لعنة كاهنة المستنقع
قصة قصيرة

كانت الأجواء خانقة في ذلك المستنقع، رطوبة ثقيلة تحيط بالمكان كستار غامض يحجب الأنفاس. بدأت الحكاية حينما قرر ثلاثة أصدقاء مغامرين زيارة تلك الأرض الملعونة، التي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها منذ عشرات السنين. كانوا يريدون توثيق الأسطورة، كشف زيفها أو إثبات حقيقتها.
في ذلك المكان المنسي، حيث تختلط الأرض بالماء، والظلال بالضوء الخافت، تكمن لعنة أبدية حُبست فيها أرواح لا تنام قررت “لارا” ورفاقها مواجهة هذا المجهول، لم يدركوا أنهم على وشك دخول متاهة لا مخرج منها. كان المستنقع يتنفس، وكأنه كائن حي ينتظرهم بصبر شيطاني وكانت الأشجار تنحني بأغصانها الثقيلة كأنها أذرع أشباح تسعى للإمساك بهم، والماء الراكد يعكس وجوههم بتشوه مرعب، كأنه يحاكي مصائرهم الملعونة.
كانت لارا أكثرهم شجاعة وشعرها الأسود الطويل يتماوج مع الرياح الثقيلة، وعيناها الواسعتان تلمعان بشغف المعرفة. تقدمت بحذر، حاملة الكاميرا تظن أنها ستوثق الأسطورة، كانت تلاحق شبحًا غامضًا يُقال إنه يظهر على ضفاف المستنقع في الليالي القمرية وخلفها تبعها جيسون، الذي ضحك ساخرًا من كل هذا، وماريا التي ترتجف خوفًا.
حين وصلوا إلى قلب المستنقع، بدأ الهواء يزداد ثقلًا، كأن شيئًا خفيًا يراقبهم ارتجف جسد ماريا وهي تهمس: هذا المكان… لا يبدو طبيعيًا.
لكن جيسون ضحك بصوت عالٍ: أنتِ تصدقين كل تلك الخرافات؟ هذا مجرد مستنقع!
غير أن لارا شعرت بشيء مختلف. كانت الأرض تئن تحت أقدامهم، والمياه الراكدة تتراقص كأنها تحيا.
ظهر ذاك المنزل الخشبي أمامهم فجأة، متهاويًا ومظلمًا كأنما الزمن توقف داخله وكانت النوافذ مفتوحة على فراغ أسود كالموت، والباب مائلًا كأنه يدعوهم للدخول.
تقدمت لارا دون تردد كعادتها، وفتحته ببطء. صرخة الباب المتهالك شقت الصمت، وكأنها تحية مرعبة من الماضي. داخل المنزل، كانت الرائحة خانقة، مزيج من العفن والموت القديم. شعرت لارا بوخزة باردة في قلبها، لكن الفضول قادها إلى الداخل حيث كانت الجدران مغطاة بطبقة سميكة من الطحالب السوداء وعلى الأرض تناثرت عظام صغيرة، ربما لطيور أو قوارض. تراجعت ماريا، وهمست بصوت متقطع: لا أريد البقاء هنا… هذا المكان… ملعون. لكن لارا تجاهلتها وتقدمت نحو غرفة كانت أبوابها مغلقة بإحكام. دفعت الباب، ليظهر أمامهم مشهد لا يُنسى غرفة دائرية جدرانها مغطاة برسومات شيطانية وأحرف ورسوم غريبة كُتبت بالدم الجاف وفي منتصف الغرفة كانت دمية مشوهة، صنعت من قماش قديم وعظام مكسورة. ومكان عيناها فارغ، تحدقان في الفراغ بنحو مرعب.
بدأت الغرفة تهتز، وارتفع صوت غناء خافت، كأنه يخرج من أعماق الجدران كان الصوت لامرأة تغني بلحن حزين مشؤوم: في يومٍ ما… سأموت… وسآخذكم جميعًا معي…
تجمدت الأجساد، وبدأت الدمية تتحرك ببطء، وتهتز كأنما دبت فيها الحياة. صرخت ماريا، وركضت نحو الباب، لكنه أغلق بعنف أمامها. حاول جيسون كسره، لكن الباب لم يتحرك، وكأنه جدار من الحديد، بدأت الأرض تهتز من تحتهم، وارتفعت أصوات الهمسات الشيطانية
نظرت لارا إلى الدمية، لترى ملامحها تتغير وتتخذ وجها بشريًا يتشكل عليها، ملامح امرأة مشوهة، لها ابتسامة شريرة وعينان ملتهبتان بالكراهية.
صرخت الدمية بصوت مرعب: أنتم هنا… لتحلوا مكاني… لأتحرر من لعنتي! بدأت جدران الغرفة تنزف دماءً سوداء، تسيل على الأرض كأنهار شيطانية. تعثرت ماريا وسقطت في بركة الدماء، بدأ جسد ماريا يتلوى بألم لا يوصف، جلدها يتشقق ويتقشر، ثم بدأ في الذوبان كأنه شمع يُصهر على نار جهنمية احترقت ملامح وجهها، وبدأت عيناها تذوبان في محجريهما كسائل أسود لزج وتساقطت خصلات شعرها، والتصقت بجلدها الذائب الذي انساب ببطء، كقطع لحم متفحمة تتساقط على الأرض. انفجرت فقاعات دموية من جسدها، ورائحة الحرق اللاذعة ملأت المكان، كانت تصرخ، لكن صوتها تحول إلى غرغرة مشؤومة، كأنها تغرق في جحيم من الألم الذي لا نهاية له.
حاولت لارا أن تمد لها يدها، لكن شيئًا خفيًا سحبها بقوة إلى الجدار، حيث اختفت كأنها ابتلعتها الظلال. بدأ جيسون بالصراخ بجنون، يضرب الجدران بقبضتيه حتى نزفت يداه، لكنه لم يستطع الخروج. كانت الغرفة قد تحولت إلى فخ أبدي، جدرانها تتحرك، وأصوات الموتى تصرخ من كل زاوية.
وجدت لارا نفسها في نسخة مشوهة ومظلمة من المنزل وكأنه انعكاس في مرآة شيطانية عالم بين الحياة والموت كل شيء بدا مألوفًا لكنه مغطى بطبقة من الظلام الثقيل الذي لا ينتمي لعالم الأحياء. الهواء بارد ويثقل صدرها، شعرت ملايين الأرواح الهائمة تحيط بها من كل جانب والظلال تتحرك بهدوء، تراقبها بعيون لا تُرى، همسات الموتى تتردد بين الجدران، وكأن هذا المكان هو نقطة العبور بين الحياة والفناء الأبدي.
وهنا شاهدت الدمية التي تحولت إلى شبح امرأة ترتدي ثيابًا ممزقة، وجهها مشوه وعيناها داميتان، وقفت أمام لارا وقالت بصوت بارد: أنتِ التي أتيتِ إليّ… أنتِ التي ستحلين مكاني… شعرت لارا بجسدها يتجمد، لم تستطع الحركة أو الصراخ، كانت الروح الملعونة تقترب منها ببطء، عينان ميتتان تخترقان أعماق روحها. تسلل الظلام إلى عينيها، وبدأت ترى ذكريات ليست لها ولم تعشها من قبل، أرواحًا تعذبت في هذا المكان، نساءً وأطفالًا صرخوا حتى فقدوا أصواتهم، جثثًا تعفنت في الطين. بدأت تشعر بالألم، الألم الذي عانته هذه الكاهنة قبل موتها، العذاب الذي دفعها للانتقام من كل من يدخل أرضها. هي فعليا لم تمت تمرد عليها أحد شياطينها واقتنص أول فرصة للتحرر، ولم يُمنحها الموت ولا نعمة الفناء، بل حبس روحها في ظلام لا نهائي، انتقامًا منه لأنها سخرته بسحرها وأذلته لخدمتها. ظلت هائمة بين العوالم، معلقة بين الحياة والموت، لا تنتمي لأي منهما. فني جسدها وتحلل، وتحولت إلى كيان بلا شكل، يبحث بجنون عن جسد جديد يعيدها إلى الوجود. وفي لحظة صمت مخيفة، فتحت لارا فمها وبدأت تغني، بلحن مشؤوم تعرفه دون أن تتعلمه كانت كلمات الأغنية تخرج منها دون إرادتها، كلمات الموت والدمار وكان جسدها يتحرك بلا سيطرة، وبدأت تتجه نحو الدمية، التي فتحت ذراعيها لاستقبالها. وفي اللحظة التي لمست فيها الدمية، اشتعلت الغرفة بنار سوداء، وسمع صدى صراخ لارا يملأ المستنقع. ثم عم السكون مرة أخرى.
عندما أشرقت الشمس على المستنقع في اليوم التالي، لم يكن هناك أي أثر للمنزل أو لارا أو أصدقائها. الدمية لا غير تجلس على ضفة الماء، بملامح تشبه فتاة شابة بشعر أسود طويل وعيناها الفارغتان تلمعان بانتظار ضحايا جدد، وأغنية الكاهنة تتردد في الأرجاء كأنها دعوة ملعونة لمن يجرؤ على الاقتراب.
مروة عبد المجيد: قاصة من مصر.