. لم أذهب طويلا للعمل. بخصوص الكتب، بحثت كثيراً ولم أجدها، عموماً في موسكو بحثت في الأسواق والأكشاك، لكن الكتب القديمة عن دار النشر هذه لم أستطع أن أجدها. يبدو في الأرجح أنه قد اُستُحوذَ عليها من قبل المحليين، وبقيت لديهم هناك.
سأرسل لك في هذا الأسبوع مجلة للأطفال، ستجد قصائدي مكتوبة فيها.
جريشا، عندي أمر صعب وثقيل، أنا وحيد وليس بجواري أحد، ولا أجد أحداً أبث إليه أحزان روحي، أصبح الناس متوحشين وتافهين. أنت بعيد عني، ولن تستطيع التعبير عن كل شيء في الرسائل، آه ما أكثر رغبتي في لقائك.
حزين جداً على مرضك، ولم أرد تذكيرك بذلك، يؤلمني جداً تسمم روحك.
المخلص يسنين.
__
ملاحظة1: “مجلة الأطفال، ستجد قصائدي مكتوبة فيها” في الغالب، يدور الحديث عن مجلة “ميروك – العالم الصغير” فقد كتب الشاعر فيها قصيدته “أشجار البتولا” في يناير 1914.
ملاحظة2: “حزين جداً على مرضك” كان من المفترض أن تكون هذه آخر رسالة بين الشاعر وصديقه بانفيلوف. كتب على ظهر صورة للشاعر “ما شخصيتي؟” وكانت مرسلة إلى موسكو في النصف الثاني من يناير تقريباً، وفي هذا الشهر نُشرت أول مرة قصائدُ للشاعر في مجلة للأطفال باسمه الحقيقي لا باسم مستعار.