كافكا الذي أعرف 2

اعتراض الإيماءة


حجم الخط-+=

دعاء خليفة

تمر علي هذه الأيام حالٌ من العزوف عن الحياة، وبالحياة أعني القدرة على القراءة المستمرة في كتاب واحد دون القفز قلقاً بين عناوين الأغلفة وفهارس الكتب الفاغرة أفواهها والمحدِّقة إلي في حنق لهجري لها في المنتصف أو ما قبل ذلك بكثير. حياتي القرائية التي استحالت إلى إيماءة بذاتها لا تخلو من الاعتراض المتكرر مع اختلاف المزاج كما التكرار الكافكاويّ. وأود لو أجد من يقرأ لي، غير أن القراءة تتطلب نوعاً من الوحدة لم أجدها بعد رفقة آخر؛ وحدة لا أحتاج إلى أن أُظهرَ فيها اختلافي عن من يشاركني فيها. ربما تعترضون أن لا وجود لهكذا شكل من الوحدة. وإذًا لا بأس، قد تبدو كأحد أشيائي التي أُدرجها في غابة مينونغ1 دون أن يمنعني ذلك من افتراض وجودها، وتجاهل نظرة امتعاضكم لحين. لذا يتكرم علي كافكا راوياً لي في المساء من إحدى قصصه الأثيرة على قلبي، يعيدها علي وأنا أنصت إلى تلميحاته الساخرة ونضحك في جوف الليل، ثم يتركني أخلد للنوم أو السهر على إحدى جمله الشرطية (subjunctive) وهي تخلق فضاءً موازياً من الاحتمالات النيرة. وهكذا يتحول حلم اليقظة إلى وحدة متحققة تحويني في شرنقتها.

إن الوجود عند جيل دولوز2 لا يحتكم لأساس قَبْليّ، ويبدو لي أحيانا أن هذا ما يريد كافكا أن ينبه إليه في تقديمه للسلطة والأحكام السابقة والقوانين بصورة مناقضة للمنطق، كأنه يعترض على تخصصه القانوني الذي نال فيه درجة الدكتوراة، ومارسه في الواقع. يحيلنا إلى الحلم بعالم لا يحتكم فيه المرء لمبادئ قَبْليّة، بتوغله في جعل شخصياته ترزح تحت عبث السلطة دون أن يشعر القارئ بخلل في السرد الذي يجاهد ليكون منطقياً دون رغبة حقيقية في ذلك. يخلخل كافكا العادي والمسلم عندنا بوضعه في موضع الغرابة. أو كما ذُكر في الورقة الأدبية3.1: “يكتب كافكا ليزعزعنا من النظام المبتذل للحياة اليومية والافتراض بوجود الدوافع القائمة”. مما يعني أني لا أحسبُ ما هو غريب في كتابات كافكا شيئا غريب، بل يبدو مألوفا لي على نحو ما رغم أنه يصعب تحديد مكمن هذه الإلفة، وما إن كانت ستظل قائمة. هذه الأفعال الغريبة عند شخصياته تبدو مثل الأفعال التي نقترفها بعيداً عن أعين الآخرين ليس لسوء فيها بل لمجرد أنها غير مدعمة من قبل العادات والتقاليد المتفق عليها في مجتمع ما، وهكذا ربما أجد متنفساً لي في كلماته تعبر عن حريتي في أن أكون غريبة بعض الشيء (queer) دون أن يصمني الآخرون باللا منتمية. أو بالأحرى هي رغبتي في التحرر من المجتمع والتكيف مع لا انتمائي والتخلص من عادتي السيئة في محاولة إرضاء الجميع على حساب الذات. يحول كافكا موقع الإيماءة من الهامش ليقحمها في متن الأحداث. ويدفعنا لتأمل الإيماءات التي تعترض إيقاع حياتنا اليومي. ومساءلة المسلمات.

“الإيماءة عند كافكا ليست -كما ظنَّ أدورنو- حاملة لمعنى عالمي بإمكانه أن ينكشف بنزع طبقات المنطق الذي يحجب تميزها. ليس الأمر أنه عالم التميز الذي قُمعَ بالمكان العمومي، بل بالأحرى العكس من ذلك. تعيد الإيماءات في المزاج الكافكاوي تعريف المكان العمومي، ولا يكون ذلك بتمييزه وإنما بتوسيع الفجوة بينها وبين أنفسنا، بهدف أن يعرض بارتياح بالغ درجة الاغتراب التي من نصيب الرجل في سيره المألوف. ذُكرَ هذه النقطة جيدًا الفيلسوفُ التشيكي كاريل كوسيك في مقالته جدلية الملموس: ’العالم اليومي المألوف ليس بعالم نعرفه وندركه. حتى يُقدِّم هذا العالم في واقعيته، لابد أن ينتزع من حميميته الإيروتيكية ويظهر على وحشيته المغتربة‘”.3.2

ولكن برأيي أن عدم الترابط الذي في شخصيات كافكا بين ما تنطق به وما يتزامن من إيماءاتهم الجسدية -التي يصفها بنيامين4 في كتاباته عن أعمال كافكا بأنها تسلب الإيماءة من معناها التقليدي، ثم يصبح لديها موضوعٌ للتفكير دون نهاية- ليست إلا محاولة عرض الصراع الذي يكون بين العقل الواعي متمثلا في النطق وبين العقل الباطن متمثلاً في الإيماءة الجسدية. لأنه بحسب علمي فإن الكثير من أمراضنا الجسدية ليست إلا تمثيلاً لأعراض المعتقدات الخاطئة المدفونة عميقاً في العقل الباطن. وفي حديثها عن كون الإيماءة حدث قائم بذاته، تشرح بتلر في محاضرتها5 رؤية بنيامين عن المسرح البريختيّ، والفرق الذي يخلفه نوع المشاهدة للعمل المسرحي، فحين يندمج المُشاهد مع الممثل على المسرح فإن رؤيته تختلف عن المشاهد المنتبه القادر على الانتقاد، وكيف أن الأول يرى العرض المسرحي فعلا معتادا (action)، وتكون في نظر الآخر أداءً (performance). لذا يفشل المشاهد الأول في ملاحظة الاختلاف لاندماجه، في حين يتمكن الثاني من الانتقاد. وكيف أنه برأي بنيامين فإن الحدث في غرابته عن المعتاد مرتبط بالإيماءة ثم يربط ذلك بالقول إن (الإيماءة عند كافكا هي حدث قائم بذاته)، منفصل عن السياق الذي جاءت فيه. وهكذا تكون الإيماءة لا منتمية. يشبه الأمر الفرق في النَّفَس الذي ينتابنا حين نبدأ بفعل شيء، فنميل بفطرتنا لحبس أنفاسنا، أما في حالة الاسترخاء فيكون النفس عميقاً. وهكذا غالبا في قراءتي لعوالم كافكا يكون نفسي في سبيله إلى النفاد، وذلك لاندماجي فيه أكثر من محاولة تحليله كما لو أنه حدث غريب، ومن هنا ربما يراودني ذلك الشعور اللحظيّ بانتفاء الغرابة مع سرد كافكا. ربما يعود الأمر لما يدعى بالعصبونات المرآتية (mirror neurons).

بعيداً عن الانغماس في أعماله، فإن الفعل الكتابي المتمثل في معاناة كافكا في أن يبدأ نصاً، ثم بعد أن يذهب مسافة فيه، يعاني من وضع حد له وإنهاؤه بالنسبة لي يمثل كتابة إيمائية لا تخلو من ما لخصائص الإيماءة من اعتراض للسياق العام، وخلق جو من الاغتراب. وكأن فعل البداية والنهاية شيء عارض وناشز في فعل الكتابة الطبيعي لكافكا، وهذا بظني يولد نوعاً من الاغتراب بين كافكا وكتاباته. ولدى بوليتزر طريقته في التعبير عن هذه الإيمائية كما ورد في الورقة الأدبية3.3: “تنتهي الرواية كما بدأت، في قصور تام من التعبير عن المصير المحتوم للرجل. كتب هينز بوليتزر أن ’معظم سرديات كافكا لا نهائية بنحوٍ أساسي: فهي تتضمن سلسلة متعاقبة لا تحصى من لحظات معذبة من المعاناة الغيبية والقنوط، ناتجة عن غياب أي مرجع لإطار غيبي. لكنه مع بلوغ نهاية (قوته وصبره بالأحرى من نهاية قصته)، فإنه مجبر إما على مقاطعة عمله وإما استخدام الأزياء التنكرية والأقنعة‘”. وكما ذكرت ساندبيرغ6 في مقالة لها عن هذه المسألة: “كان كافكا مستعداً لبدء سرده من وسط الأحداث. وهذا قدم تحدي مبدئياً ومفروضاً عليه، والذي ازداد تعقيداً بمحاولاته لإرشاد بطل قصته عبر سلسلة من البدائل الافتراضية، والظروف النسبية والقيود تجاه حل ما”.

ولأعرج على فنان انجليزي تصويري (figurativism)، يحمل فنه خصائص كافكاوية واضحة بظني، وأقصد بذلك فرانسيس بيكون، فعلاوةً على ثيمة التكرار في لوحاته التي يعيد فيها لوحات من حقب سابقة بمزاج بيكونيّ فريد، فإنَّ لوحاته التي تكون فيها المادة المرسومة إطاراً في حد ذاتها يجعلها معترضة للعمل الفني على أنه إيماءة/ رغم أنها جزء لا يتجزأ من اللوحة عينها. في كتابه عن فن فرانسيس بيكون، يطرح دولوز في الفصل الأول بتفصيل هذه الملاحظة متحدثاً عن خصائص الدائرة بأنها حيز مكاني في لوحات بيكون: “المساحة الدائرية عادةً ما تزيل محدودية المكان حيث الشخص- القصد به الشكل الجالس، المستلقي، المقلوب، أو في وضعية ما أخرى. هذه المساحة الدائرية أو البيضاوية تأخذ مساحة أكثر أو أقل، وبإمكانها التمدد خارج حدود اللوحة أو تحتل مركز اللوحة الثلاثية. وعادة هي مضاعفة أو حتى مستبدلة بدائرية الكرسي حيث يجلس الشخص، أو ببيضاوية السرير الذي يرقد عليه الشخص. بإمكان هذه المساحة أن تتناثر في أقراص صغيرة تحيط بجزء من جسد الشخص، أو في اللوالب الملتفة التي تطوق الأجساد. حتى الفلاحَين في لوحة “رجلان يعملان في الحقل” تشكل شكلاً في علاقة مع قطعة أرض غير ملائمة، حبيسة الشكل البيضاوي للأصيص. باختصار، فإن اللوحة تبدو كحلقة سيرك، نوع من المدرج الروماني الدائري “مكانًا” وهو أسلوب يسير جداً يتضمن عزل الشكل”.7.1

بل يتمادى بيكون ليحيل اللوحة بأكملها إلى إيماءة منعزلة، ويصفيها من الاستعارة التي ينبذها كافكا في سردياته. يشرح دولوز ذلك: “ليس الأمر أن اللوحة تمثل واقعاً منعزلاً، ولا أن اللوحات الثلاثية هي ثلاث لوحات منعزلة (والتي جوهرياً لا يمكن أن تتحد في إطار واحد)، لكن الشكل نفسه منعزل في اللوحة من خلال المساحة الدائرية أو الشكل متوازي الأضلاع. لماذا؟ عادةً ما يشرح بيكون ذلك بأنه بغرض تفادي الخاصية الاستعارية، التفسيرية والسردية التي كان ليمتلكها الشكل لا محالة إن لم يكن معزولاً. لا تملك اللوحة نموذجاً لتمثله ولا قصة لتسردها. لذا للوحة طريقتين للفرار من الاستعارة: تجاه شكل صافي من خلال التجريد، أو تجاه الاستعارة الصافية من خلال الاقتلاع أو العزلة”.7.2

ولأختم إذًا برؤية الشاعر م. الطيب للإيماءة الكافكاوية بلغته الخاصة وهو يلقي على مسامعنا في الأخير:

“كان الجسد كله عين

لما التفتِ

صارت الجهات 

حواس”.

*

  1. نظرية الأشياء للفيلسوف النمساوي ألكسيوس ماينونغ.
  2. الاختلاف والتكرار. جيل دولوز. ترجمة د. وفاء شعبان. المنظمة العربية للترجمة. الطبعة الأولى: بيروت أبريل 2009.
  3. Gesture: Kafka’s Means to Silence. Joan Ramon Résina, Williams College. The International Fiction Review, 15, No.l (1988). P. 4, P. 5.
  4. Benjamin, “Franz Kafka: On the Tenth Anniversary of His Death,” in Illuminations, 122.
  5. When Gesture Becomes Event Lecture by Judith Butler. Theater Performance Philosophy- International Conference. Amphitheater Richelieu, Sorbonne University. June 27th 2014.
  6. Matthew Powell. Review of Lothe, Jakob; Sandberg, Beatrice; Speirs, Ronald, eds. Franz Kafka: Narration, Rhetoric, and Reading. H-Judaic, H-Net Reviews. October, 2011. P. 136
  7. Francis Bacon: The Logic of Sensation. Gilles Deleuze. Translated by Daniel W. Smith. Continum 2003. P. 1, P. 2.
أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى