حلم السلتي – فرغاس يوسا
أمناضل أم خائن؟
إيمان العزوزي
يقال العبرة في النهايات، ونهاية حلم السلتي كانت المشنقة فهل يؤرخ لروجر كيسمنت في التاريخ على أنه بطل قومي دفع حياته ثمنالاستقلال بلاده أو يؤرخ لهذه الشخصية كونه خائنا لبلاد أعطته الكثير إلا حرية بلده الأصلي إيرلندا، هذا ما يحاول ماريو فرغاس يوسا أني فصله في روايته الأخيرة “حلم السلتي” سيرة غير عادية لرجل استثنائي تثار حوله لحد الساعة الكثير من التساؤلات والشكوك وهمهمات الإعجاب المقيدة في زاوية “يومياته السود” التي مازال المحققون يحاولون إثبات مدى صحتها وصدقيتها. عمل فرغاس يوسا على تحويل سيرة روجر إلى عمل روائي ونجح في تحويل عمل وثائقي اشتغل عليه بنفسه لمدة طويلة نجح في تحويله إلى “تفصيل” روائي ممتاز من الناحية الشكلية لكنه في نظري افتقر إلى التفاعل المطلوب أدبيا فجاءت النتيجة باهتة ومبتورة وربما أكون قاسية في حكمي هذا لعشقي كتابات يوسا إذ لم أجد روحه في هذه الرواية بقدر ما وجدت صحفي سعى جاهدا لتوثيق حياة مناضل أممي فهل كان يوسا مدافعا عن روجر كيسمنت أو مقررا فقط لحياته؟ فلنرجع أولا لروجر كسيمنت ونفحص بانوراميًا حياته.
في سنة 1899، كتب الأديب البريطاني روديارد كبلينغ صاحب كتاب “الأدغال” المعروف قصيدته الشهيرة “عبء الرجل الأبيض” يحثفيها الولايات المتحدة الأمريكية أن تطلع بدورها الريادي وتضم جزر الفلبين ويبتهج بقبول الولايات المتحدة الأمريكية لدور بريطانياالإمبريالي، لم تكن هذه القصيدة سوى تأكيد لسمو الفكر الإمبريالي ورسالته السامية المتمثلة في تنوير وتطوير البلاد المظلمة والشعوبالبدائية وعدِّ الرجل الأبيض أعلى السلم البشري ثقافيا وبيولوجيا، هذه القصيدة-الرسالة تمثل وبنحوٍ قاطع ثوابت فلسفة الاستعمار المبنيعلى الاستغلال والاستعباد التي طالت معظم البلاد المكتشفة مذ بدء الحملات الاستكشافية العظيمة.
“انهضوا بعبء الرجل الأبيض
بحروب السلام الضارية
واملؤوا فم المجاعة
ومُرْوا المرضَ بأن يزول
وعدنما يقترب مسعاكم
من الغاية التي أردتموها من أجل الآخرين
حذارٍ أن يُذهب الكسلُ والحماقةُ الوثنية
بكل آمالكم أدراج الرياح”
وقد علّقت آنذاك مجلة سبيكتاتور الإنجليزية على القصيدة بقولها “واجب الرجل الأبيض هو إخضاع كل الشعوب السمراء في العالم والسيطرة عليها لمدة قرنين أو أكثر خدمة لمصلحتها وليس لمصلحته”.
قد يكون روجر كيسمنت من هؤلاء الذين انخدعوا بزيف هذه الكذبة ورحل باحثا عن مجد الرجل الأبيض مكتشفا ومنورا للقبائل البدائية في إفريقيا العذراء بعد استماعه لمغامرات زوج خالته؛ فبدأت رحلته الأولى للكونغو هذه الدولة التي كانت في ذلك الزمن شاسعة وتعادل بلجيكا بأكثر من ثمانين مرة اتفقت الدول الكبرى في مؤتمر برلين 1885 أو ما يعرف بمؤتمر الهروع إلى إفريقيا اتفقت على منحها لصاحب اللحية المشذبة ملك بلجيكا ليوبولد الثاني والذي يصفه معظم البلجيكيون حسبما ذكر يوسا في احدى لقاءاته بالملك المدلل وغير المحبوب تاريخيا من شعبه. عدَّ ليوبولد الثاني الكونغو مزرعته الخاصة فأرسل إليها المكتشف هنري مورتون ستانلي الذي تتفق معظم المراجع على اعتباره مطورالكونغو بامتياز حيث نجد لاسمه أكثر من ذكر في المعالم التاريخية والجغرافية للكونغو هذه السمعة “الطيبة” تدفع بروجر المتبل بحلمهالطوباوي أن يعمل تحت إمرته ليكتشف بعد وقت وجيز الحقيقة وراء شركات استغلال المطاط بالكونغو ويتأكد بعد تحقيق قام به بنفسه أنالسبب وراء التهافت نحو إفريقيا لم يكن أبدا تطويرها بل إبادة شعبها واستغلال مواردها العذراء في زمن يشهد العالم الأول حربا ضروساولم يتأخر روجر كيسمنت من التحول إلى مشارك في هذا الاستغلال عن حسن نية إلى محقق يكشف هول ما عاشه الكونغوليون تحت إمرةقادة قساة لا يترددون في إمتاع أنفسهم وكأنهم في جولة سفاري لتتجاوز الإحصاءات غير الرسمية عشرة ملايين قتيل كونغولي وتخطرعلى بالي تجربة د.ملغرام حول مدى انصياع الجنود والمأمورين لأوامر قادته لتوضح مدى بشاعة النفس البشرية التي تتجاوز حدود المعقول. يقول د.ملغرام حول تجربته “النتائج كما تابعتها في المختبر، مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللا إنسانية، عندما تتلقى الأوامر من قبل سلطة فاسدة. نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون دون أخذ طبيعة الأمر بعين الاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، مادامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية”. إذا تمكن في هذا الاختبار،مشرف مجهول، من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجاته ومرضه لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات بما لها من سلطات أوسع بكثير أن تأمر به”.
ساهمت تقارير روجر في هز الرأي العالمي البريطاني والعالمي لينظر من جديد لهذه البقعة من العالم بشيء من الرأفة وهو الأمر الذي لم يحدث طبعا بل تغيرت إشكال الاستغلال فحسب، الصدى الكبير الذي عرفته تقارير كيسمنت ستؤهله لمهمة إنسانية أخرى لكن هذه المرة في البيرو وعلى ضفاف نهر الأمازون حيث تقبع شركة أخرى من كبريات شركات المطاط العالمية على روح سكان بوتومايو وينجز روجر، وللمرة الثانية أدى عمله بحس إنساني عالِِ، وقدم تقريره المثير والمعروف بـ”الكتاب الأزرق” لتنهار على يديه أقوى صناعة للمطاط في الأمازون لينتقل الظلم هذه المرة إلى الشرق وأرض عذراء جديدة لتبقى عجلة الاستغلال تدور مبررة نفسها مرة بالتنوير ومرة بالرفع من اقتصاديات العالم الثالث.
ولدت هاتان التجربتان الإنسانيتان لدى كيسمنت وعيا سياسيا، وأحيتا نزعته القومية الإيرلندية فنجده يقول: “لم أجد في هذه الأحراش وجه ليوبولد الثاني الحقيقي فحسب؛ لقد وجدت نفسي الحقيقية”. فيعود إلى بريطانيا عازما على تقوية هذه النزعة بالثقافة السلتية وليجد نفسه مرة أخرى في مواجهة من كانت بالأمس شفيعة له في العمل الإنساني، بريطانيا العظمى، فيعمل إلى جانب ثوار إيرلندا ويحاول إيجاد صيغة تمكنه من الحصول على الاستقلال بأقل الخسائر الممكنة فيستغل دخول ألمانيا الساحة العالمية وعدائها لبريطانيا لينتقل إليها سفيرا ومنظما للتعبئة الايرلندية هناك إلا أن مساعيه السلمية تعرقلها حماسة ثوار آخرين رفضوا الانتظار وقاموا بانتفاضة أيستر ليجد روجر كيسمنت نفسه قيد الاعتقال بمجرد وصوله إلى بريطانيا بتهمة الخيانة هذه الأخيرة التي لم تألُ جهدا في تشويه سيرته بالكثير من التفاصيل الشخصية حول شذوذه مفبركة ربما يوميات يقال انه وثّق فيها وقائع لقاءات ساخنة والكثير من الخيالات الجنسية، وبعد ثلاثة أشهر من اعتقاله يعدم روجر شنقا ويدفن عشوائيا في اللا مكان وبدون شاهد يحفظ ذكراه وكان على هذه الذكرى أن تنتظر حتى سنة 1965 لتنتقل إلى إيرلندا الحرة في مراسيم جنائزية مهيبة ويكون الرئيس الايرلندي الأول وزميل كفاحه أول الحاضرين.
هذه باختصار شديد سيرة حياة روجر كيسمنت، رجل أممي سعى على مدى سنوات إلى إزالة الظلم على فئة لا صوت لها في مجتمع استهلاكي، ولم يكن روجر ملهما فقط لغيره من المناضلين الذين ظهروا على مدى القرن الماضي فقط بل أيضا ألهم الكتّاب فنجد كونراد صاحب رواية “قلب الظلام” يستوحي شخصية مالو الشاب من روجر وشهاداته الحية على واقع شعب الكونغو يأتي بعده بسنوات طويلة سنة 2010 جوردان جودمان ليخط سيرة روجر في كتابه “الشيطان ومستر كيسمنت”، ثم أخيرا فرغاس يوسا في روايته “حلم السلتي” في سنة 2012 فهل أضاف يوسا لمسة لاتينية لشخصية روجر إنجلوسكسونية؟
يجرد يوسا كعادته التاريخ من عباءة التقديس ويحاول دائما تقديم صورة مختلفة ومغايرة للتاريخ كما هو مقرر في الكتب الأكاديمية، وغالباما ينجح في صكِّ القارئ ليحثه على إعادة تمحيص كل شواهد التاريخ، وكل قارئ ليوسا غالبا ما يتوقف أمام عبارات وجمل ليوسا تبرزتوجهه هذا، ولم يخرج عن هذا التوجه في روايته حلم السلتي إلا أنه في نظري سقط في هفوات عدة جعلتني أنتقص من قيمة الروايةنجمتين واشعر بخيبة أمل سأحاول تلخيصها فيما يلي:
1- خرج يوسا الأديب عن عباءته في حلم السلتي واكتفى بدور الصحفي المحقق لسيرة روجر من خلال وثائق اشتغل عليها زمنًا وزار بنفسه عدة مناطق كان فيها روجر إلا أنه سقط حين اعتمد على يوميات روجر التي تبقى لحد الآن مثار جدل والتي تشبه في نظري الصحف الصفراء فكيف يعقل لرجل اشتغل بقضايا مصيرية لشعوب أن يكتفي في يومياته بسرد وقائع حميمية مع شبان بل أحيانا مجرد خيالات سخيفة شيء في نظري مبتذل وخارج السياق، وأرجح فرضية أن تكون اليوميات مفبركة من المخابرات البريطانية نوعا من سلخ البطولة والفحولة عن روجر والاعتماد على حقيقة شذوذه في تهويل الأمر.
2- المفارقة الغريبة في شخصية يوسا كونه يساريا سابقا وليبراليا معاصرا تظهر رغما عنه في رواياته شاهدنا تناقضه هذا في قصة مايتا ونجدها هنا فعلى الرغم من اختياره لشخصية إيرلندية مادة لكتابه إلا أنه من ناحية أخرى لا يخفي عشقه لشخصية تاتشر المناهضة للحركات النضالية الإيرلندية، وهي المشهور عنها أنها لم تخضع لإضراب المناضلين الإيرلنديين في السجون البريطانية عن الطعام، وهو الإضراب الذي ذهب ضحيته العديد منهم، وربما هذا الأمر أثّر في يوسا فنجده خصص فصلين ضخمين لمغامرات روجر في الكونغو والأمازون، في حين جاء فصل ايرلندا باهتا وباردا ولم أشعر بأي تعاطف مع روجر حتى وهو يعدم.. وهذا ذنب يوسا، ولا ذنب لي فيه وطريقة كتابته لهذا الفصل جاءت جامدة جدا.
3- غالبا ما أتساءل ما الهدف الذي يجعل يوسا يحطم شخصياته بيده من خلال إبراز سيرتهم الشخصية كونهم أشخاصا ذوي ميولات مستهترة وغير ثابتة وربما أحيانا مريضة كحالة روجر هنا وولعه بالمراهقين وكأنه يرفع مجدا بيده اليسارية ليهدمه بيده الليبرالية.
4- يظهر يوسا في هذا العمل وكأنه يرفض الإمبريالية الغاشمة والظلم الذي تكابده دول العالم الثالث، إلا إن العارف بالخلفية السياسية لهذا الرجل يعرف مدى التناقض الذي يقع فيه وهو المدافع عن حرب العراق والمحب والممجد لشخصيات دافعت عن هذه الحرب مثل آزر نار الإسباني وساركوزي الفرنسي.
و أخيرا أقول هذه الرواية ستروق للمهتمين بالتاريخ والسير أكثر من الروايات، لهذا أقول لعاشقي يوسا حظا أوفر في رواية أخرى.. ويبقى صالح علماني رائد الترجمة العربية من اللغة الإسبانية بدون منازع.