فوزُ عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل يُشرعُ باب الإلهام والتحفيز لِجيلٍ جديدٍ من الكتّاب الأفارقة

البروفيسور محمد بكاري (محمد أبو بكر السقاف)*


حجم الخط-+=

ترجمة: صائل البحسني

ذهبت جائزة نوبل للآداب هذه السنة للكاتب والأكاديمي عبد الرزاق قرنح البالغ من العمر ثلاثة وسبعين عاما والمولود في زنجبار والمقيم حالياً في إنجلترا. فاجئ هذا الاختيارُ من لجنة الجائزة العديدَ من محبي الأدب بما فيهم كبارُ أساتذةِ الأدبِ ودارسيه في داخلِ بريطانيا وخارجها. وهذا الأمر مفهومٌ تماماً، إذ إن آخر مرة نال فيها إفريقيٌ جائزة نوبل كانت لعقود خلت، تخللها قلةٌ [من الأفارقة]، وباعدت بين فوزٍ وفوز سنينٌ عديدة.

عبد الرزاق قرنح مثالٌ على كاتب الكتَّاب الذي يجمع إلى ذلك كونه أكاديمياً أيضا. لقد شق طريقه إلى بريطانيا ليكمل تعليمه الجامعي لأن طموحه نيل شهادة إتمام المستوى الأساسي من دراسته، داخل وطنه زنجبار، وُئدَ بسبب ما حصل من أحداث 1964 م الدامية والكارثية، واضطر إلى أن يقبع في الداخل جراء منع السكان من مغادرة الجزيرة خشيةَ أن يهجروها فتصبح خاوية على عروشها. استطاع قرنح، فيما بعد، أن يتدبر طريقه إلى خارج المهلكة التي غدت عليها زنجبار. بدا الأمر كما لو أن شياطين هجرته المؤجلة عنه كانت تتربَّص بحياته في كل مرة حدَّقت إمكانية حدوثها إلى وجهه.

في سنة 1994 م، حين كان قاب قوسين من نيل جائزة البوكر على روايته “الفردوس”، صارتِ الجائزة إلى الكاتب السكوتِّيِّ[السكوتلاندي] جيمس كِلمَن عن روايته “!How late it was, How late”. بلغ قرنح للمرة ثانية القائمةَ الطويلة لجائزة البوكر سنة 2001م، وهذه المرة عن رواية “عبر البحر”. وفي المرة الأخيرة ،كان صاحبُنا يبدو أنه قد اعتاد نمطَ هذا القدَر، وقد تُرِكَ لحتميته. وهو الشديد التصميم الذي لا يفتُّ في عضده شيء كما كان،  أدركَ أن الخيار الوحيد المتاح هو أن يخلق فضاءً لكتّابٍ من ذات خلفيته هو، ليتمرسوا على شكلٍ من أشكال الاستقلالية تمثلت في أن يُرَوْا وهم يحققون تقدماً بمنجى عن تصاعد العراقيل التي تلقي السياسةُ بها في طريقهم. بالتحاقه محرراً مُساهما سنةَ 1987، نشطَ ضمن المجلس الاستشاري لصحيفة “واسَفيري” الأدبية الأكاديمية والتي وفرت في الداخل [بريطانيا] مساحةً وحوافزَ لنشر كتابات أدبية ما بعد استعمارية عالية الجودة. وفي غضون ذلك، كان قرنح قد رأس كرسي قسم اللغة الإنجليزية في جامعة كِنْتْ. بهذا تمكن من الجمع بين التدريس، ومزاولة فنه. وفي الوقت نفسه، كان ينشر على نحو متواصلٍ قدْراً ثابتاً من الأعمال الروائية شاحذاً  ملكاته الأدبية الخلّاقة. وفي حين آذنت رواية “الفردوس” في الناس عن ظهور كاتبٍ كان العالم في حاجة إلى أخذه على محمل الجد، فإنَّ كاتبنا سيقضي زمناً في اعتراك قضية آثار الاستعمار في رواياتٍ من مثل “هجران Desertion”، على طول الطريق إلى رواية “حيوات ما بعد الموت Afterlives” حين بدأ يُسمَع صوتُه ويُلتفت إليه. لربما ما من أحدٍ يكتب النثر بهذا الجمال مثلما يكتبُ عبد الرزاق قرنح الآن، هو الذي طوَّر صوتاً فريداً، محاكياً حسَّ العجرفةِ والكِبْرِ الإنجليزيَّ الذي تمتلكه طبقة علية القوم -المبالَغ في علوها- منهم.

يناقش عبد الرزاق قرنح بلا كبير جهد قضايا اللجوء السياسي، والتهميش الاجتماعي، والاندماج، ويلفت الانتباه إلى الطبيعة العالمية للمجتمع المعاصر التي لا  يُعكّر أيٌّ من هذه القضايا صفو أحد،  فالعالم أكبر من جزيرة بريطانيا الصغيرة ومن أوروبا. ناقشت رواياته الأولى كذلك القضايا الحسَّاسة فيما تعلق بالممارسات الجنسية الملثية في مجتمع انحدرَ هو منه. اتَّهمه كثيرٌ من مواطنيه القراء، الذين لم يشاركوا قرنح خلفيته، برسم صورة سلبية عن المجتمع الحقيقيّ الذي نشأ بين ظهرانيه. توجد أوجه شبهٍ بين أعمال عبد الرزاق قرنح والآخر الفائز بنوبل، نجيب محفوظ. إذ حتى أولى أعماله الروائية أبانت عن ملامحِ موهبةٍ نادرة.

نجح البروفيسور قرنح، المغرق في ثقافات أدبية متعددة، في إلهام جيلاً بكامله من الكتَّاب ليثمِّنوا قيمةً في أدب “الآخر”. في استطاعة طلابي في تركيا وبسهولة أن يفهموا القضايا التي يثيرها، فبمستطاعهم أن يروا تقاربا بين مجتمعهم والعالَم الروائي الذي أبدعه، وذلك بفضل الإرث الإسلامي المشترك الذي يتشاركونه والعالم المتخيل الذي أبدعه إذ كان بينه وبين البلاد العثمانية من المشتركات الكثير. ومع أنه شخص يحرس خصوصيته ووقته بشدة، فهو يعطي ارتساماً عنه بأنه رجلٌ من عالم آخر، السمةُ التي، بمعنى ما، تمثلُه. إن كنتَ تريد حقاً أن تستمتع بالفكاهةِ، أن تستمتعَ بسخريةٍ من حس العجرفة المبالغ فيه ومن تلك الحالِ الباعثة على شفقة التي يخلقها فقدانُ الفهم المباشر لما هو حاصلٍ اليوم، فإن عبد الرزاق قرنح هو الرجل لتلج برفقته الباب. لن تعود معه بخُفي حُنَين أبدًا. فيوجد الكثير مما يُستكشَف في كتاباته!

بقلم: البروفيسور محمد بكاري.

نائب رئيس جامعة كينيا الإسلامية.

vc@iuk.ac.ke

نُشر الأصل الإنجليزي للمقالة يوم 12 من شهر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2021.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى