في ذكرى والدي
رودريغو غارسيا يتحدث عن ذكرياته مع والديه غابريل غارسيا ماركيز ومرسيديس بارتشا
رودريغو غارسيا ماركيز
ترجمة: مريم الدوسري
أنقذت أمي معظم مُسوَّداتُ نصوصٍ كان والدي يكتبها دون علمه، لأنه عارض بشدة الإعلان عن أو الحفاظ على أعمالٍ غير مكتملة. في كثير من المرات خلال طفولتنا، استدعيتُ وأخي للجلوس على أرضية مكتبه ومساعدته في تمزيق مسوّدات قديمة بأكملها والتخلص منها- لهواة الجمع ودارسي عمليته الإبداعية هذه صورة غير سعيدة، أنا متأكد. آلت أوراقه ومكتبة مراجعه إلى مركز هاري رانسوم في أوستن، تكساس، واستمتعت أمي كثيرًا بمراسم افتتاح تلك المجموعة. حضرت عائلة أخي وعائلتي، واستمتعت أمي بوقتها وعثرتْ في رفقة أحفادها على ملجأ.
بعد عامين من وفاة والدي، أخذنا رماده إلى كارتاخينا. وضِعَ الرماد في قاعدة تمثال نصفي (غريبٌ في تشابهه معه)، في فناء مبنى استعماري، مفتوحٌ الآن للجمهور. كان الافتتاح في حفل رسمي، سبقه وتبعه حفل كوكتيل إجباري مفتوح في منزل والديّ، كما فعلنا بعد وفاة والدي. استمر الحفل عدة أيام، ولكن نظرًا لأن الجو كان أكثر مرحًا، تأكدت والدتي أنَّ الموسيقا تُعزفُ حتى وقت متأخر من الليل. وجدتُ تلك الأيام عاطفية بعض الشيء وربما متعبة قليلًا، لكن من الغريب أنني اعتقدت، في ذلك الوقت، أنها لم تكن أيامًا مرهقة كثيرًا. بدا كل شيء محتملاً جدا. في يومي الأخير هناك، توقفت في الصباح الباكر في الفناء لإلقاء نظرة أخيرة على موضع الرماد. كان من المذهل التفكير في أن الرماد سيظل هنا، وأنه سيكون هنا مدةً طويلة جدًا، ربما قرونًا من الزمن، وحتى بعد زمنٍ من رحيل كل من يعيش الآن. كانت الرحلة إلى المطار حزينة، وبعد أربع وعشرين ساعة من هبوطي في بوغوتا، دخلت المستشفى مصابًا بعدوى في المثانة وجلطة دموية في ساقي. ربما كانت الأيام السابقة أكثر إرهاقًا مما ظننت. توفيت والدتي في أغسطس من العام الماضي (عام 2020)، وأنا دَهِشٌ من السرعة التي تغيرت فيها مكانتها عندي. أنا غير قادر على المرور بالقرب من أي صورة لها دون قضاء لحظة في النظر إليها. يبدو وجهها أكثر لطفًا وجمالًا من أي وقت مضى، حتى في سن الشيخوخة. كانت تعاني قلقًا مدى الحياة (وربما دون أن تعي ذلك)، ومع ذلك كانت لها قدرة عظيمة على الاستمتاع. كان اهتمامها (كما والدي) بالحياة نفسها وبحياة الآخرين لا ينضب. كانت مشاعري تجاه والدي، مع حبي له، معقدةً بسبب شهرته وموهبته، مما جعله عدة أشخاص كان عليَّ العمل على دمجهم في شخص واحد، ومترددٌ دائمًا بين مشاعر مختلطة. وأيضًا مشاعر معقدةٌ تتعلق بالوداع الطويل والمؤلم إثر فقدانه ذاكرته، والشعور بالذنب من العثور على بعض الرضا في الشعور المؤقت بكوني أتمتع بقوة عقلية أكثر منه.
مشاعري تجاه أمي الآن، وعلى نحوٍ مُذهلٍ، غير معقدة على الإطلاق. هذا النوع من التصريحات هو من قبيل ما يجعل المعالجين النفسيين يرفعون حواجبهم. ومع ذلك فما أقوله صحيح. كانت والدتي تخاف من التعبيرات الكبيرة عن العاطفة، وفي طفولتنا شجعتنا على عدم اظهار مشاعرنا. لكن بمرور الوقت أدركتْ أن هذه كانت حالةً ورثتها عن والديها، ومن المحتمل جدًا أنهما ورثاها أيضًا. لم تكن تدرك حتى إنها تفعل ذلك، وكلما اقترحت أنها قد تستفيد من العلاج أو الأدوية، كان ردها قاطعًا: كلا، أنا لست هيستيرية.
أنا ممتن لأنني تمكنت من فهم ذلك، وقبوله، حين كانت لا تزال على قيد الحياة، لذا فإن ما تبقى هو فقط المودة والافتتان بقوة الحياة التي انبثقت منها. كانت صريحة وكتومة، ناقدة ومتسامحة، شجاعة، لكنها تخشى الفوضى. يمكن أن تكون حساسة وقادرة على إطلاق الأحكام، ولكنها لا تتوانى في المسامحة، خاصة إن كان عليها أن تسامح شخصُا شاركها مشاكله. بعدها كانت لتظل إلى جانبهم وتحظى بحبهم إلى الأبد. لم تكن والدتي تظهر مشاعرها لي ولأخي بطريقة جسدية، لكنها كانت حنونة جدًا وبتزايد مع مرور السنين. لقد ساهمت شخصيتها المركبة بالتأكيد في افتتاني طوال حياتي بالنساء، وخاصة النساء ذوات شخصياتٍ متعددة الجوانب، والنساء الغامضات، وما يشار إليه غالبًا، على ما أعتقد بنحو غير عادل، على أنهن نساء صعبات.
تجددَ إعجابي بوالديّ. أعترف أن هذا المنظور (قد يسميه البعض مراجعة) ليس نادرًا. يجعلنا الغياب أكثر ولعًا وتسامحًا، ونحن ندرك أن والدينا كانوا يمشون على أقدام من الطين مثل أي شخص آخر. في حالة والدتي، أنا دهشٌ كيف أنها، بالنظر إلى الزمان والمكان الذي ولدتْ فيهما، نشأتْ لتصبح الشخص الذي أصبحت عليه، وأن تصمد رغم الصعوبات أو أن تستلم زمام العالم الذي قدمه لهما نجاحُ والدي. كانت ابنة عصرها، دون تعليم عالٍ، أم، وزوجة، وربة منزل، لكن العديد من النساء اللائي يصغرنها في السن ويتمتعن بحيوات ومهن ناجحة أُعجبنَ بها علنًا، وحسدنها على عزمها ومرونتها وثقتها بنفسها. كان أصدقائها يعرفونها باسم لا غابا، وهو لقب يعتمد على والدي غابو، لذا فهو لقب أبوي، ومع ذلك لم يحسب أي شخص يعرفها أنها لم تصبح سوى نسخة رائعة من نفسها.
في مطعم قبل عامين من وفاتها، أخبرتني أمي أنه بعد ولادتِها أنجبتْ والدتها طفلين ماتا رضيعين. لقد فوجئت بأنني لم أسمع هذا من قبل. سألتها إذا كانت تذكر ما حدث، فأجابتني بالإيجاب. تذكرت بوضوح والدتها وهي تحمل طفلاً ميتًا بين ذراعيها. احتضنت ذراعها اليسرى لتُمّثل لي ما رأت.
سألتُها: «لماذا لم تخبريني بهذا من قبل؟».
أجابت: «لأنك لم تسأل قط».
يا لحماقتي. في وقت لاحق سألتها عن ذلك مرة أخرى، متعطشًا لمزيد من التفاصيل، لكنها أنكرت ليس فقط أنها أخبرتني مثل هذه القصة، ولكن حتى رؤية أحد أشقائها الرضع المتوفين. كنت مذهولًا. لم يكن هذا بفعل شيخوخة أو خرف. كانت ذاكرتها قوية دائمًا. ألححت عليها. قالت لي بحزم «لا. لم يحدث ذلك قط». تخليت عن الموضوع ذلك اليوم، لكنني كنت مصممًا على العودة إلى هذا اللغز مرة أخرى في المستقبل، حين تتغير الرياح، لكن الوقت نفد.
قضيت أيضًا خمسين عامًا من حياتي دون أن أعرف أن والدي قد فقد الرؤية في وسط عينه اليسرى. اكتشفت ذلك أثناء مرافقته لطبيب العيون، وفقط لأن الطبيب ذكر الأمر بعد الفحص.
أتمنى لو كنت أعرف كيف يتذكر والداي نفسيهما حين كانا أصغر سنًا، أو لو كانت لدي أدنى فكرة عما يعتقدانه عن مكانتهما في العالم، عندما كانت حياتهما محصورة في المدن الصغيرة في طفولتهم الكولومبية. كنت مستعدًا لأعطي أي شيء لأقضي ساعة مع والدي عندما كان صبيًا شقيًا في التاسعة، أو مع والدتي عندما كانت فتاة حيويةً في الحادية عشرة من عمرها، وكلاهما غير قادر على التكهن بالحياة الاستثنائية التي تنتظرهما. وهكذا، يشغل ذهني التفكير في أنني ربما لم أكن أعرفهما بما فيه الكفاية، وأنا بالتأكيد آسف لأنني لم أسألهم أكثر عن التفاصيل الصغيرة لحياتهما، وأكثر أفكارهما خصوصية، أعظم آمالهما وأكبر مخاوفهم. من المحتمل أنهما شعرا بذات الشيء تجاهنا، وإلا من يمكنه معرفة أطفاله بحق؟ أتطلع لأعرف أفكار أخي حول هذا الموضوع، لأنني متأكد أن المنزل يختلف تمامًا باختلاف سكانه.
ينتظرنا قرار بشأن مستقبل المنزل. دائما ما كنتُ وأخي متحمسَيْن لزيارة المتاحف المنزلية لكتاب وفناني الماضي، وغيرهم من أشخاص ناجحين وغير سعداء، لذلك نميل إلى هذه الفكرة. ومع ذلك، فإنني دهشٌ قليلاً من استعدادي لفتح أبواب منزل عائلتنا لأي شخص ولكل شخص. ربما تكون طعنة يائسة للانتصار على مرور الوقت، أو في الأقل هي محاولة لتجنيبنا حرقة الاضطرار إلى إفراغ المنزل وبيعه لغرباء.
تشبه وفاة الوالد الثاني، أي أمي، النظر من خلال تلسكوب دون أن يعثر على كوكبٍ كثيرا ما كان في ذات المكان. لقد اختفى الكوكب بدينه وعاداته وعمله اليومي المميز وطقوسه، كبيرها وصغيرها. يبقى الصدى. أفكر في والدي كل صباح عندما أجفف ظهري بمنشفة بالطريقة التي علمني إياها بعد رؤيتي أعاني وأنا في سن السادسة لأتجفف. ما زلت أحتفظ بالكثير من نصائحه معي دائمًا. (نصيحة مفضلة: كن متسامحًا مع أصدقائك، حتى يسامحوك.) أتذكر والدتي في كل مرة أرافق فيها ضيفًا مغادرًا إلى الباب الأمامي، لأن عدم القيام بذلك سيكون أمرًا لا يغتفر. وكلما صببت زيت الزيتون على أي شيء تذكرتها. وفي السنوات الأخيرة، ننظر نحن الثلاثة إلى انعكاس وجهي في المرآة. سعيت أيضًا إلى توجيه حياتي مستعينًا بقاعدتهما التي كانت نادرًا ما تُقال، ولكنها غير قابلة للمساوة: لا تكن خبيثًا.
يعيش الكثير من ثقافة والدينا بنحوٍ ما في الكواكب الجديدة التي أنشأتها أنا وأخي مع عائلاتنا. وقد اندمج بعضها في ما جلبته زوجاتنا، أو ما اخترن عدم إحضاره، من قبائلهن. سيستمر التفكك حتى بعد سنوات، وستتراكم الحياة طبقاتٍ وطبقاتٍ على عالم والديّ، وطبقاتٍ من حيواتٍ أخرى، حتى يأتي اليوم الذي لن يتذكر فيه أحد وجودهما المادي. أنا الآن تقريبًا في العمر الذي كان والدي فيه عندما سألته عمّا كان يفكر فيه ليلًا بعد إطفاء الأنوار. مثله، لست قلقًا جدًا بعد، لكنني على وعيّ بالوقت. وحتى هذه اللحظة، ما زلت أفكر فيهما.