لمحات عن مقدمة ابن خلدون 

عمران أبو عين


حجم الخط-+=

يفتتح المفكر ساطع الحصري كتابه “دراسات عن مقدمة ابن خلدون” بالسؤال عن سبب اختيار هذا الموضوع المبتذل، إذ إنَّ مقدمة ابن خلدون منتشرة بين أيدي الجميع، وقد كتب العديد عنها من أمثال طه حسين والأستاذ عبد الله عنان وغيرهم، فما الفائدة من العودة الى هذا الموضوع بعد جميع هذه الكتابات والأبحاث عن ابن خلدون؟ ويجيب نفسه قائلا فيما قاله: إن الأبحاث والدراسات التي نشرت بالعربية عن ابن خلدون ومقدمته ظلت بعيدة عن استيفاء حاجة البحث في هذا الموضوع الخصب الهام، بالإضافة إلى أن هذه الدراسات والأبحاث ما زالت قليلة باللغة العربية مقابلةً بما نشر عنها في اللغات الأخرى، كما أن هذا التقصير لا يتجلى في ضآلة الدراسات حسب، بل يظهر في رداءة الطبعات أيضاً، فإن جميع الطبعات التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي مشبوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة. فجميع الطبعات الشرقية تكاد تكون خالية من الشرح والتعليق، فإن الشروح القليلة المبعثرة في “المقدمة” لو جمعت في محل واحد لما ملأت أكثر من ثلاث صفحات! والغريب أن طبعات “المقدمة” المنتشرة في العالم العربي ظلت على هذه الحال من النقص المعيب منذ مدة تزيد على ثلاثة أرباع القرن. 

من هنا، وجدنا أن نسلط الضوء على بعض الجوانب المذكورة في “دراسات عن مقدمة ابن خلدون” لساطع الحصري، وقد اعتمدنا على طبعة وزارة الثقافة الأردنية، ومما حفزنا على القيام بذلك، هو صعوبة المقدمة للقارئ العادي ربما بسبب لغتها العالية وأفكارها الرصينة، فلا يكاد أن يشرع الواحد بقراءتها حتى يجد نفسه قد مل منها! لذا، وجدنا أن نقوم بذلك تسهيلاً لكل من أراد التعرف على المقدمة وأفكارها، واحترماً وتقديراً لكاتبها ابن خلدون، ذلك المفكر العظيم.

بين التاريخ والمؤرخين

يقول بعض من يتصفحون “مقدمة ابن خلدون”، تصفحَ العجلان، إنَّ ابن خلدون يعتقد بالكهانة والنجامة والسحر والرؤيا، الخ. ويفرد لها فصولا خاصة، فكيف يمكن أن نسميه مؤرخاً عظيماً؟ ونقول: يجب ألا ننسى أبداً أن كاتب المقدمة من رجال القرن الرابع عشر للميلاد، فهل يحق لنا أن نؤاخذ هذا المفكر ونلومه على ما كتبه عن هذه الأمور قبل مدة تزيد على ستة قرون؟ ومن هنا، يجدر بنا أن نقوم بجولة بين التواريخ والمؤرخين لنستعرض المواقف التي كان يقفها أسلاف ابن خلدون وأخلافه من المفكرين المؤرخين تجاه هذه المسائل والمواضيع.

إن الاعتقاد بالكهانة والكُهان قد ساد على أذهان اليونانيين بوجه عام، حتى إن معظم مفكريهم أيضاً خضعوا لأحكام هذا الاعتقاد، ولذلك نجد أن الكهانة قد لعبت دوراً هاماً في تاريخ اليونان، حتى إن بعض المؤرخين ادعوا بأن كل “تاريخ اليونان بمثابة فصل كبير من فصول تاريخ الكهانات العام”. أما الرومان فقد اعتقدوا بالكهانة أيضًا، وعملوا بمقتضياتها في جميع أدوار تاريخهم الطويل، وتوغلوا بوجه خاص في التكهنات المستندة إلى معاينة أحشاء الحيوانات وأكبادها وتتبع حركات الطيور وصرخاتها، ولذلك أخذوا يربون بعض الطيور والحيوانات في ساحات بعض المعابد وجوارها بقصد الاستفادة منها في شؤون الكهانة عند مسيس الحاجة إليها، كما نقلوا بعض كتب الكهانة اليونانية الى الكابيتول، وعهدوا بمهمة مراجعة تلك الكتب إلى جماعة منتخبة وفق تقاليد معينة. إن كتب الرومان مملوءة بأخبار الكهانات، وقد جمع المؤرخ اللاتيني فالريوس ماكسيموس في كتابه “الوقائع والأحوال المشهورة” أمثلة كثيرة من ذلك، فمنها قصة “الفرس والأرنب” حينما أقدم سرخس على غزو بلاد اليونان، وحدثت حادثة عجيبة جداً إذ ولدت حينها فرس أرنباً في اللحظة التي اجتازت جيوش الماديين جبل آتوس. إن هذه الحادثة الخارقة كانت إشارة من الآلهة إلى نتائج غزوة كورش، إن الملك الذي ستر البحار بأساطيله الكبيرة فاستولى على البراري بجيوشه الجرارة، اضطر إلى الهروب من ساحات الحروب كالأرنب الجبان. إن أمثال هذه الأخبار والروايات كثيرة جداً في مؤلفات الكثيرين من الكتاب والمؤرخين من الرومان مثل جسيتنس وتيتوس ليفيوس وبلينوس. ومنها ما ذكره أيضاً الشاعر اللاتيني فيرجيليوس عن الحوادث العجيبة التي حدثت قبيل موت القيصر مُنذرة بهذا الحدث الخطير “زلازل الأرض الشديدة، عواصف البحار الهائلة، عواء الكلاب المفزعة، صياح الطيور المشؤومة، ثوران البراكين المحرقة، كلها كانت تنذر بوقوع حدث خطِر، ولقد سمُعت في جرمانيا قعقعة الأسلحة في كل أنحاء السماء… الخ”. من الطبيعي أن الحوادث والوقائع كثيراً ما كانت تأتي مخالفة لنبوءات المنجمين، غير أن ذلك ما كان يكفي لزعزعة الاعتقاد العام بالتنجيم، والسبب في ذلك يظهر بوضوح تام مما كتبه المؤرخ الروماني الشهير تاسيتوس بهذا الصدد: “إذا جاءت الوقائع مخالفة للتنبؤات النجومية، فإن ذلك يجب أن يعزى إلى تقصير المنجمين في التفسير والحكم، لا إلى عدم صحة النجامة في حد ذاتها، لأن أسس النجامة من الأمور اليقينية التي لا يجوز أن يشك فيها أحد، إن صحة هذه الأسس ثبتت في الأزمنة القديمة كما ثبتت في زمننا هذا”. فلم ينقطع علماء الفلك في أوروبا عن الاشتغال بالنجامة، لا خلال القرون الوسطى حسب، بل بعد عصر الانبعاث، وخلال عصر الاكتشافات أيضاً. حتى إن النجامة صارت من العلوم التي تدرس في بعض الجامعات، كما أن كراسي تدريس النجامة في بعض الجامعات الإيطالية مثل جامعة بادووا وجامعة ميلانو ظلت قائمة وعامرة حتى أواخر القرن السادس عشر. 

أما السحر فإن الاعتقاد بالسحر والسحرة والقول بتأثير الطلاسم من جملة الأمور التي سادت على أذهان الناس عند جميع الأمم في جميع أدوار التاريخ الماضية. هذا الاعتقاد كان منتشراً بين أمم القرون الأولى من المصريين إلى اليونان فالرومان، غير أنه اكتسب خطورة خاصة في أوروبا في القرون الوسطى حيث امتزج بالاعتقاد بالشياطين وأودى بحياة الكثيرين من الأبرياء والمظلومين. ولم تفقد شيئاً من قوتها إلا بعد نصف القرن السابع عشر للميلاد. فقد كانوا من وقت لآخر يتهمون بعض النساء بالسحر أو الاستسلام للسحر والاتفاق مع الشياطين، فكانوا يحاكمونهن كما يحاكم المجرمين والجناة، وبعض الأحيان يعدمونهن بإحراقهن بالنار، لتخليص الناس من شرورهن وشرور الشياطين الذين تملكوهن. وكان الملوك والباباوات يشتركون مع الناس في هذه الاعتقادات، ويتخذون شتى التدابير لمكافحة السحرة والساحرات. وقد سيطر هذا الاعتقاد على أذهان الكثيرين من العلماء الذين نبغوا في القرون الوسطى، بل في عهد الانبعاث أيضاً، وقد كان بينهم الرياضيون والفلاسفة والأطباء والمؤرخين. 

بعد هذه الجولة السريعة بين التاريخ والمؤرخين، نتساءل: هل يحق لنا أن نحسب الآراء والأبحاث التي وردت في مقدمة ابن خلدون حول هذه الأمور منافية لمنزلته العلمية، وهادمة لمكانته الفكرية؟ فالجواب المنطقي لا بد أن يكون “كلا” بوجه باتٍ. فإن أخبار الكهانات والخرافات التي ملأت تاريخ “هيرودوت” لم تحلْ دون اعتبار هذا المؤرخ من أعاظم البشرية، ولم تمنع تلقيبه بـ”أبو التاريخ”.  

التعريف بابن خلدون

عرَّف المؤلف نفسه في بداية المقدمة بالعبارة التالية “يقول العبد الفقير الى الله تعالى الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي”. وكان اقتران ابن خلدون في بعض الكتابات والخطابات المعاصرة له ببعض الألقاب والنعوت حسب أنواع المناصب التي تولاها في مختلف أدوار حياته، من جملة ذلك: الوزير، الرئيس، الحاجب، الصدر الكبير، الفقيه الجليل. ولد ابن خلدون في تونس وتوفي في القاهرة، وعاش مدة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن إلا سنة واحدة. ويقول المؤرخ الأندلسي المشهور “ابن حيان”، الذي كان من رجال القرن الحادي عشر للميلاد: “بنو خلدون إلى الآن في اشبيلية، ولم تزل أعلامهم بين رياسة سلطانية ورياسة علمية”. وقد دخل ابن خلدون غمار الحياة العامة قبل أن يبلغ العشرين من عمره، فلم يتمتع ابن خلدون خلال عمره الطويل بـ”حياة الهدوء” بمعناها التام إلا نحو أربعة أعوام، ذلك ما بين سني 1375 وأواخر 1378، عندما اعتزل الحياة العامة وانزوى في قلعة ابن سلامة بعيداً عن شواغل المدن وبهرجها. وعن انزوائه هذا، يصف ابن خلدون ما عمله هناك في ترجمة حياته بهذه العبارة الوجيزة: “أقمت بها متخلياً عن الشواغر كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة”. كانت حياة ابن خلدون من النوع الذي أسماه تيودور روزفلت بـ”الحياة الصاخبة”. فقد خاض غمار الحياة السياسية، وكانت حياته هذه كثيرة التقلب، تولى وظائف عديدة في عهد أربعة سلاطين، ووزيرين من الوزراء المستبدين بسلاطينهم، وشاهد عدة انقلابات، ولعب في بعضها دوراً هاماً واشترك في مؤامرة فشلت وأودت به إلى السجن . قضى ابن خلدون أربعةً وعشرين سنة من حياته في تونس، وستة وعشرين سنة منها في المغرب الأوسط والاقصى والأندلس، وأربعةً وعشرين سنة منها في مصر والشام والحجاز. وعاد الى تونس بعد أن تغرَّب عنها ستة وعشرين عاماً. وكتب مقدمته سنة 1377 بعد أن وصل الى منتصف العقد الخامس من العمر، وبعد أن شاهد كثيراً من الانقلابات السياسية، واشترك اشتراكاً فعلياً في عدد غير قليل منها، ومما لا شك فيه أن الأمور التي لاحظها خلال هذه السنين الطويلة في هذه الأقطار المختلفة، وبين تلك الانقلابات المتتالية، كانت من أهم العوامل التي أثارت تأملاته، ووجهت نظرياته عندما أقدم على كتابة المقدمة. وبعد الانزواء في تلك القلعة -المذكورة آنفا- كان قبلها رجل سياسةٍ مُزاولًا لها، ولكنه بعد هذا الانزواء أصبح رجل علم وتفكير بكل معنى الكلمة.  

تاريخ المقدمة ومعنى العرب 

قال ابن خلدون: “أتممت هذا الجزء بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر، آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة، ثم نقَّحته بعد ذلك وهذَّبته، وألحقت به تواريخ الأمم، كما ذكرته في أوله، وشرحته”. فقد كتب المقدمة عندما كان يعيش معتزلاً في قلعة ابن سلامة في مدة خمسة أشهر تقريباً، في ذلك التاريخ كان قد بلغ ابن خلدون السنة الخامسة والأربعين من عمره، وكان قد اعتزل السياسة قبل ثلاث سنوات، بعد أن خاض غمارها أكثر من عشرين عاماً. ومما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون يقيَّد أمر “إتمام المقدمة في خمسة أشهر”، بتعبير “قبل التنقيح والتهذيب”، ويعلمنا بذلك أنه قد اشتغل بتنقيحها وتهذيبها مؤخراً. عندما ندرس المقدمة بإمعان نجد فيها بعض الفقرات التي لا مجال للشك في أنها كُتِبت قبل هجرة ابن خلدون الى مصر، وبعض الفقرات -بعكس ذلك- يمكن الجزم بأنها كُتِبت بعد هجرته الى مصر. فعلى سبيل المثال، جاء في الديباجة بعد ذكر أقسام الكتاب: “ثم كانت الرحلة إلى المشرق، لاجتناء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره، والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره، فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم وفي تلك الديار”. في حين جاء في أواخر البحث الذي يشرح فضل علم التاريخ: “وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القُطر المغربي؛ لاختصار قصدي في التأليف بالمغرب وأحواله وأجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله دون سواه من الأقطار؛ لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه”. 

كان ابن خلدون يفخر بتاريخه ومقدمته فخراً شديداً، ويعبر عن فخره هذا بعبارات صريحة، يصرح بأنه كان مبتكراً ومخترعاً في هذا التأليف ولم يكن مقلداً لأحد، أو مقتبساً من أحد، يظهر ذلك بوضوح من بعض العبارات التي كتبها ابن خلدون في الديباجة التي صدر بها التاريخ والمقدمة معاً، لأنه يقول: “أنشأت في التاريخ كتاباً سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واختراعه من بين المناحي مهباً عجيباً وطريقًا مبتدعة وأسلوباً”. ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه “استوعب أخبار الخليقة استيعاباً، وذلل من الحِكم النافرة صعاباً، وأعطى لحوادث الدول أسباباً، فأصبح للحكمة صواناً، وللتاريخ جراباً”. ولكنه بعد هذه الكلمات المملوءة بروح الزهو والإعجاب يشعر بضرورة التواضع، فيقول: “أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء”. يقول المفكر ساطع الحصري:”فإنني عندما أتأمل فيما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد أجزم بأن توصله الى مجموعة الآراء المبتكرة الكثيرة المسطورة في المقدمة، كان حدث من جرَّاء “تدفق فجائي” بعد “حدس باطني” و “اختمار لا شعوري” كما لاحظ ذلك بعض علماء النفس في حياة عدد غير قليل من المفكرين والفنانين…”. 

إن كلمة “العرب” في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولَّدت أغرب الالتباسات وأنتجت أسوأ النتائج، ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة  بمعنى “البدو” و”الأعراب”، خلافاً للمعنى الذي نفهمه منها الآن، وإن عدم انتباه الكثير من الباحثين إلى هذا الاستعمال الخاص أدى إلى أخطاء عظيمة في فهم مقاصد ابن خلدون، لأنه بذلك أظهره بمظهر المتحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القومين الى الهجوم عليه. ومن النتائج السيئة لسوء الفهم هذا، ما قام به مدير المعارف في العراق بحملة عمياء على ابن خلدون في خطبة ألقاها على المعلمين زاعماً بأنه من الكافرين بالعروبة، وقائلاً بوجوب حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية! ومن الأمثلة على أن ابن خلدون كان يقصد بالعرب “البدو” أو “الأعراب”، في الفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على “العرب”، ويقول: “إنَّ العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب” ويعلل ذلك بقوله: “فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلّب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلاً إنما حاجتهم اليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونها لذلك. والخشب ايضاً إنما حاجتهم ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه لذلك”. نلاحظ أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام، فلا شك هنا إنه عندما كتب ابن خلدون ذلك فإنه لم يفكر قد بأهل دمشق أو القاهرة ولا تونس أو فاس، بل قصد أعراب البادية وحدهم. وأما الفصول التي يقول فيها ابن خلدون: “إن العرب لا يستولون إلا على البسائط” و “إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك” و “إن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية” فكلها من أقسام الباب الباحث “في العمران البدوي”، وفي كل فصل من هذه الفصول قرائن قاطعة كثيرة على استعمال كلمة العرب بمعنى “البدو”، علاوة على دلالة عنوان الباب نفسه. حتى إنه من الغريب أن المعنى الخاص الذي استعمل به ابن خلدون كلمة العرب كان قد لفت أنظار المستشرقين منذ مدة طويلة، وأشار البارون دو سلان الى ذلك حينما ترجم المقدمة، فإنه نقل العرب إلى الفرنسية كما هي، ومع ذلك كتب في المجلد الأول من الترجمة في ذيل الفصل القائل “إن جيل العرب في الخلقة طبيعي”، و”إن ابن خلدون استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في هذا الفصل، وفي الفصول التالية”. كما إنه كتب عبارة صريحة بذلك قائلا: “إن عرب ابن خلدون هم الأعراب”. وقبل هذا البارون، كان المترجم التركي جودت باشا أيضاً قد انتبه الى هذا المعنى الخاص، وإن لم ير لزوماً لذكره بصراحة لأنه لم ينقل كلمة ” العرب” الى التركية كما هي، بل نقلها في مواضع كثيرة على شكل “قبائل عرب” بمعنى “قبائل العرب أو القبائل العربية”. وهنا يقول المفكر ساطع الحصري: “ولذلك كله يؤلمني جداً أن تبقى هذه الحقيقة الناصعة مجهولة بين قراء العربية وكُتَّابها، وأن يُستمر على إساءة فهم المقدمة في الأحاديث والكتب والمقالات”.

نظريات وآراء ابن خلدون 

إنَّ مقدمة ابن خلدون من المؤلفات التي عُرفت في أوروبا باسم “فلسفة التاريخ” في القرن الثامن عشر، وباسم “علم التاريخ” أو “المدخل الى التاريخ” في القرن التاسع عشر. تضمنت المقدمة في الوقت نفسه آراء ومباحث ونظريات اجتماعية هامة، فيجب عدُّها من هذه الوجهة من نوع المؤلفات المتعلقة بـ”الفلسفة الاجتماعية” و”علم الاجتماع ” أيضاً. غير أنه لا يجب أن يغرب عن البال بأنها تتألف في حقيقة الأمر من “المقدمة والكتاب الأول” وهي سفر تاريخي كبير، وترمي إلى “تمييز الحق من الباطل في الأخبار” عند تدوين التاريخ، وتسعى إلى إيجاد “معيار صحيح يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والخطأ فيما ينقلونه من الأخبار والوقائع” كما صرح بذلك المؤلف نفسه. إنَّ من أشمل الدراسات عما كُتِب في فلسفة التاريخ قام بها “روبرت فلينت” ونشر سنة 1874 كتاباً بعنوان “فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا”، ويعدُّ من أمهات الكتب في هذا الموضوع. لم يذكر ابن خلدون في كتابه هذا، مما يدل على أن المؤلف لم يكن قد اطلع عليها بعد عندما نشر كتابه المذكور، غير أنه واصل أبحاثه ونشر عنوان آخر “تاريخ فلسفة التاريخ” بعد مرور عشرين عاماً على نشر كتابه الأول، يظهر من مطالعة هذا الكتاب أن المؤلف كان قد اطلع خلال هذه المدة على مقدمة ابن خلدون، وأُعجب بها إعجاباً شديداً، فكتب عن ابن خلدون ما يلي: “من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدم اسماً يضاهي في لمعانه ذلك الاسم”. ويقول: “إذا نظرنا الى ابن خلدون مؤرخًا فقط، وجدنا من يتفوق عليه حتى بين كتاب العرب أنفسهم، وأما كونه واضعَ نظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور “فيكو” بعده بأكثر من ثلاثمئة عام…” ومما يلفت النظر أن روبرت فلينت لم يكن من المستشرقين الذين يحملون شغفاً خاصاً بالأمور والمؤلفات الشرقية، بل كان من رجال الدين، وقد أظهر نزعته الدينية الشديدة في مواضيع عديدة من مؤلفاته، فإن صدور هذه الكلمات التقديرية من المؤلف المشار إليه، بالرغم من نزعته الدينية الشديدة، يدل دلالة واضحة على شدة إعجابه بمقدمة ابن خلدون واطلاعه عليها، بعد انكبابه على درس جميع المؤلفات التي تحوم حول فلسفة التاريخ منذ بدء التفكير في العالم القديم، حتى أواخر القرن الأخير.

عالج ابن خلدون في مقدمته العديد من المسائل والقضايا مثل نظرته إلى التاريخ ومُهمة المؤرخ، وطبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم، والتقليد والقسر الاجتماعي، وعن التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات، وعن طبائع الأمم وسجاياها، والعصبية والحروب وعن الدولة وتطوراتها، وعن التربية والتعليم والنفس الإنسانية، والتفكير والإيمان، والخط والكتابة، والحياة الاقتصادية وعن المدن والأمصار. إنَّ كل هذه الموضوعات، أسس لها ابن خلدون نظريات، وأبدأ رأيه بها. وللتوسع فيها يمكن الرجوع إلى الكتاب المشار إليه “دراسات عن مقدمة ابن خلدون”، ففيه من التفصيل الشيء الماتع والشرح الوافي والواضح لهذه النظريات والآراء.

كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية لطه حسين 

كتب طه حسين أطروحة باللغة الفرنسية عن “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية” عندما كان يدرس في باريس، ونشرها سنة 1918، وقد نِقُلت الأطروحة المذكورة الى العربية بقلم الأستاذ عبد الله عنان، ونشرت في مصر سنة 1926م. لكن مما يؤسف له كل الأسف إنَّ طه حسين كان قد كتب أطروحته المذكورة عندما كان حديث عهد بدراسة علم الاجتماع، فلم يكن قد أحاط علماً -عندئذ- بنظريات علم الاجتماع وتاريخه الإحاطة الكافية. كما أنه لم يكن قد وجد متسعاً من الوقت للتعمق في دراسة مقدمة ابن خلدون التعمق اللازم. ويظهر أنه كان مدفوعاً بالوقت ذاته بروح انتقادية عنيفة، حملته على نقد العلماء الغربيين الذين قد “بهرتهم طرافة ابن خلدون” حسب تعبير طه، وجعلتهم يرون فيه فيلسوفاً حديثاً. لقد أخذ طه حسين على عاتقه نقد آراء هؤلاء الغربيين المفتونين بابن خلدون وبمقدمة ابن خلدون، فقد اعتقدت جماعة منهم أن ابن خلدون كان “أول من أراد أن يجعل من التاريخ علماً”، غير أن طه حسين اندفع في الاعتراض عليهم صائحاً: “كلا، إن ابن خلدون لم يفكر في ذلك مطلقاً”. وكذلك “كان قد خلع جماعة منهم على ابن خلدون لقب “العالم الاجتماعي”، وحسبوا عمله “باكورة لما نسميه اليوم علم الاجتماع”، غير أن طه انبرى للرد عليهم قائلاً: ” كلا، إن ذلك يكون مبالغة كبيرة”. إنَّ هذا الفصل من كتاب دراسات عن مقدمة ابن خلدون من الفصول الماتعة جداً، ففيها الرد الوافي على اعتراضات طه حسين على مقدمة ابن خلدون، ففي هذا الفصل يسرد ساطع الحصري الأدلة التي اتكأ عليها طه، ويدرسها ويرد عليها بطريقة علمية ويبين ما وقع فيه طه من الأخطاء والكوارث. 

أخيراً، فقد نشر العرب المعاصرون عن ابن خلدون باللغة العربية وباللغات الأجنبية، فمن ذلك مثلاً كتب المعاصرون باللغة العربية محمد عبدالله عنان “ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري”، وكذلك ” فلسفة ابن خلدون” لعمر فرُّوخ ، ومحاضرات عن ابن خلدون لمحمد الخضر حسين. أما اللغات الأجنبية فقد كتب مثلاً الدكتور كامل عياد باللغة الالمانية “نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع”، وبالفرنسية كتب الدكتور صبحي محمصاني “آراء ابن خلدون الاقتصادية”، وبالإيطالية كتب علي نور الدين العنسي “التفكير الاقتصادي عند ابن خلدون”، وغيرهم ممن كتبوا باللغات المختلفة. ولمقدمة ابن خلدون ترجمتان كاملتان؛ إحداهما بالتركية، والثانية بالفرنسية. والترجمة التركية أقدم من الطبعات العربية، فلا مجال للشك في أنها اعتمدت على نسخ خطية، وتمت على أيدي عالمين من علماء الدولة العثمانية؛ فقد أقدم شيخ الإسلام “بيري زاده صاحب أفندي” على ترجمة المقدمة، وأنجز ترجمة الفصول الرئيسة الخمسة منها، ثم أتى المؤرخ جودت باشا وأتم عمل شيخ الإسلام المشار إليه، بترجمة الفصل الرئيس السادس أيضاً. وأما الترجمة الفرنسية فقد تمت على يد البارون “دون سلان”، ونشرت في باريس في ثلاثة مجلدات.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى