محمود محمد شاكر.. سيرة قصيرة 

عمران أبو عين


حجم الخط-+=

صدر عن مكتبة الخانجي عام 2008 كتاباً بعنوان “محمود محمد شاكر، سيرته الأدبية ومنهجه النقدي”، لمؤلفه الدكتور إبراهيم الكوفحي، يقع الكتاب 336  صفحة، وهو في الأصل رسالة دكتوراة عن الجامعة الأردنية في عمان. وقد رأينا لأهمية الكتاب من جهة وإخلاصاً لشيخ العربية محمود شاكر من جهة أخرى، أن نتجول في الفصل المُخصَّصِ للسيرة الشخصية للشيخ محمود، وتقديم سيرة موجزة عنه، وتعريف القارئ بأبرز المحطات في حياة الشيخ محمود شاكر رحمه الله.  

سيرة شخصية

ولد محمود بن محمد في الإسكندرية سنة 1327هـ الموافق للأول من شباط/ فبراير سنة 1909م. ومع أن مولده في الإسكندرية فلم يمكث بها سوى بضعة أشهر، وذلك بسبب تقرر تعيين والده وكيلاً لمشيخة الأزهر، مما اضطره إلى نقل أسرته إلى القاهرة، وظل هناك حتى آخر حياته. يعد والده الشيخ محمد شاكر واحداً من أبرز علماء مصر في عصره، وكان أستاذاً حقيقياً لمحمود، يعلمه ويوجهه ويرشده، سواء كان ذلك بأسلوب مباشر أو غير مباشر. وورث الشيخ عن أبيه الكثير من الصفات، منها جراءة الرأي، وصراحة القول، وكراهية أساليب المواربة، فهو يصدع بما يؤمن به غير مبالٍ بما قد يصنع به أعداؤه، وكثيراً ما أشار محمود إلى هذا الخلق المركوز في شخصيته، وظل يلازمه، ومن ذلك قوله: “وأنا امرؤ لا أحب الهمس والدندنة في الآذان سراً، ولا أحب التناجي الخفي بالإثم والعدوان تحت ستار من الظلمة، وأكره من يدور باللائمة من مجلس إلى مجلس، غير معالن ولا مصارح”. وقوله أيضاً: “وأحب شيء إلي أن أقول ما أريد جهرة، بلا مداهنة ولا استخفاء ولا مداورة”. أما علاقة محمود بشقيقه أحمد فقد كانت أشبه بعلاقة التلميذ بأستاذه، إذ كان أحمد يكبره بنحو سبع عشرة سنة، ولعل أحداً لم يؤثر في محمود، بعد والده، في مبتدأ حياته، كما أثر فيه أخوه أحمد، وكثيراً ما تحدّث محمود عن هذه العلاقة الحميمة التي تربطه بأخيه، وعن الدور الكبير الذي كان له في توجيهه وتعليمه. وبعد وفاة شقيقه في سنة 1958م يقول: “.. وبعد، فقد أبليت شبابي وصدراً من كهولتي، وأخي يومئذ من العلم باذخ، آوي إليه إذ حزبني أمر، أو ضاق علي مسلك، فأصبحت فإذا الركن قد ساخ، وإذا أنا قد أفردت إفراد الساري في فلاة بغير دليل، كان نوراً يضيء الطريق، أصبحت في ظلماء ينهاني سوادها أن أسير”.

كان الإحساس بأهمية “الكلمة” هو أكثر ما يشغل محمود شاكر في سني طفولته، قبل أن يُلحقه أبوه بالمدرسة، فقد أدرك أول ما أدرك أن الكلمة هي وحدها التي تنقل اليه الأشياء التي يراها بعينيه، وتنقل إليه بعض علائقها التي تربط بينها، والتي لا يطيق أن يراها بعينيه، حتى يمكن القول بأن هذه الحياة التي عاشها محمود ليست سوى قصته مع الكلمة. دخل المدرسة سنة 1916م وهو في السابعة من عمره، ويذكر محمود أن أول درس سمعه هو درس اللغة الانجليزية، ففتن بحروفها، وغلبه الاهتمام بها، وجعل يسارع في حفظها “… وكأن حبَّ الجديد الذي لم آلفه، قد بزّ حسن الانتباه الى القديم الذي ألفته منذ ولدتُ، فقل اهتمامي إلى لغتي العربية، ومضت الأيام ففتر انتباهي إليها، بل لعليَّ استثقلتها، وكدتُ أنفر منها، وكذلك صرتُ في العربية ضعيفاً جداً، لا أكاد أجتاز امتحانها إلا على عسر، وعلى شفا”. استطاع محمود بما تلقاه من دروس الإنجليزية في المرحلة الثانوية، وبمحاولاته الشخصية الدائبة في تعلمها، أن يتقنها إتقاناً تاماً، قراءةً ومحادثةً وترجمةً. كما أنه قال مرة لأحمد تيمور، في معرض تعليقه على مقالة المستشرق الإنجليزي مرجوليوث نشأة الشعر العربي: “أنا لا شك أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذل العمر…”. رسب محمود في السنة الرابعة في امتحان “الشهادة الابتدائية” فأعاد السنة على مضض، لأنه كان متمكناً من الرياضيات خاصة، ومن سائر العلوم عامة، ما عدا العربية، ولعل هذه السنة المعادة كانت من أجدى السنوات عليه، إذ امتلأ قلبه مللاً من الدروس المكررة، واتسع الوقت، وصار حراً يذهب حيث يذهب إخوته الكبار الى الأزهر، يسمع الخطب، ويدخل “رواق السناريّة” وغيره، وفي هذا الرواق سمع أول ما سمع مطارحة الشعر، وهو لا يدري ما الشعر إلا قليلاً، وكان مما سمعه في هذه المدة، فتأثر به وأحبه، شعر أبي الطيب المتنبي، ولذلك كان حريصا على أن يحصل على ديوانه وتم له ذلك. “.. فلم أكد أظفر به حتى جعلته وردي، في ليلي ونهاري، حتى حفظته يومئذ، وكأنَّ عيناً دفينة في أعماق نفسي قد تفجرت من تحت أطباق الجمود الجاثم…”. وكان أيضاً شديد الحب لمادة الرياضيات، فأعطاها كثيراً من وقته، وإن كان ذلك لم يصرفه عن قراءة تراث العربية، وعن الشعر خاصة في العربية وغير العربية، ولأجل الرياضيات كان اختياره لما كان يسمى “القسم العلمي”، ونفوره من “القسم الأدبي”، وبقي حبه للرياضيات يزداد يوماً بعد يوم، حتى نال “شهادة البكالوريا” في سنة 1925م. لكن الذي أدركه محمود أن اللغة العربية كانت تنال من قلة اهتمام الطلبة بها، واستهزائهم بدرسها، ما يفزع المتأمل، وكان هذا الإدراك قد نفذ إلى أعماق نفسه يرجُّها رجاً شديداً، وأحاطت به الحيرة لا يعرف أين يذهب، وكانت الجامعة المصرية قد أُنشئت في تلك السنة، فاختار له أبوه اتجاهه العلمي، لكنه أبى إلا أن يلتحق بكلية الآداب، قسم اللغة العربية، خلافاً لزملائه في الدراسة الثانوية، وهو يصف هذه اللحظة الحاسمة في حياته، فيقول: “لقد انفتحت لي الأبواب المغلقة على إحساسي القديم بخطر الكلمة فإذا هي التي تفتح بصيرتي، فترى وتُبصر ما لا يدركه البصر، وما لا يقع عليه الحس وعلمني كتاب سيبويه يومئذ أنَّ اللغة هي الوجهُ الآخر للرياضيات العليا، ومن يومئذ صارت الكلمة عندي هي الحياة نفسها، هي عقلي، هي فكري، هي سرّ وجودي ووجود ما حولي”. 

ولعل أبرز أديب كان له الأثر في تعميق إحساس محمود شاكر، أثناء دراسته الثانوية بخطر اللغة وفي عشقه العربية وآدابها، عشقاً ملك عليه قلبه ولبه، مما جعله يؤثر متابعة دراسته الجامعية في قسم اللغة العربية، مع أنه يحمل بكالوريا القسم العلمي الثانوي، هو سيّد بن علي المرصفي. كان المرصفي من ألمع الأساتذة الذين تولوا تدريس الأدب العربي القديم بالجامع الأزهر، وقد كانت حلقة درسه، كما يصورها تلامذته، مهرجاناً يضم الأدباء والشعراء على اختلاف بيئاتهم وألوانهم، فلم تكن مقصورة على طلبة الأزهر حسب. أما محمود شاكر فقد بدأت صلته بشيخه المرصفي سنة 1922م، وذلك بحضور دروسه التي كان يلقيها بعد الظهر في جامع السلطان برقوق، ثم أخذت تتوثق مع مرور الأيام، فصار يختلف الى بيته يقرأ عليه بعض أصول كتب الأدب والشعر، ومما قرأه عليه في بيته، وهو لا يزال طالباً في الثانوية، كتاب الكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرَّد، وحماسة أبي تمام، وشيئاً من أمالي أبي علي القالي، وبعض أشعار الهذليين، واستمرت صلته به إلى أن توفي في العاشر من شباط/ فبراير سنة 1931م. يذكر محمود أن طريقة شيخه المرصفي في قراءة الشعر الجاهلي هي التي كانت وراء تنبهه إلى أول الطريق في تذوّق هذا الشعر، ومعرفة طبيعته وأسراره، فقد كان للشيخ “عند قراءة الشعر وقفات، يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها ويرددها، ويشير بيده يمنة ويسرة، ويرفع من قامته ماداً ذراعيه، ملوحاً بهما أن يطير، وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما، تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة، يفوق كل تصور…”. ويبرز أثر هذا التذوق للشعر الجاهلي جلياً عندما يلتحق محمود سنة 1926م بقسم اللغة العربية في الجامعة المصرية، ويبدأ بالاستماع لمحاضرات طه حسين “في الشعر الجاهلي”، التي كان يلقيها على طلبة القسم، ويذهب فيها إلى أنَّ الشعر الجاهلي منحول، وضعه الرواة في العصر الإسلامي، حيث يقف محمود موقف الرافض لرأي طه حسين، ومنهجه في دراسة الشعر الجاهلي، القائم على “الشك”. كما كانت هنالك صلة بين محمود شاكر والرافعي، وربما ترجع هذه العلاقة تحديداً إلى سنة 1932م حين كان في الرابعة عشرة من عمره، إذ كان قد قرأ للرافعي بعض كتبه فأحب أن يراسله ابتغاء الصلة وطلباً للعلم، ثم توطدت بينهما صحبة عميقة ظلت الى أن توفي الرافعي سنة 1937م. وفي رسائل الرافعي الى بعض اصدقائه كثيراً ما نجده يذكر محموداً بعدِّه واحداً من تلاميذه وأنصاره، وهو في الغالب لا يسميه باسمه، وإنما يدعوه “ابن الشيخ شاكر”، ولعل ذلك يعود إلى حداثة سنه من ناحية، وشهرة أبيه الشيخ محمد شاكر من ناحية أخرى. لقد وجد محمود في الرافعي، ولا سيما في هذه السنوات الباكرة من عمره، ذلك الأديب الجدير بالأستاذية، فآثره دون غيره من أدباء عصره ومفكريه، فراح يخبّ في دربه، ويتابعه في غير قليل مما يذهب إليه من الآراء والأحكام. ومن المعروف أن الرافعي، في بداءة هذا القرن، كان من أبرز الأدباء المنافحين عن الثقافة العربية الإسلامية التي كانت تتعرض لهجوم عنيف من أولئك الأدباء الذين كانوا على اتصال وثيق بالثقافة الأوروبية بشقيها اللاتينيّ والسكسونيّ. وكان يرى أن الهجوم على اللغة العربية وتراثها الأدبي لا يستهدف إلا الهجوم على الإسلام نفسه، لأن إضعاف العربية في نفوس أبنائها أو تشويهها من شأنه أن يباعد الناس عن القرآن والحديث النبوي اللذين هما عمود الإسلام. ولعل في رسالة محمود التي بعثها الى الرافعي يطلب منه فيها الرد على من زعم من الكتَّاب أن قول العرب: “القتل أنفى للقتل” أبلغ من قول الله تعالى : “ولكم في القصاص حياة” مما يدل دلالة جلية على هذه الأستاذية التي كان يراها له. كان الرافعي حريصاً جداً على تلميذه، وكثيراً ما كان يكتب إليه، إذا هو تأخر عن مراسلته، يسأله عن حاله وعن سبب انقطاعه عنه، ولعله كان يرى في محمود خليفته الذي يحمل من بعده لواء التبشير بمذهبه في الفكر والأدب، والمناضلة عن هذا المذهب، وليس من ريب أن لهذه العلاقة دوراً كبيراً في علاقة محمود بطه حسين، التي كانت على النقيض من علاقته بالرافعي؛ ملؤها الخلاف والجدل، ولها أعظم الأثر في حياة محمود الشخصية والأدبية.

الجامعة ومحاضرات طه حسين

ترتبط حياة محمود شاكر الجامعية ارتباطاً متيناً بطه حسين، بدءاً من التحاقه بكلية الآداب في الجامعة المصرية، وحتى مفارقته إياها، قبل أن يُتمَّ دراسته فيها، على إثر خلاف حاد مع طه حول الشعر الجاهلي، ومنهج البحث فيه. كان طه حسين السبب في قبول محمود شاكر في الجامعة، اذ استطاع ان يزيل عائقَ “بكالوريا القسم العلمي” وقبوله في كلية الآداب أمام مدير الجامعة، وهو أحمد لطفي السيد في ذلك الوقت، وإصراره على أن يواصل دراسته في ميدان الأدب. لما التحق محمود شاكر بقسم اللغة العربية، وبدأ يُصغي إلى محاضرات طه حسين التي عُرفت بكتاب “في الشعر الجاهلي” وانتهى فيها إلى الشك في هذا الشعر، أخذ الخلاف بينه وبين أستاذه يربو يوماً بعد يوم، ويرجع ذلك إلى أمرين: أما أحدهما فهو ما كان قد توصل إليه محمود، أيام قراءته على شيخه المرصفي حين أخذه النهم بالشعر الجاهلي، من أن ثمة طبيعة خاصة تميز الشعر الجاهلي عامة، وتفرقه عن الشعر الأموي والشعر العباسي، وأما الآخر فهو قراءته لمقالة المستشرق مرجليوث “نشأة الشعر العربي” عند صدورها سنة 1925م، وذلك قبل دخوله الجامعة، وحاول فيها مرجليوث الشك في صحة الشعر الجاهلي، مرجحاً أنه موضوعٌ بعد نزول القرآن، صنعه الرواة المسلمون ونسبوه إلى الجاهليين. 

يبدو أن محمود شاكر كان يرى أن طه حسين أفاد إفادة صريحة من مرجليوث، دون أدنى إشارة إليه، ولعل هذا ما جعل محموداً يفكر تفكيراً عميقاً في الحياة الأدبية من حوله، التي بدأ إحساساً ما بأنها حياة فاسدة في كثير من نواحيها، وربما أشار إلى ذلك في مثل قوله: “… وكل يوم أقول لنفسي عسى ولعل! وأتوقع أن يذكر الدكتور طه، اسم مرجليوث مرة، وينسب إلى الرجل رأيه في “مسألة الشعر الجاهلي” مجرد إشارة! وذهب توقعي باطلاً هدراً. لم أسمعه إلا: “انتهى بي البحث” ثم “انتهى بي البحث” وإذا كل شيء منه يبدأ واليه ينتهي! كيف يكون هذا والمتن أمامي أقرؤه بعينين مبصرتين، وكل شيء يقوله الدكتور طه من هذا “المتن” وحده يبدأ، وإلى “المتن” وحده ينتهي…”. نشبَ الخلاف عندما شرع محمود حين مناقشاته طهَ في قاعة الدرس، يدلل على أن الذي يقوله طه حسين عن المنهج وعن الشك غامض، وأنه مخالف لما يقوله ديكارت، مما أدى ذلك إلى إيثار محمود في سنة 1928 ترك الجامعة، وهو لا يزال طالباً في السنة الثانية، غير مبال بإكمال دراسته، بعد أن عقد النية على الهجرة إلى جزيرة العرب، طالباً للعزلة، حتى يستبين لنفسه، فيما يقول، وجه الحقيقة في قضية الشعر الجاهلي، هذا على الرغم من تدخل عدد من أساتذته لثنيه عن قراره، لا سيما من المستشرقين مثل كارلو نلينو، وجودي، وغيرهما. ومما قاله محمود شاكر لأستاذه نلينو عندما زاره في بيته مع عدد من الأساتذة في دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، من أجل أن يصرفه عن السفر ويحثه على الرجوع إلى الجامعة: “أنت تعلم أني بقيت في الجامعة سنتين لم أبرح، وتعلم ما كنت أقوله عن مسألة الشعر الجاهلي التي نسمعها في محاضرات الدكتور طه، وأن هذا الذي نسمعه ليس إلا سطواً مجرداً على مقالة مرجليوث، وأنت وجميع الأساتذة تعلمون صحة ذلك، وفي خلال السنة الماضية نشرت كتب ومقالات في الصحف تكشف ذلك أبين كشف، ولكن لم يكن لهذا الكشف عندكم في الجامعة صدى إلا الصمت، فهذا الصمت إقرار من الجامعة وأساتذتها بهذا المبدأ، السطو، وقد مضت علي سنتان صابراً، أما الآن فلم أعد قادراً على التوفيق بين معنى الجامعة في نفسي وبين هذا المبدأ الذي أقررتموه…”.

طفق محمود شاكر يعد العدة للرحلة إلى الجزيرة العربية، وليس يخفى أنَّ اصطفاءه لها مهاجراً له ارتباط مكين بقضية الشعر الجاهلي، التي كانت قضيته الأولى في تلك الآونة، ليس له من هم سوى طلب اليقين فيها، بعد أن ترافقت عنده بمسألة إعجاز القرآن، فهي أرض الاجداد الأوائل من ناحية، وموطن هذا الشعر الجاهلي من ناحية أخرى. وقد أنشا هناك، بناء على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود، مدرسة جُدَّة الابتدائية، وعمل مديراً لها، وتتلمذ في تلك المدرسة عدد من طلبة السعودية، الذين صاروا أدباء كباراً فيما بعد، وسجل بعضهم ذلك في مذكراته، ولكنه ما لبث أن عاد الى القاهرة منتصفَ سنة 1929م، ليستأنف محمود، على الفور، رحلةَ أخرى في أعماق التراث العربي، بعد أن آثر العزلة في بيته، رافضاً أكثر المناهج الأدبية التي كانت سائدة في زمنه، بدأها بإعادة كل ما وقع تحت يده من الشعر العربي، قراءة متأنية متذوقة. لم ينقطع محمود، وهو في عزلته الأدبية، عن مراسلة المجلات، والكتابة فيها، بل ربما زاد نشاطه في هذا المجال، مما يعد ثمرة من ثمرات مطالعاته للكتب ومراجعاته لها، وإذا تسيَّد الشعر أكثر نتاجه المنشور قبلَ ذلك فإنَّ النقد هو الذي بدأ يغلب على اهتمامه وما ينشره بعد عودته من رحلة الحجاز، واعتكافه على القراءة والكتابة في بيته. وأتاحت له مجلة “المقتطف” في مكتبتها مساحةً لنقد الكتب التي تصدر حديثاً، ولا سيما كتب الأدب، وقد بث فيها كثيراً من آرائه وأنظاره في الشعر والشعراء، والنقد الأدبي، وغير ذلك. 

من المعروف أن محمود شاكر كثير الشك والقلق، وليس من السهل أن يرضى عن عمله، لما ألفه في عزلته من إدمان التأمل، والتدقيق، والتجويد، وترداد النظر فيما يقرأ أو يكتب مرات ومرات، وحسبي أن أدلل على ذلك بما ذكره من حاله عندما فرغ من كتاب “المتنبي” ومن تصحيحه عند الطبع، فيقول: “تقاذفني طوال الليل رعب شديد مخافة ما يقوله الناس فيه إذا هم قرأوه، وأمسيت على غير بينة من أمري، فهذا أول كتاب كتبته مجترئاً على التأليف، وأقدمت إقداماً على كتابته على غير مثال سابق مما عهده الناس في كتابة التراجم… وفار بي الرعب والشك فيما اجترحت فوراناً أذهب من قلبي كل يقين فيما كتبت، وكل ثقة بما بذلت من جهد وتثبت، واغتال الرعب سلطاني على عقلي، وسرى سمُّ الشك في قلبي طول ليلتي، وركبتني الحمى، فلما أفقت منها أفقت وأنا في قبضة رعب حي وشك مميت”. والواقع أن كتاب المتنبي من أهم ما ألف محمود شاكر، وقد أثار منذ ظهوره جدلاً واسعاً بين النقاد والدارسين لمنهجه وأسلوبه من ناحية، وللنتائج التي انتهى إليها من ناحية أخرى، وربما كان من أكثر الكتب إثارة للخلاف بعد كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، كما يعد  كتاب المتنبي من المراجع الأساسية في دراسة حياة المتنبي وشعره. 

وفي سنة 1948م ربما بدا يحس بضرب من الشك في جدوى الكتابة، وخصوصاً وهو يرى حالة الأمة العربية في تردٍّ مستمر، وفلسطين توشك أن تقع في قبضة اليهود، فكان يتساءل : لمن أكتب هذا الذي أكتبه؟ “إنهم نيام يغطون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها”، فيتوقف عن الكتابة في مجلة الرسالة وغيرها من المجلات نحو سنتين أو أشفّ، ليستأنف الكتابة في أواخر سنة 1951م في مجلة ” اللواء الجديد”. وفي سنة 1952م، نشر محمود شاكر قصيدته “القوس العذراء”، وعاد في مطلع سنة 1953 إلى الكتابة في مجلة الرسالة نزولاً على رغبة صاحبها أحمد حسن الزيات، على أن الإحساس بالشك في فائدة الكتابة ما زال قائماً في نفسه، إذ كان يرى أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، وإن كان هناك من يحاول أن يخدع الناس، فيقنعهم بخلاف ذلك “… وإنك لتعلم [يخاطب الزيات]: أن لو عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب علي؟ بأيّ لسان أستطيع أن أفتقَ للناس أسماعاً غير الأسماع التي طمّها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخَ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها بها الكذب المكتوب؟… ولكنه على ذلك كله واجب، وإن كان جهداً لا ثمرة له”. 

لكنه سرعان ما يتوقف عن الكتابة في المجلات والصحف مؤثراً العزلة في بيته ومكتبته، ليتفرغ لإحياء التراث الإسلامي، وتحقيقه ونشره، بعد إغلاق مجلة  الرسالة في الثالث والعشرين من شباط/ فبراير 1953م. لتستمر هذه العزلة العلمية أكثر من عشر سنوات، فكان من ثمراتها تحقيقه لتفسير الطبري المسمى “جامع البيان عن تأويل آي القرآن” وإصداره خمسة عشر مجلداً منه، بالاشتراك مع شقيقه الأكبر الشيخ المحدث أحمد محمد شاكر، كما كان من ثمراتها كذلك شرحه وتحقيقه لكتاب “جمهرة نسب قريش وأخبارها” للزبير بن بكار، وبعض المقالات، مثل مقالته “فصل في إعجاز القرآن” قدم بها كتاب الظاهرة القرآنية لصديقه المفكر الجزائريّ الإسلاميّ مالك بن نبي. 

أصبحَ بيت محمود شاكر منذ مطلع الخمسينات أصبح مثابة لطلبة العلم والدارسين والمثقفين من كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. يقول المحقق الشهير إحسان عباس: “وكل الذين كانوا يختلفون إلي بيته ومكتبته هم تلامذة له. كان مجلسه على الدوام عامراً بالناس، ورواده من جميع الطبقات والفئات، فتجد عنده الأديب والفقيه والقاضي والأستاذ الجامعي والطالب والطبيب والمهندس، وما إلى ذلك.. كان بيته مفتوحاً لتلامذته وزوّاره منذ الصباح الباكر حتى ساعات متأخرة من الليل…”. ولعل من أبرز الذين كانوا يترددون إلى بيته ومكتبته، ويحضرون مجالسه، وينهلون من غزير علمه، منهم على سبيل المثال: إحسان عباس، وناصر الدين الأسد، وعبد الله التل، وأحمد راتب النفاخ، وشاكر الفحام، وأحمد حسن الباقوري، ورجال الثورة المصرية ما عدا جمال عبد الناصر، وغيرهم الكثير. ومنذ مطلع الثمانينات بدأ شاكر ينال ما يستحقه من اهتمام وتكريم على المستوى الرسمي، فانتخب في سنة 1980م، عضواً مراسلاً في “مجمع اللغة العربية بدمشق”، كما كرَّمته الدولة في العام التالي فأهدته “جائزة الدولة التقديرية في الآداب” عن عام 1981م تقديراً لجهوده وإسهاماته المتعددة في خدمة تراث الإسلام، وانتخب عضواً في “مجمع اللغة العربية في القاهرة”. أصدر تلامذته ومحبوه كتابَ تكريم له بمناسبة بلوغه السبعين في سنة 1979م أسموه “دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمود محمد شاكر بمناسبة بلوغه السبعين 1909- 1979”. شارك فيه عدد كبير من كبار النقاد والباحثين في الوطن العربي، نذكر منهم على سبيل المثال: إحسان عباس من مصر، ومحمد حسن عواد من الأردن، وإحسان النص من سوريا، وعبد الله الطيب من السودان، ومحمد يوسف نجم من فلسطين، وغيرهم. 

عاشَ محمود شاكر حياةً مليئة بالأدب والكتب وخدمة العربية والتراث حتى وفاته في السابع من آب/ أغسطس عام 1997، نشرَ فيها الكثير من المؤلفات أهمها: المتنبي، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، أباطيل وأسمار، القوس والعذراء، قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى