ماذا نقصد بقولنا إن الرواية بلا حبكة؟ 

يكتب رونان هيشين عن معنى رواية استطرادية، وتأملية، وهادئة


حجم الخط-+=

ترجمة: أنس جبال

إنَّ نشر روايتي الأولى يعني أنَّي سأبصرُ انعكاسَ كتاباتي في ذاتي أوَّلَ مرة. أشعر أنني نموذج حيّ جالس في حضرة القُراء ساعاتٍ من حصة الفن، يبرزون إليَّ بعدها مساند لوحاتهم لأرى هيئتي في نظرهم. وأنا بالطبع سأبتسم وأقول “هممم”.

روايتي ليونارد وبول الجائع عن أشخاص لطفاء وهادئين يحاولون الاشتباك في الحياة دون أن تغلبهم. يتمحور موضوعه المركزي حول الطبيعة البشرية، على نحو خاص، والجوانب التي تُهمل وتُستصغر في عالمنا الفوضويّ والتنافسي. ربما نتيجةً لذلك وُصف الكتابُ أحيانا في المراجعات بأنه بلا حُبكة أو في الأقل ليس ذا أحداث كبيرة. ليس هذا الوصف بغية الانتقاص حتماً، ولستُ حساسًا بخصوص ذلك. إنه بوضوح علامة على أن القارئ قد وضع الكتاب في ذهنهِ مع الأفلام الإيطالية البطيئة، وموسيقا الأمبينت الإلكترونية، واللوحات المُجردة التي لا تشبه شيئًا محددًا. ينبع المفهوم الآخر لهذا التعليق من الكتابة الإبداعية التقليدية التي تُقر بأن القصص يجب أن تلتزم بأنماط محددة، مرتبة بأجزاء ومبنية حول أمور كالصراع والحل، وإنَّ الكتّاب الحقيقيين يحبكون ولا يخوضون في التفسيرات. أحسب أن بوسعي صنع حجة أن ليونارد وبول الجائع محبوكة إذ فيها زفاف، ومنافسة، ومحادثات كثيرة وجودو. كما بوسعي المحاججة أن كل جملة تزهو بحبكة من البداية: “تربى ليونارد على يد والدته وحدها مخفية عنه الصعاب بمرحٍ، فقد توفي والده مأساويًا عند مولده”. بحقك أليست حبكة!

كل ما في الأمر إنّ المسألة لا تخصني أو رواية ليونارد وبول الجائع، بل عن كيفية ارتباطنا بالجوانب الجوهرية للنص، والأعراف التي تتعلق بكتابة الرواية التي اكتسبت ذيوعًا في الخطاب الروائي المعاصر بما يتعلق بالرواية على أنها شكل. أبذل عند الكتابة قصارى جهدي في التأكيد أن يبقى الخطاب محافظًا على سور محيط واسع يسمح لي بالوثب في أرجاء مخيلتي بحريّة من دون أن أُصقع. لكن، في ذات الوقت أعترف بوجود نقاط حقة تتعلق بتكوين فن ذي جودة كتابية، وهو ما يميز الرواية عن أشكال الكتابة الأخرى. أما كتابتي فلستُ مهتمًا بحبكة تنفرج طوليًا عن السبب والنتيجة، حيث تشرع الأمور بالبدء مبكرًا لصنع نوع من الحلول منتهية عند نقطة الخاتمة. لو رميت كرة تنس في الهواء، سيصبح لدينا حدث مفتعل، بعدها سينشأ توتر ونحن ننتظر العلو الذي ستصل إليه الكرة، سيلحقه ازدياد بالتوتر بشأن ما إن كنتُ سأمسك الكرة. فإما سأمسكها بيدي وإما ستسقط، وإما ستبتلعها مسكة خاطفة: حدثٌ يقع للدلالة على نهاية القصة. ما يثير اهتمامي، مع ذلك، هو ما إن كان الرامي قد تغير بسبب هذه التجربة، وإن كان ذلك، فكيف تغيّر؟ ما مدى وعيه بهذا التغيير وماذا سيفعل بشأن هذه المعرفة؟ بمعنى آخر ما يسحرني هو التحول، التحول الشخصي على نحوٍ أدق. لماذا؟ لأنه يحتضن النباهة. البشر متكيفون بشدة في وجه التغيير، في دواخلنا نزعة لعقلنة الأمور، وتحديدها وإعطاء تفسير للحال الجديدة، وفي خضم هذه العملية فإننا نتجانس مع هذه الحال حتى تصبحُ جزءًا من إدراكنا الذاتيّ. ثمة مُديدةٌ نجد فيها أننا بين أحوالٍ متباينة، ووسط هذه الدروز الكثيرة يسعنا التعلم عن أنفسنا، وخلال الخيال الأدبي نتعلم من الآخرين. 

نرى في رواية ليونارد والجائع بول جمعًا من الشخصيات التي وجدت سبيلا للعيش في عالم يُصبح مضطربا بعد حين. لا يحدث هذا الاضطراب بسبب نزاع أو فاجعة بل بالوعي الذاتي. يحدث بسبب الإدراك. لكي أقبض على هذا التحول تحتَّم علي أن أبطّئ في حياة الشخصيات وتجربة القارئ. لن يزهر الاستبصار -ولن يلاحظ الازدهار في الأغلب- في خضم حدث محموم. يسعنا بتضمين “فصول راحة” في الكتاب وقضاء وقت مع الشخصيات في أوقات عطالتها أن نمسك بإيقاع حياتهم ونتوافق مع أنماط أفكارهم. فما عدنا نقرأ بشروطنا، وعند هذا الإدراك سنشارك في هذا التحول الذي نقرأ عنه. 

تروقني عند كُتابي التأمليين المفضلين -مثل داشا دريندك، يون فوسه، ماتياس إينارد- الطريقة التي يحتضنون بها الفوضى، إذ تبدو كتاباتهم غير منظمة على الورقة؛ تَحرم القارئ من الشعور المألوف بوجهات النظر. استطرادية. تقبض على انتباهك، لكنها تحبط أي فكرة لديك بشأن القراءة المثمرة. إنها، بطريقة ما، خارج عن إدراكنا للوقت- ليست سريعة أو بطيئة، لكنها تبدو نسخة عميقة من الحاضر. تطرفية في رفضها لفكرة القراءة (أو الكتابة) على أنها مهمة يجب أن تُنفذ بكفاءة. بالطبع، هذا النوع من الكتابة ليس بلا مخاطر، وتمنح رخصةً لكتابة نثر ممل أو منغمسٌ في الذات. فتيار الوعي ليس مماثلاً لتيار اللا وعي. اللغو الذهني غير المصفَّى بليدٌ على الورق كما في الحياة الواقعية. من المهم للقارئ أن يجد أفكارًا معتبرة وراء الكلمات؛ ليقضِ الكاتبَ وقتًا مع الأفكار قبل أن يعبر عنها. 

لو رغبت بافتعال شجار في حانة مليئة بالكتّاب، فسأثب على الطاولة وأصرخ بفظاظة أن الحل أما مهم وإما تافه- تصريح أشبه بصفعة أدبية. نفرتُ في ليونارد وبول الجائع من استخدام نهاية مُحمَّلة بالأعباء، وفي ذات الوقت تجنبتُ النهاية المفتوحة التي قد تعد مُتهرِّبة. لم أرد أن تكون غير مكتملة وأن يشعر القارئ بالخيانة، بل أرغب في أن تعد كتبي متماسكة لا محكمة. أرغب في أن تكون القصة مكتملة لا منتهية فحسب. أرغب في أن يشعر القارئ بأن الشخصيات ما زالت تعيش حياتها. تقديراً لذلك، فإن الأسئلة التي تحيط بالحبكة والبناء ليست فنيّة تخص أسلوب الكتابة. أستمر بالتساؤل حيال نفسي، من أنا، عن مكاني بهذا العالم، وإلى أين يتجه العالم. أكتب كتبًا تأمليّة لأنها وليدة تأملاتي. هنالك مكان لها في هذا العالم ومكان في الأدب جرّاء هذا.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى