رحلة مائية من محطة الرمل إلى بياتزا دي إسبانيا

محمد جمال عبد الله


حجم الخط-+=

لا يوجد رمل في محطة الرمل في الإسكندرية. وقبل الخروج من مدخل المدينة في البحر، كانت الخريطة حكاية في لوحة طولها 7م وعرضها 3م، مرسومة بالألوان الزيتية، “مدرسة الإسكندرية”، وهي اللوحة الشهيرة لفنان الحكاية “محمد ناجي”. تخيل بوابة دائرية بيضاء من الرخام والمرمر، ينطبق عليها وصف “تقي الدين المقريزي” للإسكندرية في كتابه “وصف الإسكندرية”: “تضيء بالليل بغير مصباح لشدة بياض الرخام والمرمر”. تستقبلك في الغواصة كليوباترا السابعة ومعها أنطونيو، ملامحهما أسطورية، يختفيان، ويختفي معهما العصر البطلمي مع سيطرة تفرضها رومية على البلاد بعد معركة أكتيوم البحرية، فتتزلزل غرقًا، وتمر عليك مئات السنين، تسمع من قسطنطين كفافيس، نقلًا من آخرين، ففي الغرف الأربعة، يتحدثون ويحكي لورانس داريل.

ولد كفافيس بالإسكندرية في عام 1863م واتخذها وطنًا له، وقد عاين في صباه غزو الإنجليز الغادر لها وقذفها بالقنابل عام 1882م، وتألم، وإن كان من أجانب ذلك العهد، لمصاب مدينته العريقة وذكَّره غزوها بغزو الرومان لها في سالف الزمان، ولم تطاوعه نفسه قط على الهجرة من الإسكندرية رغم الدعوات التي قُدمت إليه للإقامة في أثينا، ولقد كتب في أحد قصائده بعنوان “المدينة” يقول: إن قلبه مدفون في الإسكندرية مُنغرس فيها فأينما جال بعينه رأى العديد من سنين حياته التي قضاها وبددها فيها(1). وبجوار المستشفى في وسط البلد، والذي تشعر به ولا تراه، عاش كفافيس السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من حياته في هذا الشارع، والمُعلقة على جدار مدخله لوحة صغيرة تحمل اسمه “شارع كفافيس”، وقبل أن تتجه يمينًا، في أحد أقدم شوارع المدينة، حيث تقع أقدم كنيسة في مصر وإفريقيا. يقول عن المكان نفسه: “يا محيط الدار، الساحات، الحي، الذي أراه وفيه أسير، سنين وسنين. لقد خلقتُك من قلب الفرح ومن قلب الأحزان: عبر حوادث شتّى، وعبر أشياء كثيرة. وها قد استحلت بأسرك شعورًا، من أجلي”(2). ويمكن القول بأن كفافيس حاول شرح إلياذة هوميروس وأوديسته من خلال قصيدتيه “المدينة” و”إيثاكة”

لوحة إيثاكة، منزل ومتحف كفافيس، الإسكندرية

***

“إن ثلاثة أبعاد مكانية وبعداً زمنياً واحداً تؤلف جميعها، مختلطة منسجمة، فكرة الاستمرارية”.

لورانس داريل (1912م – 1990م)

فندق “سيسيل” هو الفندق في رباعية لورانس داريل “رباعية الإسكندرية”. وكان هذا النُزل الفخم أيضًا مكانًا أثيرًا إلى الكثير من الأدباء والمشاهير الذين مروا بالمدينة. إنه قصر عتيق الطراز لا يختلف كثيرًا في مظهره الخارجي عن الكثير من أمثاله من الأبنية المتراصة في دعة على الجهة المقابلة للكورنيش. وفد الكاتب الإنجليزي لورانس داريل إلى الإسكندرية، بعد أعوامًا قضاها متنقلًا بين البلاد، منذ مولده على حدود الهند، ومروره بباريس واليونان وقبرص. وفي الإسكندرية كتب رباعيته الشهيرة، والتي قادته لترشيحات جائزة نوبل للآداب، وهي تتألف من أربع روايات: “جوستين”، و”بلتازار”، و”مونتوليف”، و”كليا”. ونُشرت الروايات الأربعة تباعًا من عام 1957م حتى عام 1960م. وفي “وسط البلد”، الذي يَمُت لإسكندرية القديمة بصلة، ترى الناس مختلفين، حتى ولو تحولت نظرتك إليهم بعد ذلك، ففي الداخل ماضي يسيطر على حاضر يحن إليه، فهو مكان يضيف لعابريه فما بالك بمبانيه؛ جديدة كانت أم قديمة. تتداخل حواسك هنا كما تتداخل الأزمنة، فتتنفس بعينيك وتتذوق بإحساسك. تتلمس الجدران فتسمع حكايات مائية، ويجرُك اليود إلى حواديت طويلة مثيرة، وفي أجزائها مريرة، ولكن حلوها أكثر من مُرها. وفي المرسى، عند مدخل المدينة في البحر، يبدر القمر، في حين ترسو اليخوت والزوارق ومراكب الصيد بجوار القلعة، حيث يرفرف علم مصر بألوانه الأربعة. فتشعر أن أمر رحيل الملك فاروق عن مصر إلى منفاه في رومية، على متن اليخت “محروسة” من مرسى قصر رأس التين في الجهة الأخرى من شاطئ المدينة، كان أخف وطأة عليه عنه لو كان الرحيل من هذه البوابة في البحر.

“لا أحد ينام في الإسكندرية”(3)

أحد المشهورين وصف دهشته ذات مرة أنه لم يرى مكانًا لا تختلف فيه أحوال الناس في النهار عنها في الليل مثل الإسكندرية. “كان شاطئ البحر يزهو بالأضواء رغم الشتاء، وخطوط “الكورنيش” الطويلة المنحدرة تتثنى بعيدًا، تتلاشى في أُفق يميل إلى الهبوط، وآلاف النوافذ الزجاجية تشع بالأنوار، وخلفها جلس سكان الحي الأوروبي من المدينة، كأسماك استوائية رائعة، إلى مناضد متألقة، عامرة بزجاجات المستيكا واليانسون أو البراندي”(4)

“لا تفكر فيهم، لك موسيقاك أيضًا.”(5)

جون كيتس (1795 م – 1821م)

رسالة نصية تقرأها على الجدار، هل كان هذا قبل المغادرة أم بعد الوصول، تتذوق الملح، فترى رخام أو مرمر يُصدر بريقًا في أعماق “بحر مظلم كالنبيذ”، تحاول التأكد مما رأيت، فتتذكر أن المدينة القديمة ضاعت، وتنتبه إلى أن الخريطة الأصلية أيضًا ضاعت، فتحاول الخروج بصعوبة من دوامة من الرؤية تشبه رؤية تلك الدوائر التي تنتج من إلقاء الأحجار في المياه الراكدة على نحوٍ لا ينتهي. تردُ سمات البحر كثيرًا من خلال الصور في ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسة”. ففي الإلياذة، يستدعي هوميروس البحر في مناظر مثيرة تعبر عن العديد من التجارب الإنسانية. فالشاطئ المنعزل يُصوَّر كخلفية لحزن كاهن يصلي. في حين اضطراب الأمواج يعكس التوتر الذي يعتمل في عقله. والبحر الساطع يعكس رحلة ناجحة لرجال أتقياء يبحرون باتجاه الوطن بعد مهمة نبيلة. والبحر المطمئن هو طريق السفر الواسع والمتيسر. والأمواج المتلاطمة تذكر بالمسافة الخطيرة بين أرض أخيل وطروادة. أما أعماق البحر المظلمة فهي موطن الكائنات الخارقة وقوى الطبيعة(6)، تسمع خرير مياه ساحر قبل أن تظهر أمامك نافورة تريفي، وفي خلفيتها قصر بولي من عصر الباروك بنحوٍ مفاجئ ومدهش كما لو أنه قد أُزيح الستار عنهما أمام عينيك في تأثير مفاجئ يعطيك احساسًا جديدًا، وفي وسط حوض النافورة الحجري الواسع ينتصبُ تمثال نبتون فوق عربة على شكل صَدفَة تجرها مخلوقات بحرية فوق شلالات صغيرة تنساب منها مياه داخل بركة تمثل دائرتها البيضاوية الفصول الأربعة في تقلبها وتغير أحوال العالم. وتمتد على جوانبها صخور مرمرية تتجمع عليها منحوتات وتماثيل ترمز إلى الحق والخير والجمال، هنا يمكنك الجلوس ومشاهدة العالم يتحرك من حولك.

ارتدت المدينة حُلة تاريخية أعادتها إلى الزمن الرومي القديم، حيث جاب شوارعها الرئيسة عربات تجرها الخيول، ومصارعي أسود، وجنود بملابس الجيش الرومي القديم، ورجال ونساء يرتدون أزياء تلك الحقبة لمختلف الطبقات، ومواكب مكسية برايات الإمبراطورية القديمة تذكر بالمعارك الكبرى، التي حققت فيها رومية القديمة انتصارات على أعدائها اليوم، رومية الحديثة تفاجئ رومية القديمة من خلال احتفالاتها بعيد ميلاد الأخيرة كان الحفل عبارة عن شريط إخباري قديم، يُبثّ من جهاز عرض، وكانت المشاهد تُبرز شابًا فاتنًا، رهيف القامة، رصين التعابير، واقفًا في مقدمة سفينة حربية تدخل ببطء الميناء. كانت حشود غفيرة تحتل المرفأ، وآلاف الأذرع ترتفع ملوحة. كانت السفينة تناور للرسو في الميناء، والشاب يحيي الجموع. لم يكن تجاوز السادسة عشرة من عمره. والده توفي للتو، وأصبح منذ اليوم السابق ملكًا، وكانت تلك البداية.

أين أغاني الربيع، نعم، أينها؟

بين صفصاف النهر، حُملت إلى الأعالي

أو غطستُ، مثل الريح الخفيفة تعيش وتموت؛

مثل الحملان الكبيرة تثغو بصوت عالٍ على سفوح التلال؛

صراصير الوشيع تطنطن؛ والآن بنعومة مُضاعفة

يَصفِرُ العصفورُ المُحنّى من حديقة أو حقل؛

وتغرَّد السنونو المتجمَّعة في الفضاء(7)

 

قضى فاروق نحبه في رومية، وقد كتب في وصيته أن يُدفنَ في مصر. وهذا ما حدث بالفعل.  ودُفن جون كيتس في رومية، كان طلبه الأخير ألا يحمل شاهد قبره أي اسم أو تاريخ، فقط الكلمات التالية: “وهنا يقبع شخص اسمه مكتوب على الماء”(8)

***

سلالم موسيقية تبدّلت بالسلالم الإسبانية، وزينتها الأزاليات بألوانها

بياتزا دي إسبانيا، رومية

يقع المدرج الإسباني الشهير، والذي يعد أطول وأعرض سلم في كل أوروبا، في أكثر مناطق رومية الحديثة أناقة. في أعلاه تقع كنيسة ترينتا دي مونتي بحديقتها الغناءة. وفي يمين أوله يقع منزل ومتحف الشاعر الإنجليزي جون كيتس. وفي أسفله توجد بياتزا دي سبانيا تتوسطها “نافورة القارب”. فهناك أسطورة تقول إنه قبل بناء الجدران على نهر التيبر، كثيرًا ما أغرق النهر المدينة، وبعد أن تراجعت مياه الفيضان ذات مرة، خلفت ورائها قاربًا. فاستلهم المهندس المعماري بترو بيرنيني، وهو مؤسس المدرسة الباروكية، مع ابنه جان لورينزو، فكرة بناء النافورة من الهواجس المخيفة التي سيطرت على مشاعر الناس آنذاك وخشيتهم من غرق المدينة بمياه النهر ثانية. وهي نافورة مياه عذبة يشبه شكلها شكل قارب نصف غارق وينسكب الماء من مقدمته ونهايته في وسط بركة من المياه لإيهام الزائرين بأنه يسبح في النهر دلالة على عودة الحياة إلى طبيعتها المعهودة وزوال الخطر وتتدفق المياه بتأنٍ من النافورة معطية إحساسًا بالأمان والهدوء.

***

(1): من كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة لكفافيس”، للمترجم د. رفعت سلام

(2): قصيدة “في المكان نفسه”، من ترجمة ديمتريوس أفييرينوس عن اليونانية. عن مقال بعنوان “وداعأ، إسكندرية كفافيس.”، للكاتب دلور ميقري. (معابر، عن موقع إيلاف)

(3): هذا اسم الرواية الأولى من “ثُلاثية الإسكندرية”، للكاتب والروائي “إبراهيم عبد المجيد”، والصادرة عن “دار الشروق” في العام 1996 م، وقد تلاها برواية “طيور العنبر”، ثم أختم ب “الإسكندرية في غيمة”

(4): من “الأبعاد الأربعة للمدينة الكونية”، لورانس داريل، رباعية الإسكندرية (الرواية الثانية: “بلتازار”)، بترجمة فخري لبيب، الكويت 1992، ص 227. عن مقال بعنوان “وداعأ، إسكندرية كفافيس.”، للكاتب دلور ميقري. (معابر، عن موقع إيلاف)

(5)، (7): مقال عن قصائد، “إلى الخريف – للشاعر الإنكليزي جون كيتس”، للكاتب بهجت صابر، عن الأدب والفن، بتاريخ 17/3/2008م

(6): من مقال اسمه “بحر هوميروس”، عن موقع خواطر وأفكار، بتاريخ 28/11/2017 م

(8): جون كيتس، ويكيبيديا.

 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى