راي برادبري ومفهومه لقوة الوشم السردية
آنا فيليسيتي فريدمان
ترجمة: عبير علاو
كان يومًا صيفيا ممطرًا في أواخر الثمانينيات -قبل أن تبقينا الهواتف الذكية مشغولين باستمرار- عندما تسلقت ثلاث درجات من السلالم لأصل إلى علية صغيرة في المنزل المتعرش الذي نشأت فيه، كانت هذه الغرفة المغطاة من الأرض إلى السقف بألواح الصنوبر المريحة تحوي مختلف الأشياء، فمن بين الأشياء المترامية على أرضيتها، عادة ما تلفتني أرفف الكتب المنسية المليئة بالكتب الورقية القديمة والمغطاة بالأتربة. بشعور ملل يغمرني، نقَّبتُ في الرفوف بحثًا عن كتاب أقرؤه، ففي الماضي، حينما كنت مراهقة تعشق الكتب، عثرت على بعض الكتب الثمينة من بين الكتب المعلوماتية والكلاسيكيات المملة، مثل: الروايات المثيرة، الشعر المثير للاهتمام، الفلسفة التكوينية وفي هذا اليوم وجدت مجموعة القصص القصيرة للكاتب راي برادبري والتي كانت بعنوان: “The Illustrated Man”. كنت في حالة فاسقة وغريبة، لكن الوشم كان لا يزال أمرًا غير معتادٍ عندما كنت في المدرسة الثانوية، كنت أقرأ مع أصدقائي نسخًا قديمة من مجلات الوشم الوحيدة التي تُتداول على نطاق واسع في ذلك الحين Outlaw Biker Tattoo Revue and Tattoo والتي لا نتمكن من العثور عليها إلا في المدينة، إذ لا تتوفر في مجتمع الضواحي حيث أقطن، في تلك المجلات، كونت رؤية للوشم المستقبلي الثقيل الذي سأضعه دائما على جسدي. لكن المجلة لا يمكنها أن تأخذ الخيال إلى حد أبعد، إلا إن قصة برادبري “Illustrated Man” قدمت لي شخصية ساحرة للتأمل، وبتُّ أتساءلُ ما القصص التي قد يرويها وشمي المستقبلي للآخرين؟
لقد تغير الوشم وتصوراته على نحو كبير منذ عام 1950 إلى 51 عندما نشرت مجلة إسكواير Esquire قصة برادبري القصيرة لأول مرة في يوليو 1950، ثم استخدم المؤلف الشخصية مرة أخرى إطارًا للمقدمة والخاتمة لمجموعة The Illustrated Man، كان الوشم غارقًا في تاريخٍ مظلم آنذاك، وربما تعد تلك الحقبة أدنى مراحل شعبيته في العصر الحديث. مرت ذروة عصر عروض السيرك ولم يكن للوشم دور أساسي آنذاك، إذ كان ينتشر بين صفوف القواعد العسكرية، وإذا ما استثنينا الشخصيات الذكورية مثل مارلبورو مان، فإن الوشم لم يكن مخصصًا للأشخاص العاديين.
بحلول الخمسينات من القرن العشرين، كان للوشم جاذبية قليلة في أوساط الرجال -مقابلة بالسيدات الواشمات- وقد صوَّر برادبري بشجاعة شخصًا موشومًا بالكامل آنذاك في صوره للسيد وليام فيليبوس فيلبس، على الرغم من كونه عملًا فنيًا استثنائيًا. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما واجه برادبري فناني السيرك والعروض الجانبية لأول مرة، كان الوشم يعد أمرًا خاصًا، وكانت المناطق الموشومة تجتذب النساء خاصة وتمنح صاحبها شهرة، كما ضجَّت العديد من قصص المغامرات والألغاز والروايات الرومانسية في عشرينيات القرن العشرين بشخصيات موشومة مثل رجل الوشم هوارد بيس الذي ظهر لأول مرة في عام 1926 والذي قرأه برادبري على نطاق واسع.
قدّر ألبرت باري مؤلف كتاب الوشم: أسرار فن غريب Tattoo: Secrets of a Strange Art (أحد كتب البحوث التي أجريت عن الوشم من أوائل القرن العشرين إلى منتصفه) أنه في وقت نشر كتابه عام 1933، كان هناك ما يقرب من 300 “وشم كامل لرجال ونساء في هذا البلد، والذين يكسبون لقمة عيشهم أو يحاولون كسبها من خلال عروض السيرك الذاتية لأنفسهم”، يدفعهم إلى ذلك الرغبة في أن يكونوا نجومًا، مقاومين حقيقة أن هذه الشهرة قد تتبخر بسهولة، وفي أحد قصص برادبري ذكر أن سبب وشم إيما الذي على شكل أسطول يكمن في أنها تشعر بأن حب زوجها لها سيختفي إذا لم تنقش المزيد من الأشرعة. رغم أنه كان في ذاك الزمن رجال ونساء موشومين كليا، إلا إنه يمكننا بوضوح رؤية مدى تطور الوشم حتى الوقت الحاضر، وقد كتب برادبوري في المقدمة متنبئًا بالمستقبل أن: “النوافذ تبحث في الواقع المتقد”، فيمكن للوشم أن ينقل رواية مقنعة، أو يثير عاطفة قوية، أو يستحضر خيالًا، أو يتألق مع جانب جمالي، والآن في القرن الحادي والعشرين، ربما يكون الوشم قد نجح أخيرا في أن يحتل مكانة قوية في لغة التعبير البشري التي تتحمل التحولات وتدفقات الرأي التاريخي.
إن قراءة حكايات برادبري الثلاث المتضمنة للوشم تنبض بحياة جديدة في مفاهيمه حول كيفية تغير معاني الوشم، وكيف يمكن لمشاهد الوشمِ رؤيةَ معنًى مختلف عما قد يقصده صاحب الوشم، وكيف يتقاطع علم النفس مع رغبة الشخص في النقش على جلده دائما. تسللت إلى أسفل الدرج، متخيلة رسم الوشم الذي أردت أن أنقشه، وقد كان الوشم أمرًا غير قانوني في ولاية ماساتشوستس حيث أقطن مما دفعني لأن أسافر إلى ولاية نيو هامبشاير المجاورة، وأقصد متاجر الدراجات التي كانت تعمل عملا إضافيا في عطلات نهاية الأسبوع، ولم أستطع الانتظار حتى أبلغ الثامنة عشرة وأنقش وشمًا دائمًا يجعلني مميزة كأني شخصٌ غريب، أو روح إبداعية، أو محارب للمعتقدات. بعد مدة وجيزة من أول رحلات الوشم، وذلك قبل عيد ميلادي الحادي والعشرين، أصبحت واحدة من بضع مئات فقط من النساء في أمريكا اللاتي لديهن أذرع موشومة كليا، ولم أكن أعلم أنني بعد مرور عقد واحد فقط سأصبح امرأة عصرية، متبنية للوشم على نطاق واسع من شأنه أن يتخطى الثقافة السائدة له زينةً مرغوبًا فيه، أو علامة على المكانة، أو أمرًا يُحدث رواجًا مرغوبًا، وإذا ما كنت سأعود إلى الماضي فسأختار وشمًا مختلفًا يناسب معطيات الزمن الحاضر، ومع ذلك، فإن التحديق في الجلد المتعرج والمنقوش -الذي يشهد على الألم والبهجة وكل ما بينهما- لأمر يبعث على الراحة.
هل سيحمل لنا المستقبل وشم برادبري الذي يمكنه أن يتغير حسب رغبة أصحابه؟ فيوفر اليوم الحزين نافذة حنين إلى الماضي، وقد يستدعي تحدي التمطط درعًا مرئيًا، وينفجر الوقت البهيج إلى زخرفة نابضة بالحياة…