لاروشفوكو (1613-1680)

Great Thinkers


حجم الخط-+=

ترجمة: موسى جعفر

ثمة اعتقاد أن الفلسفة الجيدة يجب أن تكون صعبة الفهم ووعرة ومحيرة قليلًا، كما لو أنها ترجمت عن الألمانية بركاكة. لكن عاش في مطلع القرن الحديث فيلسوف فرنسي آمن بطريقة أخرى لتقديم أفكاره. وهو رجل ألّف كتيّبًا تقارب صفحاته الستين لكنه يعد بجدارة أحد درر الفلسفة! كان كتيبه ملخص ملاحظات سوداوية لاذعة عن الوضع البشري كل منها بطول جملة أو جملتين، وفيه عدد استثنائي من الدروس الحكيمة الفريدة المواسية التي تأتي في وقتها بخصوص عصرنا المُشتَت والحائر أخلاقيًا.

ولد الدوق دي لاروشفوكو في باريس عام 1613 ورغم مزاياه الكثيرة (الثروة والعلاقات والوسامة والاسم التاريخي الرائع) كانت حياته صعبة وبائسة في الغالب: أحب دوقتين لم تعاملاه جيدًا، وانتهى به المطاف في السجن بعد مناورة سياسية فاشلة لكن مشرِّفة، ونفي من محبوبته باريس في أربع مناسبات، ولم يتدرج في المحكمة كما أراد، وكاد أن يصبح أعمى بعد أن أصيبت عينه في أثناء الانقلاب، وخسر معظم أمواله، ونشر أعدائه كتابًا مليئًا بالإهانات لناس أحبهم واعتمد عليهم وزعموا كذبًا أنها مذكراته! فرفضوه ولم يؤمنوا ببراءته. نظرًا لكل الخيانة والحبس والحرمان والإصابة والتشهير والسرقة الأدبية، يمكن أن يسامح لاروشفوكو على إعلانه أنه اكتفى من الحياة النشطة وسيلتجئ إلى مساعٍ تأملية أهدأ. علق سيفه وأمضى وقته في حُجراتِ معيشة علمين من أعلام الثقافة في عصره هما المدام دي لا فايت والمركيزة دي سابليه، اللتان كانتا تدعيان الكُتَّاب والفنانين إلى صالونيهما الباريسي الأدبي بانتظام لمناقشة مواضيع الوجود الجسام وتناول وجبات خفيفة وعصير ليمون.

تطلب إقناع المستمعين مهارات خاصة أدى إلى نحت عقل لاروشفوكو وعمله، لأن الصالونات حبذت الفطنة والبداهة، ولم تكن قاعات محاضرات ولا حلقات دراسية، وليس فيها مجال للتسامح مع الكآبة والتباهي. كانت الصالونات المكان الذي طوّر فيه لاروشفوكو أسلوبه الأدبي الذي اشتهر به: وهو المَثَل أو الحِكمة، وهو عبارة بليغة تصور ببراعة جانبًا مظلمًا من الروح البشرية، مذكرًا إيانا بحقائق حكيمة كثيرًا ما تكون غير مريحة. وإن كان المثل في يد الشخص المناسب فإنه يوجه لكمته في أقل من ثلاث ثوانٍ، كأنه يتنافس مع زمن تقديم فطيرة الهليون.

أتم لاروشفوكو حكمه ألـ504 التي صنعت اسمه وشحذها في الصالونات. كان يراقب كيف يتفاعل رفاقه الضيوف ويعدّل عمله وفقًا لذلك. وغطّت حكمه جميع المواضيع النفسية رغم تكرار مواضيع مثل الغيرة والحسد والحب والطموح. وعادة ما تبدأ حكمه بمخاطبة القارئ بصيغة «نحن» أو «المرء»، ليقنعه بإكراه وديع. ثم تُقلب الحكمةُ فضيلةً مقبولة عن الطبيعة البشرية باتجاه تشكيكي أو تهكمي. ولا يأتي دور اللسعة إلا في الجزء الأخير منها، وغالبًا ما تضحكنا كما يحدث حين نجبر على التسليم بخطأ موقف سابق عاطفي أو زائف.

ولعل أفضل حكم لاروشفوكو وأكثرها تقليدية هي: «نحن جميعا لدينا قوة كافية لاحتمال مِحَن الآخرين».

تتبعها أخرى بذات التأثير: «ما كان بعضنا ليسقط في الحب، إن لم يسمع أن ثمة شيئا كهذا».

ولا ننسى التي لا تقل عنها في الكمال: «ذاك الذي يرفض الإطراء أول مرة إنما يرفضه لأنه يريد سماعه مرة ثانية».

قال فولتير إن حكم لاروشفوكو كانت أكثر الكتب تأثيرًا في نحت شخصية الفرنسيين، ومنحهم ميلهم للانعكاسات النفسية ودقتهم وتهكمهم. يقبع خلف كل حكمة من حكمه تحدٍ لنظرة عن أنفسنا. وتلذذ لاروشفوكو بكشف الدَين الذي تَدِين به الطيبة للغرور وأكد على أننا لسنا بذاك البعد عن كوننا شخصيات مغرورة متعجرفة أنانية تافهة، وفي الحقيقة لا نكون أقرب إليها عندما نثق في صلاحنا! وكان مرتابًا من الحب العاطفي لمعاناته الشديدة بسببه: 

«لا يمل العشاق من صحبة بعضهم لأنهم أبدًا لا يتحدثون عن شيء خلا أنفسهم».

«إن قيَّم المرءُ الحبَّ بناءً على أعظم أثر ينتجه، فإنه غالبًا ما سيجدُ الكراهيةَ لا العطف».

«قول إنَّ فلانًا لا يغازل أبدًا لهو نوع من المغازلة في حد ذاته».

*

كتب نيتشه حكمًا مجموعة في كتابه إنسان مفرط في إنسانيته، وقد ألهمه لاروشفوكو كثيرًا، رغم أن أقواله تفتقر إلى مزيج الفرنسي من السوداوية والحس الجيد بشدة. وقال: «تحسر عدة رجال لأن امرأتهم خطفت منهم، أما الغالبية فلأن لا أحد أراد خطفها».

آمن معظم الفلاسفة -باستثناء قليل- أن أسلوب الكاتب ليس بمشكلة ما دامت الفكرة مهمة، لذا لم يجدوا موجبًا للكتابة بأناقة وظرافة وإيجاز. لكن لاروشفوكو اعتقد العكس، لقد أراد أن تقنع أفكاره ذوي الوقت الضيق ولن يكونوا بجانبه بالضرورة، لذا كتب بطريقته الخاصة. أغلبنا مشتت الذهن بحق، فإن أراد أحدهم أن يوصل إلينا فكرة فعليه استخدام جميع أدوات الفن للاستحواذ على انتباهنا وتمديد وقت إصغائنا. كان تاريخ الفلسفة ليختلفَ كثيرًا لو تخيل ممارسوها أنهم يكتبون لجمهور ضَجِر ساذج ذي عقول متعرجة يقعدُ في صالون باريسي كثير الكلام. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى