كيف تُجابهُ النَّبذ وتنتقمُ كما فعل إدغار آلان بو 

كاثرين باب-موغيرا تكتب عن مزية الإصرار للوصول إلى ما تطمح


حجم الخط-+=

ترجمة: بلقيس الكثيري

كان إدغار آلان بو في السابعة عشرة من عمره عندما حَزمَ -بمعيّة جون بو- أمتعتَه من ملابس وملصقات وكُتب في عربة العائلة، وارتحلَ قاطعًا مسافة سبعين ميلًا غربًا إلى شارلوتسفيل في فيرجينيا. في تلك الأثناء كان توماس جيفرسون قد أسسَ جامعة بين تِلال المدينة لخدمة أبناء المقاطعة -وعلى سبيل التعيين- أبنائها الذين بإمكانهم دفع المال لقضاء بضع سنوات في السُّكر، والقمار والعربدة، مع حضور محاضرة -على سبيل الاستثناء- وتقديم امتحان أو امتحانين. وجد إدغار نفسَه في تلك الأجواء، وتاقَ لإثبات وجوده في هذه البيئة الأكاديمية والاجتماعية المتجددة. لربما كان له أسبابه التي دفعتْه لمغادرة ريتشموند مسرورًا، بعد أن عاشَ سنوات مراهقة مضنية بسبب علاقته المتوترة مع الرجل الذي كِفله وتبنّاه. إذ ولّت رابطة الألفة والمودة بينهما منذ كان إدغار طفلًا، وتحديدًا عندما علِم إدغار عن أطفال جون آلان غير الشرعيين الذين تبنّاهم في مكان آخر من ريتشموند. مما دفعَ إدغار لتصديق الشائعات القائلة بأنّ أمه إليزا التي أنجبتْه حملتْ بأصغر أبنائها من رجل آخر غير زوجها. عندما كتبَ جون آلان إلى هنري شقيق إدغار عام 1824م، أشار إلى روزالي بأنها أختهما غير الشقيقة وأضاف متورِّعًا –في حال لم تُفهم إشارته-: “ومعاذ الله يا عزيزي هنري أن نؤاخذَ الحيّ بجريرة الميّت.” وفي الرسالة نفسها أظهر تبرّمه من أن إدغار “لا يفعل شيئًا ويبدو لجميع أفراد الأسرة بائسًا ومتجهمًا ومتضايقًا.” كان جون آلان قد بدأ بالاستياء من إعالة الصبي، فكيف لهذا اليتيم المراهق المعسر قبول كل ما يمدُّ به إليه؟ لِمَ لا يحسّن وضعه اعتمادًا على نفسه كما فعل جون آلان؟ ومما لا شك فيه أن جون آلان -حينئذ- قد خرج من وضع حرِج بفضل عمه ذي الثروة بعد أن ورِث عنه ثروته، ومع ذلك لم يحظَ بالنّعم التي تمتّع بها إدغار، كالتحاقه بالجامعة. إذا كان إدغار قد فرَّ من هذه التقريعات الرنّانة، لم يَفتْه أن يدرك أنه إنما كان يُهيّأ للفشل. فقبل أن يتركه جون آلان في شارلوتسفيل في فبراير/شباط من عام 1826م، أعطاه مبلغًا لا يتجاوز مائة وعشر دولارات فقط، في حين كانت الرسوم الدراسية تكلّف قرابة ثلاثمائة وخمسين دولارًا. لك أن تتخيل كيف تبدو الأمور في وضع كهذا عندما تكون بمفردك لأول مرة، وتأبى الاعتراف بمدى تيهك… لا تريد أن تتسوّل ولا الرجوع من حيث أتيتَ. فتبدأ باقتراض المال لتغطية الهوّة التي تزداد اتساعًا بين مدخراتك ونفقاتك. في تلك الأيام لو كان مندوبو المؤسسات المصرفية يتجولون خارج مقر اتحاد طلاب جامعة فيرجينيا بأقلامهم ودفاتر القروض المجانية لَكان إدغار من أوائل الموقّعين. بطبيعة الحال استجدى إدغار في البداية بعض التجار في المدينة وحصل على بعض المال، لكنه لم يكن كافيًا. فما كان من إدغار إلا أن يشرب قنينتي خمر ويجلس على طاولة القمار مطقطقًا أصابعه، متأملًا الأفضل. وبعد جولات معدودة ازدادت الهوّة عمقًا، واستمر في اللعب والخسارة، خسارة تلو خسارة حتى أصبح مديونًا بألفي دولار، أي ما يعادل خمسين ألف دولار في أيامنا. لم يعد بإمكان إدغار البقاء في شارلوتسفيل، ولم يكن لديه خيار سوى الرجوع إلى المنزل بخفي حنين جارًّا أذيال الخيبة، والدائنون يتعقبّونه من خلفه.

ابتهج جون آلان بهجة المتنمّرين، ورفض دفع ديون إدغار وعَرَض عليه وظيفة غير مدفوعة الأجر في أحد مكاتبه. وعندما وصلَ محصلو الديون إلى منزل العائلة المبهرج لاحتجاز ممتلكات إدغار، لم يجدوا لدى هذا الأخير ما يمكن مصادرته- لا تلفزيون، ولا أجهزة ألعاب[1]، ناهيك عن أن يكون لديه سيارة كورولا. على إثر ذلك، نشبَ خلاف حاد بين الأب وابنه بالتبني، وقرر إدغار ترك منزل جون آلان قبل أن يُطرد منه، أو بالأحرى حين طُرد. غادر المنزل الكبير إلى وجهة غير معروفة، وأقسم لجون آلان في رسالة: “سأجد مكانًا في هذا العالم الواسع حيث أُعامل معاملة حسنة، لا كما عاملتني”.  

طلب إدغار في رسالة الهجر ذاتها من جون آلان أن يرسل إليه مالًا لبدء حياته، وكذلك أمتعته وحقيبة ملابسه. لكن جون لم يجب، وفي اليوم التالي أرسل إدغار رسالة أخرى طغتْ فيها نبرة اليأس: “أنا في أمس الحاجة؛ لم آكل شيئًا منذ صباح البارحة.” واعترفَ متخليًا عن كبريائه: “إنني أتسكّع في الشوارع ولا أجد مكانًا أنام فيه ليلًا… أنا منهك”. كان نبذُ أحدهم من قبيلته -في زمنٍ خلا- يُعد حُكمًا فعليًا بالإعدام. فالتخلي عن إنسان في سن مبكّر يعني أن تتركه للجوع، أو البرد أو مواجهة الذئاب والنمور وحده. ولا غرابة أن نستصعب ذلك لأن الروابط الاجتماعية حاجة ضرورية لبقائنا، ونظامنا كله تطوّر بغية السلامة من النبذ والهجر. إن هذه المعاناة لا تقتصر على ما تخلّفه من صراع عقلي وعاطفي ونفسي -والرب وحده يعلم أي نوع من الآلام هذه- بل ما تخلّفه من ألم جسدي. إذ توصل الباحثون إلى أن الأدوية التي تُصرف بدون وصفة طبية مثل تايلينول قد تخفف من وطأة هذا الألم، وكأنّ الطرد من منزل والديك يشبه الصداع النصفي أو تمزّق عضلات الرّكبة. إن النّبذ يؤثرُ علينا تأثيرًا عميقًا، فلا غرو أن نخشاه ونتوجس منه، حتى إننا نشعر به بنحوٍ غير مباشر في تجارب الآخرين. لهذا السبب لا نغضُّ الطرف عن مشاهدة وثائقيات اليوتيوب المعنونة بـ “حاول ألا تستسلم”، وهو السبب ذاته الذي يثير فينا الرغبة بالتوقف عن قراءة مجموعة رسائل إدغار بو ومناشدات المراهق البائسة، والرغبة في إلقاء الكتاب من النافذة، أو الهرب إلى مكان تنعدم فيه الخصوصية.

لقد خلصت استطلاعات عديدة إلى أن الخوف الشديد من النبذ أو الرفض يفسّر لماذا تتصدّر الرهبة من التحدث أمام الجمهور قائمة مثيرات الخوف لدى الناس أكثر من خوفهم من الأفاعي والعناكب والمرتفعات والدفن أحياءً ومحاكم التفتيش الإسبانية. لا شيء يثير حدة التركيز في العقل كالوعي بالذات حتى إنك قد تشعر في اللحظة الآنية بخشبة المنصة الوهمية دبقة تحت راحتي يديك مع تدفق ريقك لا شعوريًا في حلقك، لدرجة أنك ربما تشعر برغبة في أن تضحك على نفسك مع أولئك الذين يضحكون عليك. بيد أننا جميعًا -بلا استثناء- سنمرُّ بحالات رفض ونبذ في مرحلة ما من حياتنا، مما يجعل من الأهمية بمكان أن نفهم كيف نتخذ رد فعل صحيح، وكيف نحوّل مرارة النبذ إلى حافزٍ لاتخاذ قرار حماسي متّقد بغض النظر عن العُمر والموقف كما فعل إدغار. 

لقد كتب إدغار في رسالة أخرى لجون آلان في ذلك العام: “إذا قررتَ التخلي عني، فإن طموحي يزداد اتقادًا، وسيسمعُ العالم كله عن الابن الذي ظننتَ أنه غير جدير بالاهتمام.” هل استسلمَ؟ قطعًا لا. بل كانت تلك نقطة تحوّل جعلتْ إدغار أكثر طموحًا وإصرارًا للوصول إلى ما يطمح، لأنه إذا لم يفعل فسيُثبتُ صحة ما اعتقدَه جون آلان بأنه فتى عاطل وفاشل لا يصلح لشيء. صعدَ إدغار على متن سفينة من ريتشموند إلى بوسطن في ماساتشوستس، متخذًا اسمًا مستعارًا. وفي الوقت الذي كان يتضوّر جوعًا ويصارع بحثًا عن عمل، دفعَ المال من جيبه لينشر كتابه الأول وهو مجموعة من القصائد تحت اسم “تيمورلنك[2]”. لا يتعيّن عليك أن تقلّد تصرفات إدغار وتلعب ضمن قواعد اللعبة ذاتها، كلُّ ما عليك أن تتبعَ الخطوات الموضحة أدناه:

الخطوة الأولى: نجاحُك وسيلتُك للانتقام

الانتقام –في عصر الأسلحة هذا- يبدو رسالة مريعة، لكن ما نتحدّث عنه هنا ليس شيئًا بهذا الرُّخص والجُبن، وإنّما الانتقام الذي سعى إليه إدغار انتقام عبر تحقيق النجاح (أي أن تثبتَ للجميع تفوّقك.) سواءً كنت منبوذًا من والديك أو شريكتك في حفل التخرّج أو من الكلية التي اخترتها، أو إذا كنت قد طُردت من عملك أو مررتَ بتجربة طلاق مفاجئة، فهذا هو الوقت المناسب لتضاعف طموحك وتجبر العالم على النظر إليك. آن الأوان لتضع بصمتك، وتثبت لوالدك الذي تبنّاك وجميع تلك المصابيح الخافتة في بلدك أنك الشخص الذي يعرف من يكون. أيًّا كانت الخطط التي أعددتها من قبل، نفّذها على نطاق أوسع. اجعلْ مهمتك أعظم، وأكثر ملحمية حتى يتسنّى لتحقيقها عُمر بطوله. هذه الخطوة منوطة بك وبتقديرك لذاتك أكثر من أي شيء آخر. نجاحك وسيلتك للانتقام من أجلك أنت، وعنايةً بذاتك. سيمنحك هذا إحساسًا هائلاً بالغاية في اللحظة التي قد تكون فيها متخبطًا بلا هدف. لذا شُد على قلبك، واستجمع أنفاسك، واقسم لنفسك أن هؤلاء سيندمون في يوم من الأيام – أيًّا كانوا- على اليوم الذي شككّوا فيه بقدراتك. حتى لو كنت كاثوليكيًا صالحًا، تميل للصفح وتتمنى الخير للآخرين بصرف النظر عما فعلوه بك، احرص أن تحتفظ بشيء من الرغبة في الانتقام. لأنه سيبعث فيك شعورًا دافئًا وأنت في النُّزل في سريرك بمفردك ليلًا، وأنت على مقعدك الضيق في الحافلات العمومية، وأثناء نوبتك الليلية وأنت في المقصورة الزجاجية في المتجر الصغير. هذا ما يريده منك إدغار-وبصريح العبارة- هذا ما ستحتاجه. 

الخطوة الثانية: غيّر موقعك

البعض يبقى حيث هو محاولًا تضميد جراحه. لا، لا تبقَ. اذهب! غادرْ! اركض. إن المكان الذي تُنبذ فيه يصبح نفسيًا سجنًا، ومضيّك للأمام تاركًا هذا المكان خلفك -إيذانا ببداية رحلة بطولية وأسطورية- خطوة معنوية كما هي خطوة مادية. يصف عالم الأنثروبولوجيا جوزيف كامبل هذه المغادرة الحاسمة على أنها بداية مصيرك الألِق، ونداء حقيقي للمغامرة. يقول كامبل: “لقد امتدَّ أفق الحياة المألوف، وأصبحت المفاهيم والمُثل والأنماط العاطفية القديمة لا تلائم الحاضر؛ حان وقت تجاوز العتبة”. مؤكد أنك قد تظن أنه ليس باستطاعتك تجاوز العتبة. بالطبع لا يمكنك. فقلةٌ هم الذين يستطيعون ذلك. بكل الأحوال افعلها. إن العمل يغلب التخطيط. ما عليك سوى حزم أمتعتك، سواء كان ذلك يعني الانتقال إلى أقرب مدينة من مقاطعتك الريفية والاقتراب من أضواء توبيكا الساطعة! أو إلى مدينة كبيرة على الساحل حيث تخيّرُ كل يوم بين الإيجار أو الغداء. لا يهم أين. إذا أخفقت في إخراج نفسك من مكان النبذ، فستفوّت على نفسك فرصة من فرص الحياة الرائعة. قد تكون مفلسًا، ومع ذلك ينتظرك عالم جديد. بماذا ستبرر ذلك؟ إن حياتك الآن بين أمرين إما (أ) أن تخرج عن نطاق السيطرة، أو (ب) أن تسلك منعطفًا أغرب وأعجب مما كنت تظن أنه ممكن. فكّر في أولئك الذين سبقوك وتشجّع. لقد غادرَ أجيال من صغار الفنانين، والمثقفين، والمعتوهين، والمعارضين من جميع الأطياف، مسقط رأسهم إلى محافل أكبر. فعلها بوذا، وكذلك يسوع وإدغار بو أيضًا. فلِمَ لا تفعلها أنت؟ ستكسبك هذ الخطوة حرية في التباهي بجودة أدائك في المكان الجديد- وربما تقنع أولئك غير المبالين بك بأنك في علاقة جديدة ومثيرة حتى وإن كنت لست كذلك. تسلّح بكل المكاسب، كاتخاذ صديق- سواء كان حقيقيًا أو اخترعه. أنت الآن مسؤول عن قصتك الخاصة، وأنت وحدك من يقرر أحداثها الكاذبة. 

خذ نصيحة إدغار بو: إذا ألفيتَ نفسك منبوذًا ومهانًا، فاتخذ لك اسمًا زائفًا، واهربْ في جنح الليل من المدينة. ولا تعدْ إلا عندما تكون غنيًا ومشهورًا وناجحًا أو –في الأقل- قادرًا على التظاهر بذلك بإقناع.

 

–  كاثرين باب-موغيرا: كاتبة وصحفية شاركت في عدة مجالات من بينها سلايت وكوارتز وسي إن بي سي وإن بي سي نيوز. وهي ضيفة دائمة في بودكاست وبرامج إذاعية، مع ظهورها في NPR و Lifehacker’s Upgrade.  تعيش في ريتشموند/ فيرجينيا مع زوجها وابنها الرضيع.  

 Xbox [1]

[2]  Tamerlane 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى