توني موريسون وتأثير اللغة في كلمة قبولها جائزة نوبل للأدب 

موريسون أولُ امرأة أمريكية من أصل إفريقي تمنح جائزة نوبل للأدب 


حجم الخط-+=

ماريا بوبوفا

ترجمة: مريم الدوسري

في الأسابيع الأخيرة من العام 1993 أصبحت توني موريسون (18 فبراير 1931 – 5 أغسطس 2019) أول امرأة أمريكية من أصل إفريقي تفوز بجائزة نوبل للأدب في تقدير لـ“رواياتها التي تميزت بقوتها التبصيريّة وشعريتها العظيمة، وعلى إحيائها لجانب محوري من جوانب الواقع الأمريكي”. وأثناء قبولها لتكريم الأكاديمية السويدية في ستوكهولم في السابع من كانون الثاني، ألقت موريسون من على المنصة خطابًا عن تأثير اللغة وقدرتها في الاضطهاد والتحرير، والجرح والتطبيب، والسلب والاسترداد. ربما ما يزال خطاب موريسون المنشور في كتاب محاضرات أدباء نوبل من 1986 وحتى 2006 من أفضل ما قيل عن المسؤولية المترتبة على تطويعنا لهذه الأداة التي تميزنا عمّن سوانا من المخلوقات.

قالت موريسون “كان يا ما كان في قديم الزمان كانت تعيش امرأةٌ عجوزٌ، ضريرةٌ وحكيمة. أم كانت رجلًا عجوزًا؟ مرشدًا روحيًّا؟ أم راويًا أمريكيًّا إفريقيًّا يهدهدُ أطفالًا قلقين؟ سمعتُ هذه القصة أو قصةً ما تشبهها من حصيلة ثقافات أخرى قبلًا. كان يا ما كان، كانت تعيش امرأةٌ عجوزٌ، ضريرةٌ وحكيمة. في الرواية التي أعرفها، كانت هذه المرأة ابنة عبيدٍ سود. أمريكيةٌ تعيش وحدها في منزل صغير بعيد عن المدينة. هي بين أهلها القانونُ وتجاوزاتُه فلا شكَّ في حكمتها ولا منازع. تجاوزت سمعتها وتقدير الناس وافتتانهم بها حيهّا وصولًا إلى المدينة حيث تغدو فطنة حكماء القرية محل تندر وعجب. 

في أحد الأيام، زارت زُمرةٌ من الشباب المرأة. بدا عليهم العزم على التشكيك في حكمتها وكشف زيفها. خطتهم يسيرة: سيدخلون البيت ويسألونها سؤالًا واحداً تعتمد إجابته كليًّا على اختلافها عنهم، وهو اختلاف يرى فيه الشبان إعاقة بليغة: فقدانها للبصر. سيقفون أمامها وسيخاطبها أحدهم “في يدي طائر أيتها العجوز. أخبريني إن كان حيًّا أم ميتًا”.

لا تجيب المرأة فيتكرر السؤال “أحيٌّ أم ميت الطائر الذي في يدي؟”

لا تجيب. لا يمكنها، لعماها، أن ترى زوارها، فلا تعرف لهم أصلًا ولا لونًا ولا جنسًا، ولا تعرف ما في أيديهم. ولكنها تعرف نواياهم.

يطولُ صمت المرأة حتى يصعب على زوّارها الشباب كتم ضحكهم. 

تخاطبهم أخيراً بصوت هادئ حازم “لا أعرف إن كان الطائر في يدك حيًّا أو ميتًا، ولكنني أعرفُ أنه في يدك، أعرفُ أنه في يدك”.

يمكن لإجابتها أن تعني إن كان الطائر ميتًا فمن المحتمل أنكَ وجدته ميتا أو أنك قتلته. إن كان الطائر ما يزال حيًّا، ما زال بإمكانكَ قتله. قرار الإبقاء على حياته، هو قرارك. أيًّا يكن الوضع، القرار بيدك. 

وُبِّخ الشباب لاستعراضهم قوتهم ولكشفهم عجزها، لأنهم ليسوا مسؤولين فقط عن تصرفهم الساخر، بل عن الروح التي ضحوا بها من أجل بلوغ مرادهم. تُحوِّلُ المرأة الاهتمام من استعراض القوة إلى أداة الاستعراض. 

دائما ما أثارت اهتمامي محاولات تخمين ما يمكن أن يعنيه الطائر في اليد -إضافة إلى ضعفه، ولكن مدلوله الآن يهمني أكثر مما مضى بما أنني أفكر فيما أقوم به، وكيف جاء بي عملي إلى هذا المحفل. لذا أختار أن أرى في الطائر لغةً، وفي المرأة كاتبةً متمرسة تقلقها الطريقة التي تعامل بها اللغة التي وُلِدت بمولدها وتحلم بها. يقلقها تطويعُها وحتى حجبُها عنها لأغراض شنيعة. كونها كاتبة، فترى اللغة في جزء منها نظامًا وفي جزء آخر كائنًا حي لا سلطة لأحد عليه، ولكنها ترى فيها أيضًا قصدًا، كما لو كانت فاعلًا قادرًا على الإتيان بأفعال ذات عواقب. فسؤال الأولاد “أحيٌّ هو أم ميت؟” ليس سؤالًا واقعيًا فهي تدرك أن اللغة عرضة للموت والمحو. هي قطعًا مهددة، إلا أنه يمكن إنقاذها بجهدٍ وعزم. 

تظنُّ هي إنْ كان الطائر ميتًا، فإنَّ زوارها مسؤولون عن جثته. فاللغة الميتة برأيها ليست لغة لا تنطق ولا تكتب فقط، بل لغةً جامدة، راضيةً عن تحجرها، كلغة الدولة: رقيبة ومُراقِبة، لا ترحمُ في أداء مهامها الرقابية ولا رغبة لها أو هدف سوى الحفاظ على خصوصيتها، وهيمنتها، وعلى التأثير الواسع لنرجسيتها المخدرة. بالرغم من ضعفها، هذه اللغة ليست دون تأثير، لأنها تسعى جاهدة لإحباط الفكر، وتعطيل الوعي، وقمع الإمكانيات البشرية”.  

وبلهجة محذرة من سوء استخدام اللغة القادر على “تجاوز إمكانياتها المُولِّدة ذات التعدد والتعقيد إلى دور يجنح إلى الاستعباد والتهديد” تضيفُ موريسون:

“تكمن حيوية اللغة في قدرتها على تصوير الحيوات الواقعية، والمتخيلة، والمحتملة للمتحدثين، والقارئين، والكتّاب، وتشير إلى حيث معنى محتمل. بالرغم من أن روعتها تكمن في قدرتها على نقل التجارب فهي ليست بديلًا عنها.

حين تحدّث أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية عن المقبرة التي آلت إليها بلاده قال “لن يلقي العالم بالًا لما نقوله هنا، ولن يتذكره أحد، ولكنه لن ينسى ما حدث هنا”. كلماته البسيطة مثيرةٌ في قدرتها على البقاء حية لأنها ترفض أن تختزل حيوات ستمائة ألف شخص قضى نحبه في حرب عرقية عنيفة. في كلماته احترام للعجز عن التشبث بالحياة التي تنعيها، فترفض للتخليد، وتزدري الكلمات الأخيرة الخواتيم المحددة، وفيها اعتراف بعجز الكلمات عن الإضافة أو الانتقاص. هذا الاحترام هو ما يدفع اللغة للاعتراف بأنها لا يمكنها قطعًا أن تحل محل الحياة ولا يجدر بها ذلك. لا يمكن للغة تحديد العبودية، والإبادة والحرب. لا يجدر بأنها أن تتوق بغطرسة للقيام بذلك. فقوتها وتفوقها هي فيما يفوق الوصف.

فلتكن الكلمات عظيمة، أو ضئيلة، مستترة أو صاخبة، أو ترفض التقديس، سواءً كانت قهقهة أم بكاءً بلا صوت، فالكلمات المختارة والصمت المنتقى واللغة النقية تهرع نحو المعرفة، لا من أجل تدميرها”. 

وكأنها تستحضر جيمس بولدوين حين يقول متفكرًا في الحياة واللغة “تُشكل التجاربُ اللغةَ وتتحكم اللغةُ في التجارب”، تضيفُ موريسون “عملُ الكلمات عملٌ فائق الروعة، لأنه توليدي يخلقُ معان تؤكد اختلافنا- اختلافنا البشري وفرادتنا عن كل ما سوانا. قد يكون معنى الحياة أننا نفنى، ولكننا نعيش باللغة وقد يكون هذا معيار حيواتنا”.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى