كانت كاتبة دوستويفسكي، ثم زوجتَه – أندرو كوفمان

أندرو كوفمان يكتب عن اللقاء الأول بين آنّا سنيتكينا والأديب الروسي


حجم الخط-+=

ترجمة: بلقيس الكثيري

كان صباح الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1866م باردًا وصافيًا حين خرجتِ الكاتبة الناسخة والطالبة الرشيقة ذات العشرين عامًا بردائها القطني الأسود من مسكن والدتها في بطرسبرغ. وعلى بُعد مسافة قصيرة توقفت عند بغوستيني دفور (الممر الكبير ذي المتاجر العديدة) في شارع نيفسكي بروسبكت. اشترتْ مزيدًا من الأقلام وحافظة أوراق جلدية علّ ذلك يضفي على محيّاها الغض سحنةً أكثر عملية وجدية. وصلتْ بعد نصف ساعة إلى المبنى الرمادي عند زاوية شارعي مالايا مشانسكايا وستوليارني بيرولوك. ارتقت السلالم ذات الإضاءة الخافتة إلى الطابق الثاني، وقرعتْ جرس باب الشقة رقم 13 حيث كان مديرُها المرتقَب في انتظارها. كان اسمها آنّا سنيتكينا، والرجل الذي سيجري معها مقابلة العمل في الرابعة والأربعين من عُمره. عُرِفَ في أنحاء المدينة بأنه سجين سابق وأرمل غامض، وروائي اسمه فيودور دوستويفسكي. نظرت أنَّا إلى ساعة يدها وابتسمتْ. لقد حضرتْ قبل الحادية عشرة والنصف ببضع دقائق كما طُلب منها. شابة نبيهة؛ ما كانت لتتأخر وتجازف بهذه الفرصة خاصة في هذا اليوم الذي تأمل أن تجد وظيفتها الأولى. فتحت الباب امرأة مكتنزة البدن وقصيرة القوام تلتفع بمِرْط أخضر مُربّع النسج. كانت قد قرأت أحدث أعمال دوستويفسكي (رواية الجريمة والعقاب بجزئيها)؛ مما جعلها تتساءل إن كان هذا المِرْط هو العنصر الذي استقى منه دوستويفسكي فكرة المِرط الصوفي في عائلة مارميلادوف ذي الشأن في أحداث الرواية. لم تجرؤ أن تسأل واكتفتْ بإخبار الخادمة أنها الفتاة التي تحدّث عنها معلمها الأستاذ أولخين، وأن ربّ البيت على موعد معها. قادتْ الخادمة فيدوسيا أنّا عبر الرواق المظلم إلى حجرة الطعام التي يوجد بها خزانة ذات أدراج وصندوقان ضخمان، يغطيهما بساط محبوك العَقد. دعتْ فيدوسيا الضيفة الشابة للجلوس وأخبرتها أن السيد سيأتي قريبًا. وبعد دقيقتين ظهر دوستويفسكي. طلب منها -بدون أخذٍ ورَد- أن تتفضل إلى مكتبه ريثما يحضر الشاي، ثم اختفى. جالتْ عينا أنَّا المكتبَ الضخم والمعتم  الذي تتصدره أريكة مكسوّة بقماش بُنيٍّ مهترئ، وبجوارها طاولة صغيرة مستديرة مغطاة بقماش، يقبع عليها مصباح واثنان أو ثلاث مجموعات صور. تضيء المكتب أشعة الشمس الضئيلة المتسللة عبر نافذتيه. 

ذكرت أنّا فيما بعد: “كان المكتب معتمًا وساكنًا. يحفُّه ظلام وصمت يشعرانك بالكآبة”.

كان ذلك النوع من المكاتب الذي قد تراه في منزل رجل متواضع الإمكانات، لا رجل يوشك أن يصبح أحد أهم المؤلفين في روسيا. دققتِ النظر في أرجاء المكتب علّها تحظى ببعض القرائن عن طبيعة هذا الرجل. أصخت السمع ترتقب سماع صوت أطفال لكن عبثًا. تساءلتْ عما إذا كانت المرأة شديدة الشحوب في اللوحة المعلّقة فوق الأريكة -بقبعتها وردائها الأسود- زوجته التي توفيت قبل عامين. (وكان ذلك ما علِمتْه فيما بعد). عاد الرجل الغامض الذي قابلتْه بعد بضع دقائق. حاولتْ أنّا جاهدة أن تبدي ثقتها بنفسها. كانت تنتظر هذه اللحظة لزمن أطول مما قد تكترث له الآن. طالما كان اسم دوستويفسكي مألوفًا في منزل آل سنيتكينا، فهو كاتب والدها المفضّل. وكلما ذُكر الأدب الحديث، تبرّم والدها قائلًا: “أي نوع من الكتّاب نرى هذه الأيام؟ في أيامي بزغ نجم بوشكين، وغوغول وجوكوفسكي. ومن بين الكتّاب الشباب الروائي دوستويفسكي مؤلف الفقراء [رواية]. كان هذا الكاتب موهبة حقيقية”. (استخدام الزمن الماضي هنا مقصود وليس سهوًا). ثم أردف: “لكنه تورّط في السياسة للأسف، وانتهى به الأمر في سيبيريا، واختفى هناك دون أن يترك أثرًا.” في عام 1859م حدثت المفاجأة التي سرّت والد أنّا عندما عاد دوستويفسكي إلى العاصمة، واستأنف الكتابة بقوة جديدة، بعد أن حُكم عليه بالسجن مدة أربع سنوات في سيبيريا، وأُلزم بالخدمة العسكرية مدة خمس سنوات أُخر. كان والد أنّا قارئًا نهمًا “لمجلة التايم” التي أسسها دوستويفسكي مع شقيقه ميخائيل. ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح جميع أفراد عائلة سنيتكينا يقرؤون لدوستويفسكي، لكن لم يكن من بينهم من يقرأ بمثل العاطفة الجياشة التي تقرأ بها أنّا.  

اكتسبت أعمال دوستويفسكي شهرة بين القراء المتعلمين أمثال غريغوري إيفانوفيتش الذي اشترك في مجلة التايم وغيرها من المجلات التي كانت تُعرف بـ “مجلات النوع العريض” وتُنشر أسبوعيًا أو كل أسبوعين. كانت هذه المواد الأدبية والفلسفية والصحفية ملخصات للنتاج الفكري الروسي في القرن التاسع عشر، وتعادل صحيفتي نيويوركر ونيوزويك ومجلة الأدبيات العلمية الأمريكية مجتمعة، وكأنها دُمجت جميعًا في واحدة. كانت تحتوي الأخبار ومراجعات الكتب والنقد الثقافي والأدبي، والمقالات العلمية، وأدب القصص، بل إن الظهور الأول لمعظم الروائيين الروس في تلك الحقبة كان في تلك المجلات. نُشر أول أعمال دوستويفسكي “الفقراء” وهو في الرابعة والعشرين من عمره عام 1846م، في السنة التي وُلدتْ أنَّا. وتدور أحداث رواية الفقراء حول قصة حب بين ناسخ فقير يبلغ من العمر سبعة وأربعين عامًا وقريبته اليتيمة الفقيرة. أشاد القراء بأنه عمل بديع ومؤثر اجتمعت فيه سمات الأدب في ذلك الوقت كالمسيحية الاجتماعية والعمل الخيري الوجداني. وقد علّق فيساريون بلينسكي -أكثر النقاد الأدبيين تأثيرًا في عصره- بعد قراءة الرواية: “وُلد غوغول آخر!” وعندما التقى دوستويفسكي وجهًا لوجه -في اليوم الذي خُلد في ذاكرة دوستويفسكي- سأله: “هل أنت مدرك أي شيء كتبتَ؟”. أدخلتْ إشادة بلينسكي دوستويفسكي إلى دوائر النخبة الأدبية، وحققت الرواية نجاحًا كبيرًا وسط جماهير القراء. بيدَ أن مذاق الشهرة لم يدم طويلًا، إذ عُدّت روايته التالية “الشبيه” –عن موظف مدني تائه في بيروقراطية بطرسبرغ، نُشرت بعد أشهر من رواية المساكين- فشلًا ذريعًا على المستوى النقدي والتجاري، وكذلك القصص القصيرة التي تلته. وبعد قراءة بلينسكي لعمل دوستويفسكي الجديد، أفصحَ لأحد النقاد: “لقد أسأتُ التقدير في وصف دوستويفسكي بالعبقري. أنا من بين كبار النقاد تصرّفتُ كأحمق لأقصى درجة”. إن ما أثار حفيظة الناقد بلينسكي تلك العناصر الوهمية في رواية الشبيه التي يفقدُ بطلها الاتصال بالواقع ويقيم علاقة غريبة مع شبيهه. وعن هذا الموضوع قال بلينسكي: “هذه المواضيع مكانها مستشفى المجانين لا الأدب، لأنها من اختصاص الأطباء لا الشعراء”. 

في الثالث والعشرين من أبريل/نيسان 1849م، قُبضَ على دوستويفسكي –وهو في السابعة والعشرين من عمره- لمشاركته في تجمّع ثوري يُعرف باسم رابطة بتراشيفسكي، مما أدى إلى اختفائه من المشهد الأدبي نحو عقد من الزمان. وبعد عودته، تابع حياته المهنية بكتابة “مُذلُّون مُهَانُون” عام 1861م. هذا العمل ميلودراما عاطفية مليئة بالشخصيات المنوّعة والمواقف الدرامية الحابسة للأنفاس عند نهاية كل فصل؛ وهذا ما جعله يحظى بشعبية كبيرة بين القراء، وإن كان للنقّاد رأي آخر. عاد دوستويفسكي إلى حيّز النقد بعمله التالي “ذكريات من منزل الأموات” (1860-1863م) ، وهو سرد شبه خيالي عن تجارب دوستويفسكي في المعسكر في سيبيريا. وقد احتوى توليفة من الذكريات والانتقادات الثقافية والتشهير بالمجتمع. وتطرّق فيه إلى العديد من الموضوعات الشائعة مثل: محنة الرجل المضطَهَد، وقسوة السلطة، والقيمة السامية للتعاطف المسيحي. وسلّط الضوء على الأفكار التي ستصبح مركزية في فن وفكر دوستويفسكي في قابل السنوات ومنها: حاجة المرء الشخصية إلى الحرية بأي ثمن، والعمق الروحي للشعب الروسي، والطابع النفسي المعقّد للعقل الإجرامي، وهو العنصر الذي تبحّر فيه في رواية الجريمة والعقاب.

في الوقت الذي وصلتْ أنَّا سنيتكينا إلى باب منزل دوستويفسكي، كان قد ذاع صيته أحدَ أبرز الكتّاب الروس الواعدين؛ إلا أنه لم يكن –بَعد- ضمن قائمة أفضلهم. كان -ولا ريب- يُظهر ومضاتٍ من العبقرية، لكنها تبدو خافتة في نظر نقاد كـ بلينسكي الذي كان يميل إلى قراءة دوستويفسكي من منظور ضيّق، غافلًا عن التوصيف النفسي المبطّن لإيحاءات دوستويفسكي الاجتماعية، وأنَّ جمع دوستويفسكي بين الواقعية الاجتماعية وتبصرِّه العميق بالنفس أكسبَه تفردًا بين معاصريه من الكتّاب الروس، بل وبعث الحياة في تاريخ الأدب الروسي. كان دوستويفسكي في نظر آنَّا سنيتكينا –بجلاء- مؤلف سحرَها وأثّرَ فيها. كانت في سن الخامسة عشرة تتسلل لتخطف إصدار مجلة التايم من بين أصابع والدها الغافي في كرسيِّه والمجلة ما زالتْ في يده، فهو أول من يقرأها عند وصولها إلى منزلهم، ثم تركض إلى الحديقة وتغيب في أحداث روايات دوستويفسكي إلى أن تتسلل ماشا وتنتزعها منها بصفتها الأخت الكبرى. كان لتعاطف دوستويفسكي مع منبوذي المجتمع صدى في غريزة أنَّا العاطفية، وكان قلبها يتألم لأجل كل روح مضطهدَة أحياها دوستويفسكي على الورق. قالت: “كنتُ حالمة، وكان أبطال الروايات في نظري أناس حقيقيون. في رواية “مُذلون مُهَانُون” كرهتُ مالك القرية الجشع الذي كان يحاول الضغط على ابنه لتزويجه لمصلحة مالية، وكنتُ أزدري ابنه الساذج لجبنه عن الوقوف في وجه أبيه، وقطع علاقته بالفتاة التي يحبها. ذرفتُ الدموع على “ذكريات من منزل الأموات”. كان قلبي مثقلًا بمشاعر العطف والشفقة على دوستويفسكي الذي عاش حياة مروّعة في السجن مع أدائه الأشغال الشاقة”.

أمامها بدا هذا الرجل المتوتر والجَلِف بعيدًا كل البعد عن المؤلف الحاذق والنبيل الذي قرأتْ له وحلمتْ به كثيرًا. كان شَعْرُه سبِطًا، كستنائي اللون، مُدَهّنًا أما وجهه فهزيل شاحب، يرتدي معطفًا أزرق باليًا. كان مشتتًا ومضطربًا ومرتبكًا، ما انفك يطلب منها بين الفينة والأخرى أن تذكّره باسمها. حيّرتْها عيناه؛ فاليسرى بُنيَّة داكنة، أما بؤبؤ اليمنى فمتمدد جدًا لدرجة تطغى على حيّز القزحية. عرفت -فيما بعد- أن ذلك نتيجة حادث وقعَ قبل سنوات عندما سقطَ على قطعة حادة أثناء نوبة صرع.

“سألَها: منذ متى وأنتِ تدرسين اختزال الخط [كتابة بالرموز لاختصار الوقت]؟

أجابتْه وهي تبدي ما تَأملُ أن يكون سلوكًا مهنيًا: منذ نصف عام.

أيوجد لدى معلّمكِ الكثير من التلاميذ؟

في بداية الدورة كان عدد المسجلين أكثر من مائة وخمسين تلميذًا، ولم يبقَ منهم الآن سوى خمسة وعشرين.

أوه! لماذا قلّ عددُهم؟

قالت بشيءٍ من الشك: أظن أنّ كثيرًا منهم رأوا اختزال الخط موضوعًا سهل التعلّم، ولكن الصعوبة تكمن في المواصلة، ولهذا السبب انسحبوا.

هذا ما يحدثُ دائمًا في بلادنا عند الشروع في أي مشروعٍ جديد، أليس كذلك؟ نبدأ الأمور بحماسة عالية ما تلبث أن تتضاءل حتى تتلاشى، فنتركُ الأمرَ برمّته. يرى زملاؤكِ أنه لا بد من العمل في سبيل التعلّم لكن… من يريد أن يعمل هذه الأيام؟!”

قدّم لها سيجارة. كان اختبارًا من دوستويفسكي كما يفعل عادة مع الغرباء الذين يلتقيهم. دوستويفسكي يرى أن كل شيء خاضع للاختبار؛ الحب والعلاقات والحياة نفسها. ولذا حرَصَ أن يعرف ما إذا كانت أنَّا سنيتكينا كغيرها من الشابات المتحررات اللواتي ظهرن في أنحاء روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر أعقاب الإصلاحات الكبيرة التي أجراها القيصر الروسي الإسكندر الثاني، والمتمثلة في سلسلة من التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكاسحة التي أُدخلت إلى روسيا بعد هزيمتها المهينة في حرب القرم الأخيرة. كانت أنَّا –فعلًا- ترى نفسها بكل فخر “فتاة الستينات” المتحررة، وهو الوصف الذي تطلقه النسويات الروسيات الشابات -من جيلها- على أنفسهن. وقد دوّنتْ ذلك في حديثها عمّا كان يعنيه لها العمل لدى دوستويفسكي: “شعرتُ أنني أخطو في مضمارٍ جديد، وهو كسب المال من عمل يدي لأصبح مستقلة. إنَّ فكرة الاستقلال لفتاة الستينات فكرة نفيسة قيّمة”. وكان ذلك ينطبق على الغالبية العظمى من الشابات المتعلمات. استغل ذوي الوعي الاجتماعي من الروس روح الانفتاح الجديدة وأخذوا يعبّرون عن رغبتهم المكبوتة في تحقيق تغيير شامل داخل الهيكل العائلي الاستبدادي التقليدي. كانوا يطالبون بمنح النساء الفرصة للقيام بأعمال أكثر مركزية في إعادة بناء المجتمع الروسي بعد الحرب. فظهرَ في تلك السنوات عدد غير مسبوق من الكتب والمقالات عن الأسرة ودور المرأة في روسيا، مما أدى إلى نشوء محاورات ومباحثات أفضتْ -مع مرور الوقت- إلى ما يُعرف باسم “قضية المرأة”.      لم يكن دوستويفسكي معارضًا لهذه الحركة النسائية الروسية الجديدة، بل كان أحد الكتّاب القلائل -حينئذ- الذين دافعوا علنًا عن توسيع الآفاق الفكرية للمرأة. ففي بدايات ستينيات القرن التاسع عشر كتبَ مرددًا أحد المبادئ الأساسية للنسويات: “تحتاج النساء المتعلمات إلى طريق أوسع، غير مكتظٍ بالإبر والخيوط والخياطة”. وفي إحدى صفحات التايم -العدد الذي كانت أنَّا تقرأ فيه رواية “مُذلون مُهانُون”- دافع دوستويفسكي عن النسويات ضد النقاد المحافظين الذين هاجموا مؤيديهن بوصفهم “متحررين”. في رأي دوستويفسكي إن تحرير المرأة أمر نابع من “المحبة المسيحية للبشرية وتربية النفس باسم الحب المتبادل؛ الحب الذي يحق للمرأة -نفسها- أن تطالب به”. وزعمَ أن العلاقات بين الجنسين صحية ومطلوبة ولا مفر منها إذا ارتفع مستوى المجتمع نفسه. ويتضح موقفه وتعاطفه مع محنة النساء الروسيات في رواياته بما تضمنته من شخصيات نسائية مضطهدة؛ استعبدها الآباء أو الأزواج أو الأوصياء أو المحسنون، أو تلك الشخصيات الغارقة في فقر مدقع لا مناص لها منه سوى بالزواج أو البغاء، أو بأي شكل من أشكال العلاقة المرضية للرجل. تعاطف دوستويفسكي مع النسوية، لكن النسويات المتطرفات اللواتي يطلقن على أنفسهن وصف “المرأة الجديدة” جعلنه ينفر منها. أيقظت “المرأة الجديدة” فيه حس التنبه إلى كثير من عواقب النسوية، وشعرَ أن البلد فقدَ قيم الحشمة والتواضع -وقبل كل شيء- الأخلاق. استاء دوستويفسكي من هذا العالم الجديد المتأثر بالغرب المهووس بالاستحواذ والاستهتار والمادية والمُجُون. فها هو ذا أرمل وحيد رفضته أكثر من شابة متحررة، وكان لديه أسباب شخصية تجعل هذا النوع المتطرف من النساء يرفضنه. ما استرعى اهتمام دوستويفسكي في أنَّا سنيتكينا اختلافها عن جميع النسويات المتطرفات في عصره، بدت له رابطة الجأش ليست بالطائشة ولا المتهورة. أذهله سلوكها الجاد والصارم عندما رفضت سيجارته بكل أدب، وسرّه أن يلتقي بشابة صغيرة تتسم بالرصانة والكفاءة. لم تتبين أنّا من سلوكه الجلِف أنها حازت على القبول عنده، وأنها بتواضعها الأنثوي وبراعتها المهنية تركت انطباعًا أوليًا ممتازًا، ناهيك عن امتلاكها أهم ثلاث عادات مخالفة لبرجوازية “المرأة الجديدة” وهي: عدم قص شعرها، لا ترتدي نظارات، ولا تدخن.

“قال لها دوستويفسكي: سررتُ عندما أخبرني أولخين أن المتقدم للعمل كاتبة لا كاتبًا. تعرفين لماذا؟

أجابته: لا ، لا أعرف.

لأن الرجل قد يسكر، أما أنتِ… آمل أنكِ لن تسكري؟

كادت أنّا أن تنفجر ضاحكةً، لكنها ضبطت نفسها. وقالت بكل جدية: لن أسكر بالتأكيد، لك أن تطمئن.

تمتم بطريقة مبهمة: سنرى كيف ستسير الأمور. سنجرّب.

قالت: بالتأكيد، ولِم لا.

ولدحض أي شكوك قد يبطنها دوستويفسكي، أضافت: وإذا وجدتَ أن العمل غير مناسب لي، فيمكنك إخباري مباشرة. تأكد أنني لن أستاء إذا لم أنل هذه الوظيفة”.

التقط دوستويفسكي نسخة من مجلة الرسول الروسي، حيث يُنشر عمله “الجريمة والعقاب” على حلقات، وبدأ يملي عليها بسرعة كبيرة بغية اختبار مهاراتها. على الرغم من أنّ أنَّا تدرّبت على الاختزال، لم تستطع مجاراته وسألته بأدب إذا كان بإمكانه أن يتريّث قليلًا. انزعج دوستويفسكي من مقاطعته، وانحنى ليرى عملها. وبّخها لأنها أسقطت نقطة، وكتبت علامة صلبة ъ بشكل غير واضح، ثم تمتم متذمرًا بأن المرأة لا تصلح للعمل. (في قواعد الإملاء الروسية، العلامة الصلبة (ъ) تعني أن يخرج صوت الحرف السابق شديدًا، أما العلامة اللينة (ь) فتعني أن يخرج صوت الحرف السابق ليّنًا. وثمة فرق دقيق بين العلامتين، وكتابة أحدهما بشكل غير واضح قد يحدث التباسًا للقارئ). شعرتْ أنّا بالصدمة والإهانة، وبذلت قصارى جهدها لئلا يظهر عليها ذلك، لأن الأهم نجاحها المهني واستقلالها وما كانت لتجازف بذلك. بعد بضع دقائق، أخبرها أنه سيأخذ قسطًا من الراحة، وعليها أن تعود في المساء حتى يملي عليها  روايته. أدركت أنه جاد في تعيينها وهذا ما طمأنها، أما مشاعرها فقد كانت متضاربة. كتبت بعد سنوات في مذكراتها: “غادرتُ شقة دوستويفسكي في مزاج عكِر. لم يعجبني؛ لقد أشعرني بالاكتئاب”. وفي مسوَّدة غير منشورة أوضحت: “لم يحدث من قبل -أو حتى ذلك الحين- أن ترك أحدهم فيّ انطباعًا سيئًا ومحبطًا كما فعل فيودور ميخايلوفيتش في لقائنا الأول. رأيت أمامي رجلاً حزينًا، ومجروحًا، ومعذبًا كمن فقدَ في ذلك اليوم شخصًا عزيزًا، أو ألمّتْ به نازلة”. فكّرتْ أنَّا في الثمن الذي قد تدفعه في سبيل تحقيق استقلالها المالي عند العمل مع دوستويفسكي؛ الرجل العبقري والمتقلّب والذي يبدو معاديًا للمرأة. وعلّقت في مذكراتها عن تعليقاته الفظة: “عندما تختار المرأة أن تشق طريقها بنفسها، قد تمرُّ بتجربة مريرة عند سماعها مثل هذه الأقوال المزعجة ولا سيما من أفضل الأشخاص، فما بالك بمن هو أقل تحضرًا؟ لكن إذا لم تبدِ استعدادًا لضبط نفسها عند التعرّض لمثل هذه المواقف فمن الأفضل أن تتزوج”. هذا ما اختارته النساء من جيل والدتها، ومن بينهن أختها الكبرى ماشا التي تزوجتْ أستاذا مرموقا. فهمتْ أنّا سر هذا الاختيار، لكنها لم تكن لتقبلَ التخلي عن حلمها.

  •  أندرو فوكمان: أستاذ مشارك بكلية عامة، ومحاضر في اللغات والآداب السلافية ومدير مساعد في مركز التدريس المتميز بجامعة فيرجينيا. حاز درجة الدكتوراه في اللغات والآداب السلافية من جامعة ستانفورد. من مؤلفاته: “أعطوا الحرب والسلام فرصة” و “الحكمة التولستوية في أوقات الفوضى ووعي تولستوي”. وشارك في تأليف كتاب “الدمى الروسية”. ظهرت أعماله في Today و NPR و PBS و The Washington Post . وعمل خبيرًا في الأدب الروسي في نادي أوبرا للكتاب. وهو مؤلف كتاب “كتب وراء القضبان” الذي عرّف من خلاله الشباب المسجونين على أعمال دوستويفسكي ومؤلفين آخرين.

 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى