داخل البيت الفارغ: شيرلوك هولمز للملك والبلد

أندرو جلازارد


حجم الخط-+=

ترجمة: عبير علاو

بعد موته الظاهري أنتجت BBC سلسلةً تليفزيونيةً لإحياء ذكرى المحقق الكبير شيرلوك هولمز، وبالعودة إلى “البيت الفارغ” في شارع بيكر لكونان دويل، يقوم أندرو جلازارد بالتحقيق في الخدع التي استخدمها شيرلوك هولمز خلال حياته.

pastedGraphic.png 

صورةٌ ظهرت في مجلة ستراند في ديسمبر عام 1893من تصوير سيدني باجيت لـ “المشكلة النهائية” والتي تبين صراع هولمز وموريارتي على شلالات رايخنباخ قبل سقوط هولمز وادعائه الموت. حظيت قصص شيرلوك هولمز لكونان دويل -أو عانت في بعض الحالات- من إعادات إنتاجٍ تعد ولا تحصى منذ نشرها الأول في عام 1887 إلى عام 1927، وربما تكون نسخة BBC التلفزيونية الحالية من بطولة بنديكت كومبرباتش واحدةً من أكثر البرامج نجاحًا، خاصة أن كتابها يجمعون بين المعرفة العميقة للأصل مع ميل لمغادرته بنحوٍٍ مبتكر: استراتيجية العرض للإشارة والتحول والارتقاء يعطيها العذوبة والألفة على حدٍ سواء.

تبدأ السلسلة الجديدة بعنوان “The Empty Hearse” وعنوانها يلمح بطريقةٍ مرحةٍ إلى قصة Conan Doyle التي ترجع إلى عام 1903 بعنوان “The Empty House” والتي يعود فيها هولمز من موته الظني الذي حدث على يد موريارتي في سويسرا.

إنَّ ملاحم كونان دويل مناسبةٌ بنحوٍٍ خاصٍ لهذا النوع من المعالجة، فالمنتقدون الذين يطلقون على أنفسهم اسم “شيرلوكينس” يتفوقون على تفاصيل روايات الدكتور جون واتسون (المعروفة في التجارة باسم “الآثار”) فهم يبحثون عن الأدلة والتناقضات والتفاصيل الشاذة، ويبنون في الغالب تفسيراتٌ بديلةً تآمريّةً للأحداث، ويكشفون عن الأخطاء الواضحة لـ Conan Doyle (أو Watson) ويشيرون إلى القصص مع معرفةٍ موسوعية. لذا، ففي الوقت الذي ينظر فيه إلى كونان دويل على أنه كاتب شفاف إلى حد ما، ويتجنب التعقيد، والابتكار التقني، والتحديات التي تجعله بمواجهة الأيدلوجية الأرثوذكسية لصالح صنع الأسطورة؛ فإن مجهودات “الشيرلوكينز” تظهر أن سهولة هذه القصص غالبًا ما تكون خادعة، ففي قصة مثل “البيت الفارغ” تُركت الكثير من المعلومات الهامة غير معلنة أو ملمح لها، وقد يساعد استرجاع هذه النصوص الفرعية من خلال القراءة المتأنية والمعرفة لما كان يجري في ذلك الوقت من أحداث في إظهار هولمز ومؤلفه في انعكاس وزاوية جديدان.

ينسج “البيت الفارغ” روايتين؛ كشف غموض جريمة قتل وقصة عودة هولمز إلى لندن بعد ثلاث سنوات من اعتقاد الناس بوفاته في سويسرا في عام 1891، وحين اجتمع هولمز مع صديقه القديم ومؤرخه الدكتور واتسون روى له قصة هروبه في شلالات رايخنباخ وما يليها من رحلة غير عادية وغريبة، فيقول: “لقد سافرت مدة عامين في التبت، وذهبت بنفسي لزيارة ألـ Lhassa ، وقضيت بعض الأيام مع رئيس اللاما، ربما تكون قد قرأت الاستكشافات الرائعة لأحد النرويجيين المسمى Sigerson، لكنني متأكد من أنه لم يخطر على بالك أبدًا أنه صديقك، أنه أنا!، ثم مررت عبر بلاد فارس، ونظرت في مكة، وذهبت بزيارة قصيرة لكن مثيرة للاهتمام إلى الخليفة في الخرطوم، والتي أبلغت نتائجها إلى وزارة الخارجية”.

هذه الجمل الثلاث تحتوي على ثروة من التلميحات للاستكشاف والفتح الإمبريالي، ربما كان “سيغرسون” بمثابة إشارة إلى المستكشف السويدي سفين هيدن، الذي بدأ استكشافه الرائد في آسيا الوسطى وهضبة التبت -وهي النتائج التي نشرها لأول مرة في طبعة بريطانية وأمريكية في عام 1903- والذي أثار اهتمامًا وإعجابًا. لكن هناك مستكشف آخر للتبت كان يتصدر عناوين الأخبار والذي ينبهنا إلى النص الفرعي الإمبريالي للقصة، بحلول عام 1903، كانت رحلة “فرانسيس” إلى “التبت” على قدم وساق، إذ دخل البلاد في كانون الأول/ ديسمبر 1903 مع قوة من عشرة آلاف شخص ووصل لاسا في آب/ أغسطس 1904، كان غزوا في كل شيء ما عدا الاسم، وقد كان الحلقة الأخيرة في ما أطلق عليه كيبلنغ “اللعبة الكبرى” التي خاضت فيها بريطانيا وروسيا حربًا باردة من أجل السيطرة على الأراضي الآسيوية التي تقع بين الامبراطوريتين، وقد كان وجود هولمز في لاسا في تسعينيات القرن التاسع عشر متنكرا بهيئة سيغرسون أكثر ترجيحًا على أنه عمل أساسي للغزو والاستكشاف غير القانوني أو طريقة متطرفة للتحايل.                                                          pastedGraphic_1.png

تفاصيل صورة من (Perceval Landon) بعنوان “افتتاح التبت” (1905) ، وهي تُظهر ممثلين صينيين في لاسا ، حيث التقوا العقيد يونغز في عام 1904 لأول مرة.

قد يكمن تفسير “اللعبة الكبرى” وراء زمن هولمز في بلاد فارس، وهو هدف آخر من المنافسة الأنجلو-روسية الشديدة إذ نُظر إلى الانخراط الاقتصادي الروسي المتزايد مع نظام الشاه في مطلع القرن الماضي بقلق في وايت هول وكالكوتا على أنه تهديد لحدود الهند البريطانية. وكانت مكة ميناء الاتصال التالي فكان سيطلب من هولمز (الذي من المفترض أنه لم يعتنق الإسلام) تبني أحد تنكراته الشهيرة، كما فعل المستكشف والدبلوماسي البريطاني السير ريتشارد بيرتون أثناء بعثته في عام 1853. وموهبة هولمز في التنكر كانت مطلوبة في وجهته التالية: كما أوضح كانت الخرطوم (أو مدينة أم درمان المجاورة) في التسعينيات من القرن التاسع عشر تحت سيطرة الخليفة عبد الله وهو خليفة محمد أحمد المهدي. شغل الخليفة ودولة السودان -المهدية- موقعًا مشابهًا في الوعي الفيكتوري المتأخر كما فعلت طالبان والقاعدة اليوم، فقد كانت قوات المهدية مسؤولة عن بعض الهزائم العسكرية الأكثر كارثية في بريطانيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، مما أدى في النهاية إلى مقتل الجنرال تشارلز جوردون، الذي علقت صورته كما قيل لنا في “مغامرة صندوق الكرتون” في 221b Baker Street.

وفي عام 1897، اُعتمدَ كونان دويل صحفيا في جريدة وستمنستر لمرافقة بعثة هربرت كيتشنر إلى السودان للقضاء على المهدية، وعلى الرغم من أن صحافته لم تنجح كثيرًا لأن كتشنر تلقى تعليماته شخصيًا بالعودة إلى المنزل فإن رسائل كونان دويل لصحيفته كشفت عن دعم متحمس لمشروع كيتشنر الذي بلغ ذروته في عام 1898 مع معركة أم درمان التي قُتل فيها عشرة آلاف شخص من قوات الخليفة في غضون ساعات من قبل الجيوش البريطانية والمصرية (التي عانت هي نفسها من 47 حالة وفاة فقط).