ماذا يعني أن تقرأ لهمنغوَي في القرن الحادي والعشرين؟

ديفيد بارنز 


حجم الخط-+=

ترجمة: ميار عطار 

في اليوميات الأدبية للكاتب المسرحي سيمون جراي “The Last Cigarette” لحظةٌ يصعب عليه فيها تذكُّر اسم شخصية معينة. يواصل غراي العودة إلى تخيل رجل متخبط عاري الصدر وكبير البطن على متن قارب يحمل سمكة ميتة ضخمة. لديه “لحية رمادية، ووجه مربع صاعد، ثمة شيء غبي حيال ذلك، وعدواني. ‘يسأل جراي نفسه، من هذا؟ من هو هذا الشخص البغيض والمتبجح؟ ’إنه همنغوَي!'”، يتذكره أخيرًا.

إنَّ التحدث عن إرنست همنغوَي في نظر الكثير من الكتَّاب يشبه التحدث عن سلف محرج. يأتي همنغوَي مثقلا بالأعباء، والكثير منها، التشبيهات العدائية والأمثال عن شرب الخمر، هوس بالنثر النقي و”السليم”، وغير مبالٍ يكراهية النساء وكله نرجسية مفعمة بالغرور. ثم جميع الحيوانات الميتة. ها هي ذي تتجمع وراء الجسم الضخم لرجل عظيم: أسماك المارلين، والثيران، والفيلة، والظباء، والأسود.

عندما زرت مجموعات همنغوَي في مكتبة جون ف. كينيدي في بوسطن قبل بضع سنوات، عرضت علي غرفة في الجزء العلوي من المبنى، حيث يمكنني العمل في أول يوم لي من البحث. كانت نسخة طبق الأصل من غرفة همنغوَي في فينكا فيجيا في كوبا، متكاملة بسجادة من جلد الأسد، ورأس الأسد يحدق إلى أعلى في مظهر من مظاهر العداء الهائج. أيضا، على الجانب خزانة مشروبات مع صف من الخمور. كان بإمكاني النظر من خارج النافذة الى الواجهة البحرية وخليج ماساتشوستس من خلفها، والشمس تبرق على البحر، وشذرات الذهب على امتداد الزرقة. لكن في اليوم الثاني، اضطررت إلى الانتقال إلى الطابق السفلي، إلى مساحة لا يمكن وصفها، مضاءة بأضواء سرير علوية ساطعة. هنا يمكنني أن أبدأ بحثي بنحوٍ صحيح، ولم يعد يشتت انتباهي المنظر الرائع وجلد الأسد. لقد أدهشني في ذلك الوقت تصوُّرُه تشبيها مناسبا لحياة الكاتب وإرثه؛ كانت مجموعة الصور تُوسمُ أذهاننا بأنَّ اسمَ “Hemingway”، بسبب عدم وجود عبارة أفضل، نوعٌ من صالة العرض. تزاحمت في الأعلى جلود الأسود ورؤوس الظباء مع البنادق وشراب المارتيني. كان العمل الحقيقي في الأرشيف بالتنقل وسط المخلفات المحيرة والمعقَّدة التي تركها الكاتب العظيم في الطابق السفلي.

*

يصادف هذا العام الذكرى المئوية لأول عمل منشور لهمينغوَي، طبعت ثلاث قصص وعشر قصائد في باريس طبعةً خاصة ومحدودة سنة 1923. لقد أظهرت القصص الموجودة في المجموعة كاتبًا بأسلوب مميز، وهي ما كوَّنت اسمه الأدبي إذ ظهرت مجددًا قصتان من ثلاثة هما “Out of Season” و”My Old Man” في المجلة الأدبية “In Our Time” سنة 1925. كانت عناصر أسلوب همنغوَي تجد مكانتها في هذه القصص مثل عين لا تتزعزع عن التفاصيل، وقدرة على تقديم مأساة هادئة في نثر واضح. على سبيل المثال في “Up in Michigan” صِيغَ وصف همنغوَي للاعتداء الجنسي من خلال لغة وصفية يسيرة ومباشرة للمكان والبيئة. تنتهي القصة بتصوير فعاّل لـ”الضباب البارد الذي يتصاعد عبر الغابة من الخليج”: تصف قصة همنغوَي أراضي الغرب الأوسط بالعنف واليأس والقنوط من العلاقات الإنسانية الموجودة حولها وداخلها. ومع ذلك، يحتوي المجلد كما يوحي عنوانه على عشر قصائد ذات مواضيع متنوعة -من أبيات عن ثيودور روزفلت “عاشت كلُّ الأساطير، التي افترعها في حياته، وازدهرت” إلى التصويريّة “مديدًا مع الشباب Along with Youth”- يبدو فيها همنغوَي يتذكر الطفولة بمزيج الأشياء والذكريات. كما هو الحال مع بعض القصائد الأخرى، تشير “مديدًا مع الشباب” إلى الأعمال المبكرة للشاعر ت. س. إليوت، حيث تُوضع صور يائسة وصور تبدو غير مرتبطة جنبًا إلى جنب: قارن في “مديدًا مع الشباب” بين جلود الشَيْهَم والبوم المحشو بمصابيح الشوارع وسرطان البحر وإبرة الراعي في فيلم “Rhapsody on a Windy Night”. ولكن في قصائد “Champs d’Honneur”، وهي واحدة من ثلاث قصائد حرب صريحة (خدم همنغوَي على الجبهة الإيطالية في سنة 1918)، يبدو الكاتب الشاب مثل ويلفريد أوين في أكثر صوره تأثيرا، حيث يصف الجنود الذين “يسعلون ويسعلون وينفضون” في هجوم بالغاز. يعني كل هذا أنه إذا كان أسلوب همنغوَي الناضج يبدو مكتملًا تقريبًا في القصص، فإن غرابة وتنوع الكتابة في القصائد أمر مثير للدهشة. لم يكن همنغوَي شيئًا واحدًا، لا في البداية، ولا لاحقًا عندما كان مشهورًا وغنيًا، وكان وجهه الكامل ذو اللحية البيضاء يحدق من غلاف مجلة تايم.

أنا أيضًا كافحت مع همنغوَي، وحتى لو وضعناه في هذه المصطلحات -لغة النضال أو المعركة- فإنه يخاطر بالاستسلام للأساطير التي ابتكرها. في نظر هيمنغوَي فإنَّ التعامل مع كاتب بمثابة الخضوع لمباراة ملاكمة، ونُقل عنه قوله المشهور إنه “تغلب” بالفعل على تورجينيف وموباسان في الحلبة. و”تعادل مرتين” مع ستيندال (اعترف بأنه لن توجد مباراة مع تولستوي). يبدو أن لغة الملاذ هذه تتعارض مع دقة أسلوبه الأدبي. في أولى أيام قراءتي له ذُهلت من جمال تلك الجمل المنحوتة. بدا في ذلك الوقت كما لو كنت أتعامل مع الخزف الصيني الرائع. في بعض الأحيان كان النثر مقتصدا لدرجة أنه بدا كأنه يختفي، وتُركتُ أتجول في غابات الغرب الأوسط التي لا نهاية لها، أو السهول الإسبانية الجافة. لكن حتى في هذه الأيام الأولى للتعرف على همنغوَي وجدت أشياء مقلقة، فيبدو أن رواية “الشمس تشرق أيضًا” تلعب على استعارات معادية للسامية في تصويرها لشخصية روبرت كوهن (توصف الشخصية بأنها تتمتع بـ”عناد يهودي شديد”)، وفيها استهلاك مفرط في كثير من الأحيان لا سيما للخمور. يبدو الأمر كما لو كان هناك دائمًا زجاجة نبيذ باردة مفتوحة، يحتسي زجاجة مارتيني ثم أخرى. وتوجد الكثير من الحيوانات النافقة. في رسالة أرسلها سنة 1934 إلى ابنه باتريك من كينيا، كتب همنغوَي أن مجموعة الصيد قتلت: 

أربعة أسود وخمسة وثلاثين ضبعا، وثماني غزلان طومسون، وستًا من غزلان غرانت، وثلاث ظباء من فصيلة توبي، وأربع من ظباء العلند، وستًا من غزلان الإمبالا، ونمرين، وخمسة فهود، والكثير من الحمير الوحشية لجلودها، وثلاث ظباء ماء، وقط سرفال “القط الأنمر”، وغزال بوشباك، وبقرة وحشية غبراء، وثلاثة خنازير وحشية، واثنتين من الظباء الوثَّابة… 

ناهيكَ عن إشكالية السياسات النوعية (الجندريّة) لكتابات همنغوَي. وغالبًا ما شعرتُ حين أقرأ همنغوَي أنَّه كان يحكم عليّ بأنني لستُ طبيعيًا، فلماذا لم أمارس الملاكمة أو الرماية أو مشاهدة مصارعة الثيران أو اصطياد سمك الكوسج؟

*

ومع ذلك فإن قراءة همنغوَي متحيزة وغير كاملة بالطبع، وقوِّضَ هوس الذكورية لأدب همنغوَي، ليس فقط من قرَّاءه بل ومن الكاتب نفسه، فأبطاله محطمون وجرحى. على سبيل المثال فإن جيك بارنز، بطل رواية “الشمس تشرق أيضًا”، يُصابُ إصابةً غير محددة في الأعضاء التناسلية في الحرب العالمية الأولى. من ناحية أخرى، فجيك رجل نموذجي كهمنغوَي، مهووس بمصارعة الثيران وشرب الخمر. في المقابل، يصوَّرُ نوعه وحياته الجنسية باستمرار على أنها غامضة، كما جادل الناقد إيرا إليوت، فإن إصابته في الفخذ تدفعه على التعرف إلى الشخصيات المثليّة الهامشية في الرواية. وهو يشبههم إذ لا يمكنه أداء الأدوار غير المتجانسة التي يفرضها المجتمع عليه. إذا كانت أعمال همنغوَي السابقة، في الأقل، غامضة بشأن القضايا الجنسانية والجنس، فإن روايته المنشورة بعد وفاته بسنة 1986 “جنة عدن” أثارت المزيد من الأسئلة. على حد تعبير خبيرة همنغوَي الكاتبة ديبرا مودلموغ، كان الكتاب “تكثيفًا مذهلاً ومفاجئًا” لهذه الموضوعات: السيولة بين الجنسين، والمثلية الجنسية، والجنس المحرَّم. قام ديفيد وكاثرين بطلا رواية تلك الرواية بقص شعريهما حتى يبدوان متشابهين، ويقلبان أدوارهما النوعيّة، كاثرين كصبي، وديفيد كفتاة. كما تشير مودلموغ، لقد تزامن نشر “جنة عدن” مع نمو ظاهرة المثليين داخل الأكاديمية: وصدر كتاب جوديث بتلر المؤثر جدًا Gender Trouble بعد أربع سنوات في 1990. منذ ذلك الحين، انتشرت التقييمات النقدية لموقف همنغوَي تجاه النوع والجنس من مارك سبيلكا ونانسي كوملي وروبرت سكولز وكارل إيبي وآخرين. وتزايد أيضًا عددُ النقاد الذين ينظرون إلى همنغوَي من منظور حماية البيئة. من الصعب في البداية تمييز أي شيء حساس بيئيًا تجاه همنغوَي: ألا يدور كل شيء في الشخص المعني حول قتل الحيوانات؟ ومع ذلك فقد تماشى اهتمام همنغوَي بالصيد واصطياد الأسماك مع الحساسية تجاه البيئة. كتب إلى والده في سنة 1925 من إسبانيا إن “الجدول الرائع” الذي كان قد زاره سابقًا قد دمره الآن قطع الأشجار: وجعله “يشعر بالمرض”. وهناك المناظر الطبيعية في الغرب الأوسط المدمرة “المحترقة” في قصة “النهر الكبير ذو القلبين” مع جنادبه في قصة “السوداء بالكامل” وهي متأتية من تأثير بعض الصدمات البيئية. حتى الحيوانات الميتة التي اصطيدت ليست واضحة كما قد تبدو. يناقش المقال المؤثر للناقدة نينا بايم “لقد شعرت في الواقع بالأسف للأسد” أهمية وجهة نظر الأسد في “الحياة القصيرة السعيدة لفرانسيس ماكومبر”. عندما رأت أيضا بريت آشلي الثور في فيلم “The Sun Rises” صرخت قائلة: “يا إلهي، أليس هذا جميلًا؟”؛ ثيران همنغوَي وأسودهم أضداد أبطال أقل شأنًا من الأبطال المأساويين في طقوس راقصة لا يمكنهم الهروب منها.

إذا كان صعبًا تعايشُ العالم الأدبي مع تأثير همنغوَي فيه فإن قراءاتنا المتغيرة له قد لفتت الانتباه إلى مرونة الجودة والاتقان لعمله. همنغوَي كاتب مفارقة، ذكوري مفتول العضلات مشكك في الذكورية، صياد يمكنه الركض مع الطريدة، عالم طبيعة حزن على تدمير مثاوي الحيوان ذاتها التي نهبها من أجل لعبة كبيرة. إنه مدرس سيعلمك كيفية الكتابة حتى لا تستطيع تحمله بعد الآن، وبعد ذلك ستنهار كل الأشياء التي كنت تعتقد أنك تعرفها عنه. في مقابلته مع مجلة باريس ريفيو في سنة 1958 قال إنه كان يغادر مكتب كتابته كل يوم بشعور من الفراغ، ولكن “في ذات الوقت لم يكن فارغًا ولكنه ممتلئ كما لو كنت قد عاشرتَ شخصًا تحبه”. وتابع: “لا شيء يمكن أن يؤذيك”، “لا شيء يمكن أن يحدث، لا شيء يعني أي شيء” حتى المرة القادمة التي تضع فيها القلم على الورقة. يمكن للكاتب الذي يشعر بهذا الشعور حيال الكتابة أن يأخذك إلى أي مكان بنثره كما تشعر. لكن في الوقت نفسه تبدو كلمات همنغوَي هشة ومدمرة؛ كما لو كان يعلم أنه كان يسحب أجزاءً من جرحه للجمهور المتلهف. ما زلت لا أعرف ماذا أجعل من همنغوَي، لكن في هذه الأيام يسعدني أن أقول إنني لا أمانع حقًا في أيّ شيء. منذ قرن من الزمن حين بدأ همنغوَي الكتابة صار يعني الكثير من الأشياء المختلفة، ويبدو من المستحيل تخيل مستقبل بدون شخص يتحدث عنه.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى