كافكا الذي أعرف 4 

بحيرة الصمت، في فيافي السكينة


حجم الخط-+=

دعاء خليفة

بحيرة الصمت

في حضرة الأوراد، وهي تفسح لي بوناً عندها تفصلني فيه عن الواقع، يتخلق لي بعداً موازياً. يعوزُ الأمر صبراً، ومجاهدةً للنفس وحيِّزاً من الصمت. هنا متسع للنفس حيث تنتفي ثنائية الظاهر والباطن، ويصبح عالمي الداخلي بيّناً حاضراً كسجى الليل. وإذ تكون الأوراد تجلياً آخر للصمت، لا يبقى إلا أن أفيض به. تفقد المشاعر حدتها فأتخفف منها رويداً، رويداً وأستكين. بيد أنَّ رحلتي مع ملكة الصمت بدأت باكراً، إذ كنت في سنين طفولتي وأنا في النادي الرياضي، وبعد إجادتي لأنواع ثلاثة من السباحة دون حاجة المدربة إلى مراقبتي، وخفَّت لهفة التعلم والممارسة، أترقب مع ذلك أن يحل المساء بفارغ الصبر، فقد تبقت لي رغبة وحيدة لم تنطفئ بعد، ولا إخالها ظلت على حالها محض رغبة. كنت أنتظر أن تخلو منطقة السباحة العميقة حتى يتاح لي الغوص إلى أسفل القاع، والانعزال في ذلك العمق السماوي اللون لثوانٍ معدودة دون أن أعي بحاجتي للصمت في تلك السنوات الأولى من عمر، وما أن تلامس أصابع قدمي بلاط الموزاييك، أسمح لقوة الماء أن تأخذني إلى السطح. حينها يصبح للهواء صوت الحياة الصاخب، وتستأنف رئتاي مهمتهما من جديد. 

وبعد أن حملني الدهر حيناً إلى مرحلة الشباب، وبات أخذ النفس مرهقاً حتى خارج المسبح نتيجةً لأعراض تتوالى على هذا الجسد، عاودني الحنين لذاك الصمت الطفولي، وحاولت الوصول إليه من خلال التأمل غير أني لم أفلح، ثم كانت رغبة كافكا في بلوغ الصمت، والمتمثلة في رؤيته للكتابة نوعًا من المحو، وفي حبه لوضعية المراقب الصامت دون مشاركة الآخرين في الحديث كما أخبر فيليس باور في إحدى رسائلهما1، بالإضافة لحضور الصمت في الكثير من قصصه القصيرة، إيماءةً عارضة تنبهني على نحوٍ صادمٍ إلى ضرورة تجويد ملكة البحث عن الصمت. صادمة لأن للجمال توق للاختباء؛ غواية المثالي، وشيء من الغموض المشتهى. 

يتساءل ستاينر، في كتابه عن اللغة2، عن مدى صمت البحر الذي أبحر فيه أوليس كافكا: “على الكلمة ألا تمتلك حياة طبيعية، ولا ملاذاً حيادياً. في أماكن وموسم البهيمية، يكون الصمت هو البديل. حين تمتلئ الكلمات في المدينة بالهمجية والأكاذيب، لا شيء يطغى على صوت القصيدة غير المتولدة. كتب كافكا في حكايته الرمزية  “وفي هذه اللحظة، ما تزال تملك حوريات البحر سلاحاً أكثر فتكاً من غنائهن؛ أعني صمتهن”. ومع أن شيئاً كهذا لم يحدث، على نحو لا يمكن إنكاره، ما يزال من الممكن تصور أنَّ امرأ ما قد يفر من غنائهن، لكن حتماً ليس من صمتهن”. ما أوجبَ ما كان على ذلك البحر أن يصمت، وما أشدَّ تهيُّؤه لدهشة الكلمة.”

ذات القصة لم تغب عن الكوني، وهو يرد على استفسار مقدم البرنامج3، إذ تكسو استعارته المنجرفة مساحات شاسعة من صحرائه التي يشبهها بالبحر، ناثرة في أذن مستمعيه شيئاً من حبيبات الرمل المختلطة بزوبعة الصمت الكافكاوية متحدثاً عن حوريات الصحراء الصامتات وإغوائهن الغيبي. وفي قصة أخرى4، لا يستعجلني كافكا بسرده اللاهث في بداية القصة، إلا ليريحني من عناء اللحاق وهو يكشف لي كيف ينفتح المدى على الصفحة المجاورة، وتتمدد حروف الكلمات بأريحية مشكلة بحيرة من الصمت. يغدو السرد وئيد الخطى حتى ليشملك السكون إلى جانب ما ذكره بهذا المقطع: “أخبرته حين التقيت به أني دُعيتُ إلى الخارج. ولكن رغبتي كانت لدخول البيت الذي دعيت فيه، لا للوقوف هنا عند الباب الخارجي ناظراً لما وراء أذني الرجل المتسمِّر أمامي. ولا للمكوث صامتاً رفقته، كما لو كُتب علينا الوقوف طويلاً عند هذه البقعة. ومع ذلك، أخذت المنازل من حولنا حصتها من صمتنا، كما فعل الظلام المخيم فوقها، وهكذا امتد الصمت عالياً إلى النجوم. وخطوات المارَّة غير المرئيين، ولا يمكن للمرء تكبد عناء تبيُّن مصدرها، والنسيم يدمدم في إصرار على الناحية الأخرى من الشارع، والفونغراف يتغنى خلف النوافذ المغلقة لغرفة ما. أعلنوا جميعهم عن حضورهم في هذا الصمت، كما لو كان من مقتنياتهم الشخصية في ما مضى من وقت، وما سيأتي”.

لأستعِن بوصف دولوز5، وهو يوضح لنا كيف أن إدخال كافكا للصمت إلى دائرة اللغة من خلال لغته المتلعثمة من تمتمة ودمدمة وتأتأة (stutter, murmur, stammer)، وعلى الرغم عنصر الانقطاع المتعمد فإنه يسمح بإدخال عنصر غريب لإخلاله بتوازن اللغة. ثم تكون قابلية كُتاب أدب الأقلية، في إحداثِهم الاختلال الوظيفي في اللغة، فرصةً في حد ذاتها للكتابة الأصيلة. كما أن الكتابة عند كافكا في سعيها لعدم التواصل (Dys-communication) كما ذكرت في مقال سابق، ولهي تجلي آخر للصمت. وعلى الرغم ما للصمت من قدرة على الابتلاع والإقصاء في أحايين أخرى فلا يملك أن يكون أناني الهوى. يمتزج الصمت بما حوله من الأصوات، ويتماهى مع أنغام الكون في دعة، من غير أن ينتقص ذلك مما يمثله الصمت من الحقيقة المطلقة كما جاء في الديانة الفيدية برمزية الكلمات المقدسة السنسكريتية (Om Tat Sat)، أو صوت الرب كما يذكر هيرمان ميلفيل، أو الخشوع الذي نجده في صلواتنا وشعائرنا الدينية. كما يمتزج الصمت كذلك عند كافكا حين يصحو صوت الكتابة؛ الوجه الآخر للصلاة في منظوره.

باتت ملكة الصمت ملازمةً لي بعد تعرفي على كافكا، أبحث عنها في أرض الواقع حيناً، أتتبعها بين السطور حين القراءة وبين الأنغام حين التآلف الموسيقى حيناً آخر، وتتخلل عقلي الضاج مع التأمل المرافق لترديد الأوراد اليومية. وفي أثناء قراءتي لمقال أدبي بكتاب هكسلي6، وجدت الصمت، وبعد صفحات طويلة، ينتظرني في الفقرة التالية كما لأرتاح مع ما به من تحسر على الأمان غير المرئي الذي اعتدناه من الطبيعة، وهو يتلاشى مع ما صارت إليه الأرض: “ويبدو ليل آب الشاحب في غياب القمر، مع ذلك أكثر نبضاً بالنجوم. معبقٌ سواده بهبّات نسيم أشجار الليمون المثمرة، وبرائحة الأرض المبتلة والغطاء الأخضر من كروم العنب. ثمة صمت، لكنه الصمت المتموج مع النفس الناعم للبحر، والممزوج بصخب الجندب، يؤكد صريره بعناد ومثابرة حقيقةَ كماله الباعث على الاستغراق. وفي البعيد، يتراءى المرور الرقيق لقطار ما في مساره كمداعبة ممتدة تتحسس برقة بالغة جسد الليل الدافئ مفعماً بالحياة.”

حين أكون في معيتك، وإخالني وحدي مستأنسة رفقتك، تستيقظ فيني حمّى الصمت مع رغبتي في الاتكاء على كتفك. تحفر وراء توقي، وتحملني إلى مكمن الرغبة الأولى حيث تولدت الحاجة إلى خلق ما يمثل معنًى للصمت، رمزاً تروي به الكائنات عطشها للصحراء داخلهم، ومنها ينكشف زيف الحاجة إلى الحديث، كصحراء تجاهد برسم سلاسل من الكثبان، زارعة في قلبها نباتاً شوكياً. لم يكن كتفك ليحمل رأسي يوماً، بل ينشغل بامتداده المهجس بالاحتواء، تماما، كحضنك الغائب. في الأخير، يرينا الصمت أن الأصل هو البياض ثم يأتي الحبر سارداً ليطغى على السطور، مثلما أن الأصل هو الليل ثم يأتي النهار فارداً عمامته يلف الكائنات بوهج العماء. يربكني الصمت أحياناً، وألوذ بالحكايا أدونها على صفحة العالم، تؤنسني محبرة الليل.

  1. محاكمة كافكا الأخرى: رسائل كافكا إلى فيلس. إلياس كانيتي. ترجمة نعيمان عثمان. جداول للنشر والترجمة والتوزيع 2014. ص53. 
  2. Language & Silence: essays on language, literature and the inhuman. George Steiner. Atheneum New York 1986. p. 54
  3. برنامج المشّاء. فكرة ونص وإخراج جمال العرضاوي. 13 أغسطس 2015. قناة الجزيرة. 

“البحر صحراء، والصحراء بحر. الصحراء بحر الرمال، والبحر صحراء ماء لأن كليهما يعدان بشيء واحد فقط وهو الحرية. البحر إغواء والصحراء إغواء. إغواء مبيت دائما، ولكنه واعد. تتغنى الحوريات (the sirens) عند هوميروس بالأناشيد التي تستدرج أوليس. في الصحراء نوع آخر من الحوريات، الحوريات الصامتات، حورية الصمت التي يتحدث عنها كافكا، وهن أكثر إغواء من حوريات البحر اللاتي يتغنين بالأناشيد الشجية، لأنه يسعنا في البحر أن نسد آذاننا بالطين كما يفعل أوليس، ولكننا لا نستطيع أن نقاوم حوريات الصحراء الصامتات، لأنهن يستدرجن بلا غناء. غناء باطني، غناء غيبي”.

  1. The Complete Short Stories. Franz Kafka. Vintage Classics 2005. Unmasking a Confidence Trickster. P. 425.
  2. Lingual Asthma: Stuttering of Language in Franz Kafka’s Writings. Planeta Literatur. Journal of Global Literary Studies 3/2014. Katarzyna Chruszczewska. University of Warsaw. Ps. 69-70.
  3. Music at Night. Aldous Huxley. P. 43.

***

في فيافي السكينة

مع اعتيادي على سماع صوت المطر الاستوائي خمس سنوات كلَّ يومٍ تقريبًا على مدار السنة، باتت زخاته شكلاً من السكون، أنحي جانباً ما كان يشغلني وأدخل في حالة من الاستسلام، غير مكترثة بتحسس جلدي الشاحب من الهواء البارد المصاحب للهطول ثم يأخذني الخدر إليه تاركاً ثقل جسدي إلى حين. وبعد التخرج وعودتي إلى حيث الصحراء والخليج، استبدلت بسكون المطر هديرَ الموج دون رغبة متعمدة أو واعية بذاتها، ومن يومها صار لي رفيق في المدينة التي انتقلنا إليها حديثاً يحمل بداخله معنى السكينة، أُصبِّح عليه حين المشي صباحاً وأعود إليه بشاي المساء أقرأ بجانبه قليلاً. ثم بعد مدة، و كما لو تترك نفسك تسترسل في ممارسة ما تهوى فلا يعود الفعل حاضراً في الوعي، بل نغوص إلى عمق أدنى، أقل إنارة وأكثر تشويشاً وفوضى، ثم ما نلبث أن نصل إلى القاع فتنكشف لنا الفوضى صفاءاً ونوراً. كما لو نضع كفتي يدينا على أذاننا في تتابع وليس بذات الوقت، فندرك أن البحر بدواماته وسكونه لم يكن إلا بداخلنا. 

في يوم ما، وبعد أن أضناني البحث عن شيءٍ من هدوء البال، قرر كافكا أن أزاول عادتي في الاستماع إلى قصصه قبل المنام، إلا أنه اقترح قصة جديدة1.1 تكون مواساة للاضطراب الذي يعتريني. وتماماً في قصته التي كتبها قبل ستة أشهر من رحيله، والتي تحكي عن حيوان خلد كما أجمع الأغلبية -فنزعة كافكا لعدم التعيين تلتصق هنا بهوية الشخصية الرئيسة- التي تدور عن الذعر والتوتر إلا أنها تأتي على وصف ما يمثله الجُحر -رمز السل الرئوي كما استنتج بعض النقاد- من سكينة: “لكن الأمر الأجمل عن جُحري هو السكينة. بالطبع، هذا شأن مضلل. فقد تتداعى السكينة في أي لحظة وينقضي كل شيء. في الوقت الآني، ما يزال الصمت في معيتي”. وفي فقرة لاحقة: “لم أعد أصغي، بل أقفز عالياً، وتتبدى الحياة بصورة مغايرة، كما لو أن الينابيع التي يتدفق منها صمت الجُحر قد تفتقت عن قنواتها”.

في قصة أخرى1.2 لكافكا، نرى الشخصية الرئيسة في حالة سكر وإرهاق، ومع ذلك تدور القصة في رأسه، وهو يعصف ذهنياً بسيناريوهاتٍ عدة لما يتراءى له من مشهد أمامه على الطريق، عابر بدوره، لكنه لا يتدخل متعللاً بالتعب. لا يدعي بأنه مهتم، بل يترك الحدث يمضي إلى نهايته. تشوش وعيه هنا، ربما أهَّلَه ليكون في حالة من اليقظة الذهنية دون وعي منه، ومع ارتخاء الجسد وتباطؤ إيقاع التنفس، ما من شيء يدفعه للتجاوب مع المحفزات المحيطة به، ومع اغترابه رويداً عن المكان. لذا نرى في هذه الحبكة الكافكاويّة وغيرها في قصص أخرى له أنه ما من قيمة للوصول، فمصطلح كافكا (Weg von hier) ليس مشرعاً لأنه بوضوحٍ لا وجود للبدايات، وبشكل آخر لا وجود لهُويات ثابتة بل محض أحداث تتبدل بدورها، فلا يبقى من مكان للمكوث فيه غير تلك السكينة. ومن هنا فقط استطعت استشعار لذة رمز الدائرة في جنوب البلاد، والمتمظهر في النقوش الشائعة على الملابس والزينة والوشوم. كما يوجد في مواسم الحصاد والزواج وما إلى ذلك من مناسبات اجتماعية. فهذا الرمز بطقوسه المتعددة عندنا يحفزنا لإيجاد نقطة البداية، وحين تظن أنك اقتربت منها، تتكشف لك نقطة أسبق حتى تستنتج في تعبك أنه ما من أضلع وزوايا للدائرة لتكون نقطةً مرجعية لك في دورة الحياة، وحينها تستكين تاركاً لصوت الطبول مهمةَ إجلاء ما تبقى من قلق.

وبما أنه بإمكاننا إيجاد شيء من السكينة في المرض، وفي حالة التوهان كما يرينا كافكا في المثالين المذكورين آنفاً، فإن كيركغارد -المحلل لقلق لاهوت كافكا- يعتقد بأن بمستطاعنا إيجادها في ما هو أضنى من ذلك، في حالة لا استقرار فيها ولا كمون، في الحب. يأتي المسكيني موضحاً في مقاله2 عن رؤية كيركغارد لقصة النبي إبراهيم، ذات القصة التي رُبطِات بلفيناس كافكا كما أشرتُ بمقال سابق في السلسلة- بالقول: “الإيمان مثل الحب، لا يكون حقيقياً إلا في شكل مفارقة: لا نؤمن إلا بقدر ما نتصالح مع أنفسنا، ولا نحب إلا بقدر ما نكتفي بأنفسنا. ومعنى المفارقة هنا أن الإيمان نوع من الحب الذي يقوم على “الاستسلام”، ولكن بعدِّه حركة نحو اللا متناهي فينا. ذلك بأن “من استسلم بنحوٍ لا متناهٍ هو من اكتفى بذاته” (الخوف والارتعاد). الاستسلام لا يعني نقل قانون وجودنا إلى الغير. وحدها الطبائع الضعيفة تأخذ الغير قانوناً لها. والحب هو نمط الاستسلام اللا متناهي، حيث يكون الفارس مثل الأميرة في مقام واحد “حيث لا فرق بين الرجل والمرأة”. و”الاستسلام اللا متناهي” نوع من “الاتحاد بواسطة الأبدية” (المصدر نفسه) بين محبين. على هذا المستوى لا معنى لأي شعور بالخيانة. “وحدها الطبائع الضعيفة تتخيل أنها تُخان” (نفسه). الاستسلام اللا متناهي يؤمِّن “السلام والسكينة” (نفسه)، ولكن من خلال “حركة مؤلمة”. ليست الأبدية راحة العقل. بل هي، حسب مثال ساقه كيركغارد، تشبه قميص الحكاية القدية، حيث إن خلط النسيج بالدموع يحولها إلى مادة أقوى من الحديد والنحاس”.

وإن كان لي أن أضيف حالة أخرى، فإن تداعي الهوية، وإنْ بدت في الظاهر حالة قلقة كما سبقتها من الأخريات فمن الممكن إدراجها هنا. وما زلت أتعجب كيف يكون لتداعي الصداقات والناس من حولي، كيف لهذا العود الأبدي مع الكثير من الهدم النيتشوي أن يحمل بداخله شعوراً خفياً بالطمأنينة والراحة التي تعرفها الروح، وهي تظل كما هي مقابل تبدل النفس بذات عجلة النَفَس الذي تأخذه رئتانا أو القلب الذي لا يكف عن تقلبه! لا أدري، لكن يخيل لي أن تربية فضيلة التخلي تمنحني بمرور الوقت شيئاً من السكينة وتوليد الثقة في المجهول. في فلسفة وايتهيد3 عن (الحدث) انتفاء للهوية في مقابل الصيرورة، وهذا متضمن في لعبة التحولات الخاصة بكافكا، والتي قادت لدفعي للبقاء في وضعية المراقب دون حاجة للنزول إلى أرض الواقع والذات، خشية أن يؤثر شيء ما على جوهر كينونتي مع سقوط الأنا القديمة وتحللها. ثم ما يلبث أن يبدو لي دور المراقبة مألوفاً، وأتساءل أيَّ جزء مني كنتُ ميالةً إليه أكثر، وكان الأجدر قول “ما زلت” غير أن “كنتُ” بدت لي أكثر سلاسة وأنا أكتبها. أيعقل إذن أني لم أعد هُنــ…!

وبما أننا ما زلنا في حديثنا عن الهوية رغم تداعيها، فإن ما يشدني إلى الموسيقى الشرقية يرجع إلى تلك السكينة المتضمنة في بنيتها التآلفية، فيرى فؤاد زكريا بمقاله4: “أن غياب عنصر كالتآلف (الهارموني) في الموسيقى الشرقية يرجع إلى بنية الألحان الشرقية عموماً، بما هي تتصف -كما يصفها هو- بالتلاصق والتماثل. وتفصيل ذلك أن اللحن في هذه الموسيقى يمثل في حد ذاته وحدة بنائية، لذا فإنه يُقدَّم للمتلقي دفعة واحدة، فلا يُبنى أو يتطور في ذهن المستمع، أو إن شئت فقل إننا لا نلمح عناصره البسيطة التي يتكون منها وطرائق تشكله، بل إنَّ كل نغمة تتصل بما بعدها في شكل متصل ديمومي أقرب إلى السكون من الحركة. وإيجاز هذا أن الموسيقى العربية لا تعرف الهارموني، ذلك لأنها في الأساس موسيقى ميلودية”.

ومع استمرارنا في تناول ثيمة الهوية على الرغم من أن البنيوية كانت قد قيَّضت في القرن الماضي (الذات)، واستمرار الأبحاث والمناظرات حول (الذاكرة) -مثل دراسات النظرية السردية5– التابعة لها ودورها في تشكيل الهوية، فإن سخرية كافكا من الخلود والسنين الطوال من انتظار اكتمال بناء سور الصين العظيم، وانتظار حيوان الخلد للحظة الهجوم على متاهة جحره وانهماكه بإعادة التخطيط وإعمال الذهن دون قدرة على البدء في العمل لكثرة القلق، ربما لا تكون هذه السخرية الممتدة على صفحات إثر صفحات سوى دعوة لنبذ السرد الشخصي لحيواتنا، والتحرر بدلاً عن ذلك للجلوس في سكينتنا الشخصية. فهي وحدها ترينا وهم الشخصية الزائفة وتوقها للخلود، ومدى اتِّكائنا عليها بما يزيد عن قدرتها أحياناً في حمل كل هذه الأعباء. ترينا كيف لنا أن نترفق بأنفسنا، وأن نحول تركيزنا إلى المشترك فينا هناك في العميق حيث يكمن شعاع الروح النقية الأبدية6.

مع مرور القراءات الكافكاوية، تبدت لي أشكال شتى من السكينة. ومع قصور مدة التركيز في واقعنا المعاصر، وجدت من هواية الغَزْلِ ما يضعني في قلب اللحظة الحاضرة واحدةً من أشكال التأمل المصاحبة لغفوة العقل الواعي في مقابل صحوة الباطن. تعلمت أن أسترخي في أثناء إنتاجيتي، وأنه حين يصفى الذهن، تتضح الأمور، ترى ما يقع بالخارج من أحداث وظروف، وما في دواخلك وما يخالطها من أفكار ومشاعر عابرة ثم لا تملك حيال هذا كله سوى أن تراقب في سكونك، دون ادعاء أو مجاملة. يصبح من السهل ربط الخيوط ببعضها وتكوين نسيح متماسك يؤدي دوره حالةً جماليةً أو معرفيةً. ثم باتت الكتابة الحرة نوعاً آخر من تولد إيقاعي في الصمت، طوفان من الكلمات المتدفقة في سريان منسجم حد الاختفاء. يشبه ذلك ترديد صديقي لكلمة (Aye) بلكنته الاسترالية لازمةً مع نهاية كل جملة تقريباً وهو يتحدث، حتى إن أذني لم تعد تلتقط تلك الكلمة، بل تقف قبل نهاية جمله، وتحديداً قبل كلمة آي. غير أنه في المدى الفاصل ما بيننا يا رفيقي أحاول الخطو على الأرض بثقل علَّني أفلت منكَ، وأستكين، لكنه الهمبريب يخلق معنىً آخر للبرد، حنيني إليك. وحين أنشغل بنشر الملابس على حبل الغسيل، يرد لخاطري أن أستعمله لغرض آخر يقودني إلى الضفة البعيدة حيث الأبد الفسيح، ثم أنفض مرتجفة ما بقي من بلل الفكرة عن القميص، أفك أزراره، يكفكف كُمَّيه بدوره، ويُعلِّقني بآخر مشبك. وأنا هنا أحاول الخطو على الأرض بثقل عليَّ أفلت منك، و… 

  1. The Complete Short Stories. Franz Kafka. Vintage Classics 2005.

1.1 The Burrow.  P. 351, P. 376

1.2 Passers-by story P. 416

  1. مقال كيركغارد في أضحية إبراهيم (القسم 2) أو فن إغواء الله بوسائل بشرية. فتحي المسكيني. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية. 16 يناير 2018.
  2. Logique Propositionnel. 
  3. مقال مدخل إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية. فادي حنا. منصة معنى الثقافية. 9 ديسمبر، 2019.
  4. Narrative Theory. David Epston and Michael White.
  5. Eloisa to Abelard poem. Alexandre Pope.
أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى