فلسطين في الأدب والثقافة الروسية – محمد دياب

عمران أبو عين


حجم الخط-+=

صدر حديثاً في حزيران/ يونيو 2022 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب بعنوان “فلسطين في مرآة الثقافة الروسية” لمحمد دياب، ويُشير عنوانه إلى محتواه. يقع الكتاب في 156 صفحة، في أربعة فصول وخاتمة ومراجع. ارتأينا تلخيص الكتاب وكتابة قراءة عنه، لتكوين فكرة أو تصور عن وضع ومكانة المنطقة العربية عموماً، وفلسطين خاصة، في كتابات الروس وثقافتهم.

تعود علاقات الروس بأرض المشرق العربي ومن ضمنه فلسطين، إلى زمن بعيد قبل اعتناق روسيا الديانةَ المسيحية رسميا في عام 988م. ومع اعتناق المسيحية شكلت الأراضي المقدسة موقعَ الجذب الأهم للمؤمنين الروس. وعلى مدى قرون توافدَ الآلاف من المؤمنين الروس إلى فلسطين لتأدية فريضة الحج، أتوا إلى الأرض المقدسة حاملين قناعاتهم وتصوراتهم التي تشربوها من الكتاب المقدس وقصص الرسل ومآثر النُساك والقديسين. منذ ذلك الحين، ارتبطت الثقافة الروسية بأواصر روحية خفية لا تنفصم مع الأراضي المقدسة، الأمر الذي ترك تأثيرا محددا في تكوين الحضارة الروسية. يقول كاتب روسيا فيودور دستويفسكي في هذا الصدد: “منذ أن ظهر الشعب الروسي، ومنذ أن نشأت الدولة الروسية، ومنذ أن تعمدت الأرض الروسية، اندفعت قوافل الحجاج الروس نحو كنيسة القيامة…”. وابتداء من القرن الثامن عشر، ومع تزايد اهتمام الدولة الروسية بمنطقة الحوض الشرقي من البحر المتوسط، أمَّت فلسطين والمشرق العربي عموماً أعداد متزايدة من الأدباء والمؤرخين والعسكريين والسياسيين الروس، فضلاُ عن الدبلوماسيين، مكلفين بمهمات رسمية أحياناً وبمبادرات ذاتية أحياناً أخرى. والجدير بالذكر أن روسيا، على حد قول الكاتب والمؤرخ نيقولاي ليسوفوي: “لم تنظر قطّ إلى فلسطين أو سوريا أو أي بلد أخر بوصفه رأس جسر للتوسع الاستعماري، أو موضعاً لمطامع عسكرية وسياسية… ولم تسلك طريق المغامرات الصليبية أو الجيوسياسية الأخرى”.

فلسطين في كتابات الحجاج الروس

تذكر المؤرخة والمستشرقة الروسية إيرينا سميليانسكايا خمس حقب أو تيارات ثقافية تأثرت بها كتابات الحجاج: “الحقبة الأولى هي حقبة استكشاف الحجاج الأوائل لعالم مقدس عرفوه من الكتب الدينية والأساطير والأحاديث المتناقلة، والحقبة الثانية وهي حقبة ما قبل النهضة، أو ظهور ما يسمى الفهم الأنثروبولوجي للعالم، والحقبة الثالثة وهي ما يُعرف بالعصر الباروكي، والحقبة الرابعة وهو العصر الكلاسيكي، الذي تميز بالتأثير الكبير الذي مارسته أفكار التنوير على الأدب، والحقبة الخامسة، الأخيرة، تميزت بتأثير الروح الرومانسية في كتابات الحجاج الأدباء الذين زاروا الأراضي المقدسة”. تشير الباحثة الروسية ميلينا روجديستفينسكايا الى أن النص التوراتيّ حدد الأسلوب ونظام الصور والرموز والتشبيهات التي اعتمدها الحجاج الأوائل في كتاباتهم عن فلسطين، وتقول الباحثة: “لم تكن رحلات الحجاج رحلات في الجغرافيا فقط، بل في الزمن أيضاً. ففلسطين هي أرض أحداث الكتاب المقدس…” وقد ظلت المعلومات عن جغرافيا الأراضي المقدسة وظروفها الطبيعية وثقافتها وتاريخها، شحيحة جدًا في كتابات الرحلات المبكرة. 

كان لأدب رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة خصائصه في الحقبة التي تسميها سميليانسكايا الحقبة الباروكية (أشرنا إليها سابقاً وهي الحقبة الثالثة)، إذ حمل هذا الأدب منذ أواسط القرن السابع عشر سمات الثقافة الباروكية، التي أسهمت في ترسيخ أفكار الإنسانية والعلمانية والتنوير في وعي الروس. فلم تعد كتابات الحجاج تقتصر على الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية، بل صارت تتناول عادات الناس وحياتهم اليومية. ركز الحجاج في هذه الحقبة اهتمامهم على العالم الدنيوي، الفاني، الملموس، لا على العالم الغيبي، الأبدي، كما كان يفعل أسلافهم من الحجاج. فغابت النظرة الثنائية التي ترى العالم منقسما إلى الخير والشر، ولفتت انتباههم إنجازات العالم الإسلامي الثقافية والفكرية، التي يفتقر إليها وطنهم. ومنذ اواسط القرن الثامن عشر -حقبة العصر الكلاسيكي- أصبحت المعلومات أكثر واقعية وانتظاماً، واتسمت التوصيفات بالعقلانية والموضوعية إلى حد ما، ما يدل على أن وعي الحجاج للواقع الذي عايشوه أصبح أعمق. وفي ذات الوقت، تأثرت كتابات الحجاج في تلك الحقبة بالأدب الأوروبي الغربي وأفكار عصر التنوير، فكانت كتابات فاسيلي غريغوريوفيتش- بارسكي وليونتي زيلينسكي وميلتي، انعكاساً للثقافة الروسية التي تشربت بأفكار العصر المذكور. فلم يعد حجاج تلك الحقبة يخفون فضولهم الدنيوي. قاد حب الاستطلاع –غريغوريفيتش- بارسكي إلى أن اندسَّ في حوران في قافلة للحجاج المسلمين كانت عائدة من الحج، متنكراً بزي درويش، ودخل دمشق برفقتهم، وزار المسجد الأموي، فكتب يصف المسجد: “ثمة معبد بناه الهاجريون خارج مدينة دمشق، في سهل فسيح وخلاب على شاطئ نهر، … يا له من مبنى عظيم القيمة، رائع المنظر..”.

ففي القرن الثامن عشر، صار أدب الحج يقترب تدريجاً من أدب الرحلات، الذي يحمل أهدافاً تنويرية ويتسم بنفحة أدبية مميزة. وعموماً، تقدم كتابات حجاج القرن الثامن عشر صورة سحريّة عن الأرض المقدسة تبدو فيها أشبه بالسراب الذي يبعث حنيناً طاغياً إلى تلك الحقبة البعيدة. وهكذا، صار الحجاج في القرنين السابع عشر والثامن عشر يولون خصائص شعوب البحر المتوسط الإثنية والدينية اهتمامًا متزايداً. وصار الحجاج الروس في تلك الحقبة يُفرقون بين كل من العرب والأتراك والتركمان، ويظهرون الاهتمام باللغتين العربية والتركية. فقد أصبحت كتابات الحجاج في هذا الزمن ذات شعبية، وليس فقط في الأوساط العلمية الكنسية أو المحيطة بالكنيسة، كما كان الأمر في السابق. ظلت كتابات الحجاج عن الأراضي المقدسة، حتى المنتصف الأول من القرن التاسع عشر، مصدرَ المعلومات الأول والأساسي عن العالم العربي للقراء الروس. وبدأت كتابات الحجاج في هذه المدة  -حقبة الأدباء الرومانسيين- تأخذ طابعاً أدبياً مُشبعاً بروح الرومانسية، التي شاعت في الثقافة الأوروبية الغربية ردةَ فعلٍ على أفكار التنوير والأحداث السياسية التي أعقبت الثورة الفرنسية. صاغ الأدباء الرومانسيون الرحالة كتاباتهم حينذاك في ظروف العصر الحديث الثقافية والتاريخية، وقطعوا قطعًا باتًّا تقاليدَ القرون الوسطى. فمثلاً، لقي مؤلف أندريه مورافيوف “رحلة إلى الأماكن المقدسة” في العام 1830 انتشارا واسعا في أوساط القراء الروس، وأُعيدت طباعته مراراً. وكذلك كتابه رسائل من الشرق (1849- 1850) الذي دون فيه انطباعاته عن رحلته الثانية التي شملت لبنان وسوريا وفلسطين. جديرٌ بالذكرِ أن مورافيوف هو الأديب والشاعر الذي كتب مسرحيته الشعرية الشهيرة ” بحيرة طبرية، أو سقوط الصليبيين في فلسطين” المستوحاة من معركة حطين وهزيمة الصليبيين وتحرير القدس على يد صلاح الدين. 

وتمثلاً بأفكار التنوير، اتخذ الأدباء الرحالة في القرن التاسع عشر موقفاً نقدياً من مسألة مواقع العديد من الأماكن المقدسة. فكان أبرام نوروف، الذي عُدَّ أول مؤرخ وعالم آثار روسي مختص بالأراضي المقدسة، يجول ارجاء فلسطين حاملاً الكتاب المقدس، معايناً أماكن التعبد بدقة، ومقارناً إياها بنصوص العهدين القديم والجديد. لقد تكونت صورة فلسطين والعالم العربي عموماً، لدى هذه النخبة من الأدباء الرحالة، كما لدى أسلافهم، تحت تأثير الكتاب المقدس والممارسة الطقوسية الدينية. بيد أنهم يختلفون عن الحجاج الروس الأوائل، لأنهم لم يغوصوا في عالم الكتاب المقدس، بحثا عن أدلة على الحضور الرباني، بل إنهم اكتشفوا الحقيقة التوراتية في صورة حياة فلسطين التقليدية. أولى الأدباء الرحالة الرومانسيون الطبيعة الفلسطينية اهتماماً خاصاً، وفي هذا الصدد يقول فيازيمسكي: “الطبيعة كيفما كانت هي في نظري أكثر جاذبية من المباني القائمة والمهدمة”. وفي مكان آخر يكتب: “كل هذه اللوحة الحية المغمورة بالأشعة الساحرة، أشعة الشمس الغاربة، التي تبعث على الدفء، لم أرَ لها مثيلاً، لا في روما ولا في نابولي…”. وفي المحصلة، قدم الحجاج الرومانسيون صوراً رائعة للطبيعة الفلسطينية، أبدعت ريشة الرسامين الحجاج في تجسيدها. 

وربما كانت رحلة الحج الأخيرة هي تلك التي قام بها في مطلع القرن العشرين، وتحديداً 1900، الأسقف ورئيس جامعة موسكو للعلوم الدينية مع عدد من طلابه وأساتذة جامعيين قبل الثورة البلشفية. وكانت حصيلة هذه الرحلة كتاب حمل عنوان “في بلاد الذكريات المقدسة” فكتب يقول: “فلسطين هي حقاً بلاد الذكريات المقدسة”. وكان الكتاب أقرب إلى أدب الرحلات الواقعي، وقد تجلى ذلك في أوصاف الطبيعة والمدن الفلسطينية والناس العاديين فيها. وتوقفت بعدها رحلات الروس الى الأراضي المقدسة، لتبدأ بعدها طيلة العصر السوفياتي، حقبة جديدة في تاريخ العلاقة بين روسيا وفلسطين بعناوين مختلفة وأهداف مختلفة. 

صورة فلسطين في الأدب الروسي 

أخذت الإبداعات الفكرية المكرسة لفلسطين والقدس بالظهور منذ بدايات القرن التاسع عشر على نحو أساسيّ. ففي هذا القرن زار فلسطين العديد من الأدباء والشعراء والفنانين والدبلوماسيين الروس البارزين، كان من بينهم غوغول وبونين وكوكولينك، والفنانين من أمثال ريبين وفوروبيوف والأخوان تشيرنوفيتس، وغيرهم الكثير. كما كتب شعراء عظام مثل بوشكين وليرمنتوف قصائد من وحي الأماكن المقدسة من دون زيارتها. فكانت فلسطين هي الرابط الروحي الذي يشد الإنسان الروسي إلى الأرض المقدسة، فيقول فاسيلي خيتروفو: “إن أسماء الأماكن المقدسة: أورشليم، الأردن، الناصرة، بيت لحم، تمتزج في مخيلتنا منذ الطفولة بأسماء مدن عزيزة على قلوبنا هي: موسكو، كييف، فلاديمير، نوفغورود”. وغدت قصيدة الشاعر الكبير ميخائيل ليرمنتوف “غصن فلسطين” عنواناً لديوان أدبي- شعري يجمع كتابات الأدباء والشعراء الروس في حقب مختلفة عن فلسطين، فالقصيدة كتبها الشاعر ولم تطأ قدماه أرض فلسطين، لكنها من وحي سعفة نخيل مجدولة بمهارة، أهداه إياها صديقه الشاعر أندريه مورافيوف العائد من الأراضي المقدسة، جاء منها: 

قل لي، يا غصن فلسطين 

أين نمَوْتَ، أين أزهرت؟ 

أي هضاب، وأي وديان زيَّنت؟

أعند مياه نهر الأردن الصافية، 

داعبك شعاع الشرق، 

أم إن هواء الليل في جبال لبنان 

هو الذي أرْجَحَك غاضباً؟ 

كما زار الكاتب الأديب العظيم نيقولاي غوغول فلسطين في شباط/ فبراير 1848. ولديه رسائل عديدة بهذا الشأن مع صديقه الشاعر فاسيلي جوكوفسكي. ولم يكتفِ غوغول بزيارة القدس، فزار أيضاً الجليل والناصرة وبحيرة طبريا ويافا. وفي عام 1881 زار الأمير قسطنطين رومانوف، سليل العائلة المالكة والشاعر المعروف، فلسطينَ وكتب قصيدته “أسطورة عن البحر الميت” أبانَ فيها عن انطباعاته من زيارته نهر الأردن والبحر الميت. وشاعر آخر هو نيقولاي كليش، كتب عام 1861 قصيدةً قدَّم فيها صورة تنبض بالحياة عن مدينة يافا. أما في القرن العشرين، فقد كتب شعراء وأدباء كثير عن فلسطين، من بينهم الشاعر ألكسندر فيودوروف، فكتب بعد زيارته الأراضي المقدسة عام 1909 مجموعة من القصائد حملت عنوان “فلسطين”، فضلاً عن مجموعة من القصص. وكتب الناقد الأدبي سيرغي سولوفيوف قصيدتين “الدخول إلى أورشليم” و”أمام أورشليم”. وكانت قصائد آنا أخماتوفا وفلاديمير نابوكوف ومارينا تسفيتاييفا عن فلسطين، في رأي الكثيرين، ذروة الإبداع الشعري. أما شاعر روسيا الكبير الداغستاني رسول حمزاتوف (1923- 2003) فخصَّصَ لفلسطين قصائد رائعة تنضحُ بالتعاطف العظيم مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة. غنى حمزاتوف لفلسطين (نقتطف بعض الأبيات من قصيدته فلسطين): 

فأين أنت يا فلسطين؟

حارق ربيعك، وشقاؤه حارق

فأين فجرك يا فلسطين؟ 

خرس الطير على سعف نخلك المسحور

وصرت جرح جسد الأرض العربية البليغ 

نامت القنابل على وسائد أطفالك، مكان اللعب 

فأي الاغاني أغني لك يا فلسطين؟ 

وفي قصيدة مطولة للشاعر المعاصر يوري غالكين، تحمل عنوان ” الصليبيون 1178″، يتحدث فيها عن حروب الصليبيين والمسلمين على أرض فلسطين ومعركة حطين وتحرير القدس على يد صلاح الدين، ليخلص القول إن الأرض المقدسة لا تزال حتى يومنا الراهن فريسة النيران والحروب. كما جذبت فلسطين والمنطقة العربية العديد من الفنانين الروس، فزار فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عدد كبير من الرسامين الروس البارزين، أبرزهم الرسامون العظام إيليا ريبين ومكسيم فوروبيوف وفاسيلي بولينوف… وغيرهم من الرسامين والفنانين العظام. رسمَ هؤلاءُ العديدَ من اللوحات عن فلسطين، فقد عرَّف مكسيم فوروبيوف الجمهور الروسي على الأرض المقدسة من خلال لوحاته، ومن أشهرها “القدس في النهار” ولوحة “القدس في الليل” و”البحر الميت” و”في الصحراء السورية”… وغيرها الكثير. أما الرسام إيليا ريبين فقد زار فلسطين في صيف عام 1898، وأنجز فيها مجموعة من اللوحات والرسوم، أبرزها لوحة “إغواء المسيح في الصحراء” بعد عودته من فلسطين قال ريبين: “لم أتمكن من انجاز الكثير مما كنت أرغب في رسمه هناك. فقد كان همي الأول أن أرى أكثر ما يمكن، ومع ذلك رسمت لوحة المخلص…”. 

فلسطين في كتابات المؤرخين الروس

كانت فلسطين موضوعاً لكتابات المؤرخين والكتّاب السياسيين الروس في العصر الإمبراطوري والسوفياتي. ابتداءً بكبير المستعربين الروس إيغناتي (إغناطيوس) كراتشكوفسكي ونيقولاي ميدنيكوف وقسطنطين بازيلي، مرورًا بأغاتاتغل كريمسكي وفلاديمير لوتسكي ويفعيني بلياييف وغيرهم، انتهاءً بكلِّ من إيرينا سميليانسكايا ويفعيني بريماكوف، والمؤرخين المعاصرين في الحقبة ما بعد السوفياتية ألكسندر كريلوف وأندريه فيدورتشينكو وفلاديمير موروزوف وغيرهم. فلو أخذنا أمثلة من بعض مؤلفات هؤلاء لقلنا: شغل مؤلفُ قسطنطين بازيلي، القنصل الروسي العام في بيروت 1843، “سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني” حيزاً خاصاً بين العديد من الكتب التي وضعها رحالة وكتاب وقناصل روس عن سورية ولبنان وفلسطين. فهو مؤلف شامل عن تاريخ المنطقة الحديث، استخدم فيه المدوّنات العربية وأقوال الكثيرين من شهود العيان. فقد كتب غوغول عن الكتاب الذي اطلّع عليه عام 1848 ما يأتي: “كتب بازيلي شيئاً مدهشاً بعنوان سورية وفلسطين، سيُظهر لأوروبا الشرقَ بصورته الحقيقية، وهو ينطوي على معارف لا نهاية لعمقها ويثير اهتماماً شديداً. أنا لا أعرف كتاباً آخر يجعل القارئ يعرف جوهر المنطقة على هذا النحو”. وتناول مؤرخون مستعربون بارزون مسألة دخول الإسلام إلى فلسطين مع الفتح العربي وقبول سكانها للفاتحين، منهم مثلاً المستعرب الكبير نيقولاي ميدنيكوف (1855- 1918) في مؤلفه “فلسطين من الفتح العربي وحتى الحملات الصليبية بحسب المصادر العربية”، ومؤرخٌ آخر هو المستعرب البارز يفغيني بلياييف (1895- 1964) صاحب مجموعة من المؤلفات عن التاريخ العربي، من بينها: منشأ الإسلام (1931)، وفلسطين في القرون الوسطى (1939) والعرب، الإسلام والخلافة العربية في القرون الوسطى المبكرة (1965). كما تناول المؤرخ فلاديمير لوتسكي فلسطين والقضية الفلسطينية من زاوية تاريخية، بعيداً عن المشاعر الدينية والعاطفية، وهو صاحب مجموعة من المؤلفات التي تناولت تاريخ المنطقة العربية، منها:” تاريخ الأقطار العربية الحديث”، و”الحرب الوطنية التحررية في سوريا 1925-1927″. ومن المؤرخين أيضاً أغاتانغل كريمسكي، في مؤلفه المهم “تاريخ الأدب العربي الحديث، القرن التاسع عشر- بداية القرن العشرين” تناول في فصل خاص منه فلسطين والأراضي المقدسة ودورها في النهضة العربية وفي دخول الحداثة الأوروبية إلى مناطق سوريا الكبرى. 

ومن الكتب الصادرة باللغة العربية حديثا الكتاب (2021) عن المركز العربي للأبحاث، كتاب بعنوان “روسيا في حوض البحر المتوسط، حملة كاترينا العظمى في الأرخبيل” لإيرينا سميليانسكايا، إذ تناولت سياسة روسيا العامة في منطقة شرق البحر المتوسط، بوصفها جزءاً من بلاد الشام وسوريا الكبرى. وتناولَ كتاب يفغيني بريماكوف، الصحفي والكاتب السياسي الأكاديمي ورجل الدولة السوفياتي والحقبة التي تلتها، القضيةَ الفلسطينية في العديد من مؤلفاته أبرزها “تشريح النزاع في الشرق الأوسط” فقد وضع مؤلفه في عام 1977، حينما كان لا يزال أكاديمياً سياسياً وقبل أن يتسلم أي منصب رسمي من الدولة. ولديه دراسة أخرى بعنوان “قضية فلسطين في القرن العشرين. منشأها، وتطورها، وآفاقها”، يؤكد بريماكوف “أن الفلسطينيين يشكلون شعباً أصيلاً، ويملكون حقاً شرعياً لا يتجزأ في تقرير المصير، ويمكن أن يتجسد تقرير المصير هذا على شكل دولة وطنية، ولا يحق لأي كان انتزاع هذا الحق منهم”. 

ختاما

تبقى فلسطين الأرض المقدسة، التاريخ والشعب والقضية، اليوم مصدر إلهام للإنسان الروسي، وهي تشغل حيزاً مُهماً في وجدانه الروحي ووعيه الثقافي. وتظل مركز جذب لكتابات الكثير من المؤلفين الروس، التي لا تقتصر على الجانب الروحي الديني فحسب، بل تتعداه لتشمل الجوانب التاريخية والإثنوجرافية والثقافية والسياسية أيضاً، فتشكل بمجملها مكوناً من الثقافة الروسية قديماً وحديثاً.  

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى