لماذا علينا جميعا قراءة الشعر القديم في الوقت الحالي؟

 دايزي دان 


حجم الخط-+=

ترجمة: فلاح حسن

أشارت الكاتبةُ الكلاسيكيةُ إديث هاميلتون في عامِ 1942 إلى النقاطِ المظلمةِ التي تجتاحُ عوالمَ الأسطورةِ اليونانية. قراءةُ الشعرِ القديمِ اليومَ تجعلك تدركُ كيف نمتْ تلك البقعُ المظلمة. قد تكونُ أشياءَ شريرة، ولكنّها كالثقبِ الأسودِ الذي يمتصك إلى داخله، وهي كذلك تذكيرٌ للقوةِ المستمرةِ للقصيدةِ الكلاسيكيةِ مع مرورِ الوقت. لا يوجدُ شيءٌ مثل الشعرِ القديمِ ليجعلك تعيدُ تقييمَ وترتيبَ أولوياتك. بإمكانِ هوميروس أو فيرجيل أو أوفيد أنّ يجعلك تشعرُ أنّك صغيرُ الحجمِ وغير ذي أهمية، ولكنّ هذه المشاعرَ التي قد تبدو سلبيةً تستحقُ منك الصبرَ عليها للحصولِ على الوضوحِ الذي تجلبه في النهايةٍ إلى الصورةِ الكاملةِ الأكبر. وإذا سمحتم لهم فقط، يمكنُ لشعراءِ اليونانِ القديمةِ وروما أنّ يجلبوا لكم نوعَ الحياةِ الذي تريدون العيشَ فيه، وبنحوٍ أوضح، الشخص الذي تريدون أنّ تكونوا عليه، هم بارعون جداً في قطعِ الطريقِ على ضجيجِ الحياةِ الحديثة.

يلتقطُ أوفيد روحَ العصرِ الحاليّ أكثر من أيّ كاتبٍ معاصرٍ أعرفه. إنّه أمرٌ رائع، لا سيما إذا عرفنا أنّه ماتَ في أوائلِ القرنِ الأولِ الميلادي، لكنّ كلماتهُ اكتسبتْ أهميةً جديدةً في السنواتِ القليلةِ الماضية. بدتْ قصيدته التحولات (Metamorphost) غريبةً وخيالية، لا سيما مع قصصه عن الفتياتِ، التي تُمسخ إلى أشجارٍ، والمنحوتاتُ التي تتحولُ إلى لحمٍ حي، قصائده حالياً تقرأُ بانسيابيةٍ كسهولةِ الدخولِ في محادثاتٍ بشرية. فيذكرُ في إحدى المراتِ أنّ هناك شابٌ يدعى أوكاتيون وبينما هو في رحلةِ صيدٍ إذ يُصادفُ الإلهة ديانا وهي تستحم. وفي فورةِ غضبها تحوله الإلهة إلى أيل. غير قادرٍ على الشعورِ بشيء سواءً في منزلهِ أو في قصره السابقِ أو حتى في الغابةِ مع الحيواناتِ الأخرى -يعوق العار طريقه والخوف كذلك- يتمزقُ أكتايون من قبلَ كلابِ صيده ومن إحساسه بالعزلةِ أيضا. ليس هناك شيء أكثر إزعاجاً من كونك غيرَ مرتاحٍ لشكلك الخارجي. في حين هنالك أيضا شخصياتٌ أخرى من هذه التحولاتِ هي أكثرُ حظاً من أوكاتيون. يتغيرُ شكلهم ليبدو بنحوٍ أفضلَ ممّا هم عليه حقا. توحي لي معاناةُ أوكاتيون أنّ الهروبَ من الواقعِ لا ينبغي أنّ يكون السببُ الرئيس لقراءةِ الشعرِ القديمِ اليوم. هنالك بالتأكيدِ تسليةٌ ومرحٌ، ويمكنُ العثورَ عليهما في قصائدِ الشربِ لهوراس -nunc est bibendum- أو مغامراتِ أوديسيوس. حتى إنّ هنالك مناقشةٌ حيةٌ حولَ مميزاتِ الريفِ على المدينة، كميزةِ التنقلِ اليومي مثلاً التي يطرحها فيرجل. ولكنْ عندما يتحولُ الشعراءُ إلى صراعاتهم وقلقهم السياسيَ فإنّ أصواتهم تبدو حديثةً جدًا. لا تقرأها من أجلِ الهروبِ من الواقعِ بل على العكس- لقد وجدوا الكلماتَ للتعبيرِ عن النقاطِ المظلمةُ التي ما زلنا نواجهها حتى اليوم.

قبلَ مدةٍ طويلةٍ من ولادةِ أوفيد، وتحديداً في القرنِ الخامسِ قبلَ الميلاد، وضعَ الكتّابُ التراجيديون اليونانيون الحالةَ البشريةَ تحت المجهر. سمحَ الشاعرُ يوربيديس Euripides في كتابه الباخوسيات Baccha بإظهارِ الصراعِ بين رغباتنا الداخليةِ الحيوانيةِ الجامحةِ والشعورِ الخارجي بالاستقامة. هل من الأفضلِ قمعُ رغباتك أو إعطاءُ العنانِ للفضول؟ في المسرحيةِ حيث تكونُ سمعةُ الملكِ على المحك، ضعْ نفسك في مكانه وستدركُ حينها أنّ الرهاناتِ أصبحت أعلى إلى حدٍ ما. ويمكنُ لأي شخصٍ اليومَ أنّ يعاني من الإذلالِ العلني بسببِ اختياره الخاطئ. دع نفسك تنطلقُ على مسؤوليتك. لقد أدركَ الشعراءُ اليونانيون أنّ الأوضاعَ المتطرفةَ تبرزُ أفضلَ وأسوأ شيءٍ فينا. هذا هو السببُ في أنّهم يحبون أنّ يقدموا شخصياتهم بخياراتٍ مستحيلة. إنّ شخصيةَ أنتيجون التي صنعها سوفوكليس كانت الملهمةَ للفائزةِ بجائزةِ المرأةِ عن الخيالِ هذا العامِ، الكاتبةٌ كاملة شمسى في روايتها Home Fire، حيث تجبرُ بطلها على الاختيارِ بين طاعةِ قانونِ خالها وسلطة الآلهة. وفي اختيارِ طريقةِ دفنِ أخيها الراحل، الذي أعدم زعماً أنّه خائن، كرمتْ أنتيجون القانونَ الإلهي. وقد دخلت التاريخَ واحدةً من أكبر المتظاهرين السياسيين. وعندما أحاولُ التعبيرَ عن الشعورِ بعدمِ الارتياحِ الذي أشعرُ به تجاه السياسة اليوم، فإنّ الأمرُ ليس بالجديدِ، فقد عبّرَ الشعراءُ الرومانيون عن عدمِ الارتياحِ هذا تجاه سياسيهم أيضا. إنّ الأمرَ في روما في أواخرِ القرنِ الأولِ قبل الميلاد، لم يكنْ مختلفًا كثيراً عن البيتِ الأبيضِ أو ويستمنستر. صعودُ يوليوس قيصر، بومبي العظيم، والسياساتُ الشعبيةُ التي هددتْ الوضعَ الراهنَ كانتْ بعيدةً كلُ البعدِ عن تبنيها عالمياً. الشاعرُ اللاتيني كاتولوس، المشهورُ بقصائده العاطفيةَ لعشيقته ليسبيا تصارعَ مع سؤال جديد: كيف تقومُ بأرضاءِ الناسِ على حسابِ ذاتك؟ يوصي في البدايةِ بعدم المبالاة:

“ليس لديّ أيّ رغبةٍ على الإطلاقِ في إرضائك يا قيصر، ولا أن أعرف أدنى شيءٍ عنك”

وإذا كانت اللامبالاةُ هذه لا تعمل؟ فارفع درجةَ حرارةِ النقدِ دون فقدانِ روحُ الدعابة. وحتى حقيقةَ أنّ قيصرَ كان صديقًا لوالده، لم يمنعْ كاتولوس من وصفه بأنّه “مقامر مغرم وقح” بل أسوأ من ذلك في إحدى قصائده اللاذعة. وحينما وصلت رسالته شعرَ قيصرُ بالاشمئزازِ من القصائد، ولكنّه قد غفرَ لمؤلفِ هذه القصائد. أتحدى أيّ شخصٍ أنّ يقرأ كتاباً من الجدلِ الروماني ويقاومَ الإيماءَ بالموافقةِ على ما يذكرُ فيه في الأقل لبعضهم. في أفضل حالاتها، تُقرأ أعمالُ الشعراءِ القدماء مثل التعليقِ في وسائلِ التواصلِ الاجتماعي في وقتنا الحالي، فهي مليئةٌ بالحقائقِ غير المريحةِ ولكن من الضروري معرفتها وتسليط الضوءِ على ما يهم حقا. لقد أدت الزيادةُ الكبيرةُ في ترجمات النصوصِ الكلاسيكيةِ في السنواتِ الأخيرةِ إلى إحياءِ الشعراءِ القدماء، ولم تعد اللغةُ تشكلُ حاجزًا أمام فهمنا. أراهنُ أنّ ساعةً بصحبةِ هؤلاء الشعراءِ تكشفُ المزيدَ عن حقائقِ عالمنا أكثر من ألف تويتةٍ في تويتر أو منشورٍ في الإنستقرام من أيّ وقت مضى.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى