كاملة شمسي وإيجاد مساحة مثالية للكتابة
"ربما لا مثيلَ لمساحتي الكتابيّة عدا المكان الذي أجد نفسي فيه"
بقلم: كاملة شمسي
ترجمة: فاطمة سعد الدين
خلال العشرينيات من عمري، عندما كتبت رواياتي الثلاث الأولى، في ذلك الحين لم تكن لدي مساحة كتابة مادية بقدر ما تمثلت تلك المساحة في وقتٍ مستقطعٍ من يومي. لم أكن قط في مكانٍ واحد أكثر من بضعة أشهر، كل رواية كتبت في قارتين أو ثلاث قارات، في الأستوديو أثناء دراستي في مدرسة الدراسات العليا في ماساتشوستس، في منزل عائلتي في كراتشي، وفي شقق الإيجار قصيرة الأجل في لندن، في سكن أعضاء هيئة التدريس من الشباب في وسط نيويورك. ولعلك إذا سألتني خلال تلك السنوات متى كتبتِ بنحوٍ أفضل لأجبتك في “الثانية صباحًا”. كانت الساعة الثانية صباحًا في حد ذاتها مساحة، حيث يمكنك أن تجدها في كراتشي أو لندن أو الساحل الشرقي، سواء في مدينة أو قرية. يُخيم نوع خاص من السكون على اللحظة، ومن الممكن أن تتخيل أنك الشخص الوحيد المستيقظ في العالم، إذ فرغ الليل من حيوات الآخرين وعجَّ بالابتكار، وإذا ما أجَّلت الكتابة حتى الساعة الثالثة صباحًا، فأنت بهذا تُعرض نفسك لخطر الاستياء من حلول ضوء النهار، ظهور الأشخاص، أو أي شيء من شأنه أن يكسر التعويذة الساحرة. فالعالم يحتوي بالفعل ضوءَ النهار وأشخاصًا آخرين غيري، أرغب في أن أكون ضمن محيط بعضهم في سياقاتٍ اجتماعية، ولأنني أعيش داخل جسد له متطلباته حول أشياء ضرورية للبقاء مثل النوم والأكل، فقد كانت تلك المساحة بعيدة عن المثالية، بالأحرى: “لم يكن مثاليًا أن أكون ليلية جدًا.. أن أكون كاتبة ليلية”، ومع ذلك، ربما كان هذا هو الثمن الذي يجب أن أدفعه في مقابل الكتابة؟ كنت صغيرةً كفاية لتصديق الكثير من الأساطير التي شاعت حول الكتّاب (في الغالب من الذكور) وقبلت ذلك الهراء القائل بأن عاداتي السيئة يمكن وصفها بتعالٍ على أنها نوعٌ من التضحية اللازمة في السعي وراء الفن.
بعد ذلك، وقبل أشهر من عيد ميلادي الثلاثين، دُعيت إلى منتجع للكتاب في إيطاليا. في مؤسسة سانتا مادلينا، حصلت على أستوديو مخصص للكتابة، وهي مساحة -صعدت إليها عبر درجات حجريةٍ على طول جانب حظيرة مُعدلة- مع مكتبٍ ضخمٍ يواجه جدارًا من النوافذ التي تطل مباشرةً على وادي توسكان بخضرته الصيفية الكثيفة. سألت نفسي: كيف يمكنني أن أكتب ليلًا عندما يظلم هذا المشهد؟
كان من الواضح أيضًا أن سانتا مادلينا لديها طقوسها الخاصة: بدءًا بقهوة الصباح مع الخبز ومربى قشر الليمون، والكتابة أثناء النهار، والغداء تتبعه السباحة، ثم القراءة بجانب حمام السباحة في حرارة ساعات ما بعد الظهيرة والمزيد من الكتابة في المساء، انتهاءً بمجلسٍ بهيجٍ على العشاء. كان من الصعب أن أقاوم أجواءً مغرية كتلك، وهكذا بدأتُ الكتابة خلال النهار، بهذه البساطة. وسرعان ما تبع ذلك اكتشافان:
أولاً: يكون دماغك أكثر نشاطًا في الصباح بعد نوم جيد ليلاً مما يمكن أن يكون عليه في الساعة الثانية صباحًا.
ثانيًا: فكر في عظمة أن تغادر مكتبك في الساعة الخامسة أو السادسة مساءً وأنه بهذا تكون انتهيت من عملك اليوم.
تركتُ سانتا مادلينا وأنا كاتبة مختلفة، كاتبة تعرف أنها لا تستطيع الكتابة في أي مكان فحسب، بل يمكنها أيضًا الكتابة في أي وقت. مرت سنوات قليلة قبل أن أدرك أنه عندما دونت ملاحظة واحدة عن مساحتي الكتابية، كنت قد التقطت ملاحظةً أخرى. منذ تلك الأسابيع الستة في سانتا مادلينا، لم أتمكن من الكتابة إلا إذا كنت أنظر من النافذة، أو أجلس في الخارج. فالجدران تُشعرك بالحبس. هكذا، خلال العشرين عامًا الماضية، كان لدي مساحتان أساسيتان للكتابة:
المساحة الأولى تمثلت في منزل عائلتي في كراتشي في الشتاء، حيث أجلس في الخارج على مقعدٍ بلاستيكي إلى طاولةٍ في الفناء، أرافق قطط الحديقة، وأضع الطاولة موجهةً جلستي إلى العشب والزهور بدلاً من مواجهة المنزل نفسه، الجهنميّة على جانب، والكركديه على الجانب الآخر، فيما تتقاطع أصوات الطيور المُغردة حولي مع أي أصواتٍ بشرية تصدر عن الحي.
أما المساحة الثانية ففي لندن، حيث أكتب على مكتب مواجهٍ لنافذة في الطابق الأول فوق الطابق الأرضي تطل على شارع مزدحمٍ أنظر بعيدًا عن شاشتي فأجد هناك حافلة مكونة من طابقين تمر معلنةً عن أحدث فيلم رائج أو فرصة لشراء ممتلكات أو جنسيةِ دولةٍ أخرى. لا يهم، الأهم أنها نافذة تطل على الخارج، هذا كل ما أطلبه.
لماذا هذا النفور من مواجهة الحائط أثناء الكتابة؟ ربما أحتاج إلى النظر إلى منتصف المسافة لأتوقف عن التركيز على محيطي المباشر وأدخل في فضاء الخيال، ربما يبدو الجدار العاري أمامي أشبه بصفحةٍ فارغة. على الرغم من أنني في سنوات الكتابة في الثانية صباحًا، غالبًا ما كنت أكتب وأنا أنظر إلى الحائط. إذًا، أهي مجرد عادة أخرى، هذا العمل من خلال النوافذ المفتوحة أو في الهواء الطلق، وهي العادة التي بقيت زمنا طويلا بما يكفي لأشعر وكأنها ضرورة؟ ربما لا مثيلَ لمساحتي الكتابيّة عدا المكان الذي أجد نفسي فيه. ربما.
بالعودة إلى ذلك الصيف في توسكان فإن السبب الذي جعلني أتمكن من الكتابة بيُسرٍ في ذلك الأستوديو بعد تناول فنجان قهوتي الصباحي هو جودة الصمت التي ارتبطت لدي بالساعة الثانية صباحًا، ويمكن العثور عليها في سانتا مادلينا في أي وقتٍ كان. فقط أغلق باب الأستوديو الذي أنت فيه، واجلسْ أمام مكتبك الكبير، سيكون الانقطاع الوحيد بعد عدة ساعات هو وجود كلب ينبح بالخارج، ويريد منك السماح له بالنوم عند قدميك. على مر الزمان، كان علي أن أتعلم كيفية اقتناص مساحة الصمت هذه بدلًا من توقع العثور عليها في انتظاري في وقت أو مكان معين، والآن يمكنني الوصول إليها وسط أصوات الطيور وضوضاء البناء في كراتشي أو ضجيج حركة المرور وأعمال الطرق في لندن. الصمت الذي أبحث عنه ليس هدوءًا من حولي بقدر ما هو حالة ذهنية. تجلس، وتدخل عالمك المتخيل، تاركًا وراءك العالم الحقيقي يدور، وتكتب. دائمًا ما كان هذا الصمت الفريد من نوعه هو المساحة التي أخصصها للكتابة، والتي ظلت ثابتة على مدار السنين. لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لأتعرف عليها، لكن من فضلك، لا تعطِني مكتبًا يواجه الحائط.
كاملة ناهيد شمسي: روائية باكستانية الأصل ولدت في كراتشي، بريطانية الجنسية تعيش في لندن وتكتب باللغة الإنجليزية. حصلت كاملة على جائزة رئيس الوزراء للأدب عام 1999 وعلى جائزة «Patras Bokhari» عام 2004 من أكاديمية باكستان للأدب. أشهر روايات كاملة التي تُرجمت للعربية هي رواية الظلال المحترقة «Burnt Shadows» ورُشحت لجائزة البرتقال للخيال وفازت بجائزة «Anisfield-Wolf Book» كذلك رواية نار الدار«Home Fire» التي ترجمها عن الإنجليزية المترجم الحارث النبهان.
ملهم ودافئ