جندي الصفيح الشجاع

هانس كريستيان أندرسن


حجم الخط-+=

ترجمة: سارة محسن  

 كان هناك خمسة وعشرون جنديًا من الصفيح، جميعهم أخوة، لأنهم صنعوا من صفيح ملعقة واحدة. كانوا يحملون بنادقهم في أذرعهم ووجوههم مصوبة إلى الأمام، ويرتدون زيًا جميلًا باللون الأحمر والأزرق. أول شيء سمعوه في هذا العالم، عندما فتح غطاء العلبة حيث كانوا: “جنود من الصفيح!” جاءت من طفل صغير يصفق بيديه، لقد كانت هدية عيد ميلاده. وقف الولد الصغير عند الطاولة، وبدأ بوضع الجنود عليها، وقد شابه كل جندي منهم الآخر عدا واحدٍ منهم، امتلك ساقا واحدة، لأنه كان آخر من صنع ولم يكن هناك من الصفيح المذاب ما يكفي له، ولكنه وقف ثابتًا في مكانه على ساق واحدة تمامًا مثل الآخرين، وهذا ما جعله أعجوبة.  

كان على الطاولة التي وضع عليها الجنود، الكثير من الألعاب ولكن أكثرها سحرًا للعين قلعةٌ رائعة من الورق، يمكن للمرء أن يرى ما في داخلها من خلال نوافذها الصغيرة، وفي الواجِهَة أشجار تحيط بمرآة صغيرة بمثابة بحيرة واضحة. وتسبح البجعات المصنوعة من الشمع في البحيرة، وانعكست صورها على سطح المرآة. كل شيء بدا جميلًا، ولكن الأجمل شابةٌ فتيَّة، وقفت عند باب القلعة، هي الأخرى قد صنعت من الورق، ترتدي ثوبًا من المُوسلِين الصافي، وتضع شريطًا رفيعًا أزرق اللون على كتفيها كوشاح. في الجزء الأمامي ثُبتت جوهرة لامعة كبيرة بحجم وجهها بأكمله. كانت الشابة الصغيرة راقصة باليه، مدت ذراعيها، رافعة إحدى ساقيها عاليًا جدًا في الهواء، لذا لم يكن بمقدور جندي الصفيح رؤيتها وظن أنها بساق واحدة فقط مثله. فكر جندي الصفيح: ’هذه هي زوجتي، ولكنها تبدو ذات مقام رفيع وتسكن في قلعة أما أنا فليس لدي غير علبة، أتقاسمها مع أخوتي الجنود وهو مكان لا يليق بها، ومع هذا فيجب أن أتعرف عليها‘. استلقى بالكامل على الطاولة خلف علبة السعوط التي كانت ملقاة بالقرب منها، حتى يتمكن من هناك رؤية تلك الفتاة الرقيقة، التي لا تزال واقفة على ساق واحدة دون أن تفقد توازنها. عندما حل المساء، وضع جميع الجنود في علبتهم، وذهب الناس في البيت إلى النوم. كان ذلك إنذارًا ببدء ألعاب الأطفال باللعب فيما بينهم، مثل لعبة الزيارات، ولعبة المعارك الحربية، وتسليم الكرات. وقد رجَّ جنود الصفيح في علبتهم. لأنهم كانوا يرغبون بمشاركة الألعاب والانضمام إلى اللعب، لكنهم لم يتمكنوا من رفع غطاء العلبة. أخذت كسارة البندق تتشقلب في الهواء، وسقط  قلم الرصاص وبدأ يلعب عند الطاولة. لقد أحدثوا ضجة كبيرة جعلت طير الكناري يستيقظ من نومه، ويبدأ الحديث معهم ولكن بكلام مقفى. الوحيدان اللذان لم يتحركا وبقيا في مكانيهما، كان جندي الصفيح وراقصة الباليه، التي بقيت منتصبة على طرف إبهام قدمها، وساقاها ممدودتان، كما يقف الجندي ثابتا في مكانه على ساق واحدة، ولم تفارق عينه الفتاة حتى للحظة واحدة. وحين دقت الساعة الثانية عشرة، طفر غطاء علبة السعوط  قافزًا إلى الأعلى، ولكن بدلًا من التبغ، قفز منها عفريت أسود صغير، إذ كانت علبة السعوط مجرد لعبة احجية. 

قال العفريت: ’يا جندي الصفيح، لا تتمنى ما لا تنتمي إليه‘.  

ولكن جندي الصفيح تصنَّع عدم السمع لما قاله العفريت.

فقال له العفريت: ’حسنًا إذًا سترى في الغد‘. 

عندما جاء الأطفال في الصباح التالي، وضعوا جندي الصفيح عند النافذة. آلعفريت كان أم تيار الهواء هو الذي فتح النافذة فجأة، لا أحد يعرف! ولكن النافذة انفتحت، وسقط جندي الصفيح دفعة واحدة على رأسه من الطابق الثالث، إلى الشارع تحت البيت. لقد كان ذلك مخيفًا، ونتج عنه أن يكون بوضعية الواقف على رأسه، وتعلقت ساقه في الهواء وخوذته وسكينه بين حجري الرصيف. نزلت الخادمة والولد الصغير في الحال من الدرج للبحث عنه، وبالرغم من أنهما قد أوشكا أن يدوسا عليه ويسحقانه فلم يتمكنا مع هذه من رؤيته. ولكنه لو صرخ: ’ها أنا هنا‘ لوجداه بالتأكيد، ولكنه لم يجد في الصراخ العالي أمراً يليق به، وهو يرتدي الزي العسكري.

بدأت قطرات المطر بالنزول، واستمر المطر بالتسارع غزيرًا جدًا، حتى إنه كان مثل ماء مِرشة منهمر. وعندما توقف المطر، مر ولدان صغيران، فقال الأول: ’أنظر هناك جندي صفيح! يَحْسُن أن يكون لديه قاربًا ليبحر فيه‘. صنعا  قاربًا من ورق جريدة، ووضعا جندي الصفيح بداخله، وراح القارب مبحرًا به في مجرى تصريف المياه، والولدان يركضان معه ويصفقان. ويا إلهي، أيُّ أمواج كانت! وأيُّ رياح قوية! فقد كان المطر غزيرًا جدًا، والقارب الورقي يتأرجح  صعودًا ونزولًا، وينعطف أحيانا بسرعة كبيرة، إلى الحد الذي يشيع الرعب في النفوس، ومع ذلك ظل جندي الصفيح صامدًا، ولم تتغير ملامحه، فقد كان ينظر إلى الإمام، ويحمل بندقيته فوق ذراعه، وفجأة، انجرف القارب في فتحة تصريف المياه تحت الجسر، الذي يعد جزءًا من شبكة التصريف، ثم صار الجو مظلمًا كما لو أنه قد دخل العلبة.

فكر جندي الصفيح: ’يا ترى أين سأصل! مع ذلك إنه فعل العفريت، أنا متأكد! آه، حسنًا.. لو كانت الشابة الصغيرة هنا في القارب معي، لما كنت سأهتم بأي عتمة‘.

وفجأة، ظهر جرذ ماء كبير، يعيش في المجاري، وسأله:

 ’هل لديك جواز سفر. هيا أرني جواز سفرك حالًا‘. لكن جندي الصفيح التزم الصمت ومسك بندقيته بقوة. انطلق القارب. وجرذ الماء يتبعه وهو يصر على أسنانه الحادة، ويصرخ على العيدان والقش: ’أوقفوه، لم يدفع ضريبة ولم يبرز جواز سفره‘. ولكن التيار صار أقوى وأقوى، وصار بإمكان جندي الصفيح الآن لمح ضوء النهار، من خلال القوس الذي تنتهي به فتحة المجاري. ولكنه سمع حينها أيضًا صوت خرير ماء مندفع بقوة، يجعل أشجع الجنود يرتعد خوفًا. وفي نهاية نفق المجاري، يندفع بقوة عارمة خارجًا إلى قناة كبيرة فوق مكان شديد الانحدار. مما يجعل الإبحار خطِرًا جدًا عليه، كما لو كنا نحن قد أبحرنا في شلال كبيرة، وقد اقترب الجندي كثيرًا من القناة، حتى لم يعد بإمكانه إيقاف القارب الذي اندفع به، وبقى جندي الصفيح المسكين جامدًا صلبًا، قدر استطاعته من دون أن يحرك له جفن، ليظهر بأنه غير خائف. استدار القارب ثلاث أو أربع مرات، وكان مملوءًا بالماء حتى الحافة، يوشك على الغرق، ووصل الماء حتى رقبته، غرق القارب أعمق وأعمق، وأخذ ورق الجريدة يذوب ويذوب حتى وصل الماء إلى رأس جندي الصفيح، حينها فكر براقصة البالية الرقيقة، التي لن يراها بعد الآن، وتمتمات الأغنية التي يسمعها في أذنه:

“وداعًا أيها المحارب الشجاع

وأنت تنحرف إلى الأمام نحو القبر”. 

تمزق ورق القارب، وسقط الجندي في الماء، وعلى الفور ابتلعته سمكة كبيرة، ويا لها من ظلمة حالكة في داخل السمكة! كانت أشد ظلمة من المكان تحت الأرض، وأضيق، ولكن رغم هذا بقي الجندي ممددًا على طوله وبندقيته في ذراعه، اندفعت السمكة سابحة جيئة وذهابا، وبحركات مروعة، حتى سكنت أخيرًا. حينها اخترقها ضوء مثل شعاع برق لمع بصفاء، وصرخ شخص ما: ’ها هنا جندي صفيح!إ كان ذلك بعد أن صِيدت السمكة، وبيعت في السوق ثم ووصلت إلى المطبخ حيث قطعتها الطباخة بسكين كبيرة، وأخرجت جندي الصفيح بإصبعيها من خصره وحملته إلى الغرفة، حيث كان الكل بانتظار رؤية هذا الجندي العجيب الذي قطع الرحلة هذه في بطن سمكة. ولكن جندي الصفيح لم يكن فخورًا إطلاقًا. وضع على نفس الطاولة، ويا لغرابة هذا العالم، فقد عاد جندي الصفيح إلى الغرفة نفسها، التي كان فيها من قبل ورأى ذات الأطفال والألعاب على الطاولة، القلعة الرائعة التي صنعت من الورق، وراقصة الباليه الرقيقة التي ما زالت تقف على ساق واحدة وترفع الأخرى في الهواء، كانت هي أيضًا صامدة في مكانها. بدا جندي الصفيح متأثرًا جدًا، وكادت دمعة من الصفيح أن تنزل على خده، ولكنه حبسها. نظر هو إليها، ولكنهما لم يقولا لبعضهما شيئًا. أمسك واحد من الأولاد في لحظة بجندي الصفيح ورماه في الموقد. لم يكن عنده أي سبب لفعله هذا، وبالتأكيد إنَّ عفريت علبة السعوط كان وراء هذا العمل. وقف الجندي مشتعلًا، شاعرًا بحرارة ساخنة، ولم يكن يعرف إن كانت بسبب النار أم الحب كما أن ألوانه الزاهية اختفت هي الأخرى تمامًا، ولا يمكن القول إن ذلك قد حدث أثناء رحلته أو بسبب حزنه. أخذ الجندي ينظر إلى الشابة الصغيرة، وهي تنظر إليه فشعر بأنه يذوب ولكنه كان لا يزال واقفًا ثابتًا في مكانه، وبندقيته في ذراعه، حينها، انفتح الباب فجأة وعصفت الريح براقصة الباليه، فطارت مثل فتاة رشيقة هيفاء إلى الموقد، بجانب جندي الصفيح، اشتعلت ثم انطفأت على الفور واختفت. وذاب جندي الصفيح وصار كتلة صغيرة من القصدير. وعندما جاءت الخادمة في صباح اليوم التالي، لتجمع رماد الموقد، وجدت الجندي وقد صار قلبًا صغيرًا من الصفيح، أما راقصة البالية فلم يتبق منها إلا الحلية الصغيرة، التي كانت قد تفحمت.

 من مجموعة حكايات خرافية

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى