تلال همنغوي المجازية
Ukessays
ترجمة: عباس الحساني
يعرف عن الكاتب إرنست همنغوي حرصه الشديد على جعل قصصه مختزلة قدر الإمكان، وإعطاء القارئ مؤشرات كافية لا يمكن إنكارها، ليتمكن من الوصول الى استنتاجات غير محددة. نجد هذا واضحا بالتأكيد في قصته القصيرة تحت عنوان (تلال كالفيلة البيضاء). وقد كتب العديد من الباحثين حول هذه القصة القصيرة والاستعارات التي تضمنتها.
أربعة من هؤلاء الباحثين هم فردريك بوش، لويس ويكس، دوريس لاينر وبول رانكين. ناقش هؤلاء الباحثون رمزية العنوان وتحليل الحوار ومحاولة التنبؤ بمستقبل هاتين الشخصيتين الناضجتين، من خلال الاستعارات التي ضمَّنها همنغوي في قصته. وتناقش المجلات الأكاديمية عنوان القصة والتفاصيل الاخرى التي تبدو تافهة وهي بمثابة رموز لظروف الشخصية، وأنا أوافق على ذلك لأنه حينما تتكشف القصة يظهر أنهم لا يقارنون التلال بالفيلة البيضاء لأغراض وصفية فحسب، بل من الواضح أن هناك معنى أعمق لكلماتهم يتعيَّن علينا نحن القراء أن نكشفه.
سأقوم بدراسة الاستعارات التي استخدمها همنغوي في قصته تلال كالفيلة البيضاء، من خلال معتقداتي الخاصة، والأفكار المقترحة في المجلات الأكاديمية التي كتبها الباحثين المختصين. يمكن الكشف عن هذه الاستعارات من خلال تحليل الحوار غير المباشر بين الشخصيات الرئيسة ووظيفة العناصر المادية المذكورة في القصة. يضع همنغوي رموزا في جميع أنحاء القصة، مما يسمح للقارئ أن يصوغ استنتاجات تتعلق بمعنى العنوان.
يشير ويكس (Weeks) في مقاله الذي يحلل قصة همنغوي أن جزءا كبيرا من القصة المكونة من ثلاث صفحات يلتزم بوصف التلال يزعم أنها تبدو كالفيلة البيضاء، ويذكر ويكس أن همنغوي لم يستخدم الرمز في عنوان القصة فقط بل في بقية أجزائها أيضا، فنجد أن هناك إشارتان لبياض التلال، وأربع إشارات بأن التلال تبدو كالفيلة. يدعم ويكس المفهوم القائل بأن العنوان الذي أعطاه همنغوي للقصة له معنى مزدوج.
النقطة الأولى التي يصوغها ويكس تتعلق بمبيعات الفيلة البيضاء، والهدف من مبيعات الفيلة البيضاء، هو أن يتبرع الناس ويتخلصوا من بضاعتهم غير المرغوب بها. يعتقد ويكس أنه بحسب القصة فإنَّ الفيل الأبيض يمثُّل الطفل الذي لم يولد بعد من وجهة نظر الرجل الامريكي. وأنا أتفق مع هذه الفكرة التي استمدها ويكس. أما التفسير الثاني للعنوان من وجهة نظر ويكس فهو أكثر مساندة للمرأة والطفل الذي لم يولد بعد. إن معنى الفيل الأبيض يخلق ازدواجية ذلك لأن الفيل الأبيض كائن نادر، قيم، ملكي، ومقدس. أعتقد أن هذا التفسير هو تكريم للطفل الذي في بطن (جيغ) ، وفي الطرف الآخر للعلاقة [وهو الرجل الأمريكي] يرفض هذا التشريف.
بالمقابل فإن بوش Bush يلاحظ جاذبية العنوان في القصة، يقول بوش: لكن التلال والتشبيه الذي استخدمته جيغ يحملان عبء موضوعهم الحقيقي، إرادتها وجسدها التي يضعها همنغوي في مواجهة خطط حبيبها لجسدها على الرغم منها. النضوج الأخير في جسد جيغ لا يتوافق مع الخطط التي رسمها الأمريكي لنفسه ولشريكته، وهكذا ترك القارئ لتخمين كيف أن تفسير بوش للاستعارات في عنوان القصة سيؤثر على موقف جيغ بما يخص حملها. تبدو هذه الحقيقة التي قدمها بوش صحيحة، لأنه، كلما تكشفت القصة واتضحت وازدادت تعليقات الأمريكي السلبية؛ تبدو جيغ أكثر ملائمة ولا تميل للتعبير عن أفكارها على نحو مفصل. تصف جيغ التلال «بأنها بيضاء تحت أشعة الشمس وكانت الأرض بنية وجافة» وهذا يسمح بوجود تباين بين الفرح والحزن، ويقول ويكس: من المهم أيضا، النظر الى هذا التعليق الذي صرحت به جيغ أنه يدل على التباين بين جيغ وشريكها في الموقف الذي أقحموا أنفسهم فيه على وجه التحديد.. وذلك للأن رد الأمريكي على تعليقها حول ما تبدو عليه التلال، يرفع التوتر في الحوار بين الاثنين. وفي خضمِّ محادثة مضطربة حول التلال والفيل الأبيض، يشرح الأمريكي بانزعاج: لمجرد قولك أنني لم اشاهد فيلا أبيضَ، فهذا لا يثبت أي شيء. وهذا يؤكد التناقض نفسه الذي ناقشه ويكس بين الشخصيات وأفكارها التي يحتمل أن تكون منقسمة حول مستقبل علاقتهم. إن وجهتا نظر ويكس وبوش حول العنوان لا يجب أن تؤخذا حرفيا، وأن للعنوان معانٍ متعددة يُعبَّر عنها بمهارة عبر الحوار الذي تتبادله بين الشخصيات خلال القصة. يبدو أن جيغ تساوي التلال، والتي هي جزء من الأرض الإسبانية، بالفيلة البيضاء، لأنها ترى طفلها الذي لم يولد بعد له قيمة في تناقض مباشر مع إشارة الأمريكي إلى أنه لا يرغب بهذا الحمل.
حلل العديد من الباحثين الحوار في قصة تلال كالفيلة البيضاء، والحوار بين هاتين الشخصيتين يكشف الكثير لكونهما بشرا، يحصل القارئ على دلالات حول طبيعة الشخصية الأمريكية من خلال ردود الأمريكي الساخرة والبرمة. يصرح بوش أن الأمريكي يجيبها بلغة مستفزة، وأعتقد أن هذا يزيد من تطوير المنظور الأمريكي للموقف، ويفسر ديناميكية العلاقة بينهما. لاحظ ويكس بعد تبادل الآراء، أن جيغ تلاحظ أن حياتهما ترتكز حول النظر إلى الأشياء وتجريب مشروبات جديدة، التي تشكل ضمانة من تفاهة والاستهتار في حياتهم. ثم عزز لانير الموضوعات المتعلقة بمشروباتهما من خلال اختيار الأفسنتين. هذه القصة غنية بالحوار لدرجة أن معظم القرائن التي يتركها همنغوي للقارئ تكمن في الحوار، ويذكر لانير أنه في قصة همنغوي يضطر الزوجان إلى التنفيس عن مشاعرهما بطريقة غير اقتحامية. وبعيدا عن تفسيرات لانير، يفسر هذا استخدام التعليقات الرافضة والساخرة بين الاثنين مع تطور القصة، في موضع محدد خلال حبكة القصة. بعد تبادل حادٍ للآراء بين الشخصيتين الرئيستين، يترك الأمريكيُّ جيغَ حتى يتمكن من أخذ الحقائب منها إلى الجهة الأخرى من محطة القطار حيث ينتظران. يسلط بوش الضوء على جوهر قيام الأمريكي بذلك، فهذا التصرف يعبِّر عن شخصيته. بعد أن يفعل الأمريكي ذلك، يصفُ الركابَ الذين ينتظرون قطارهم بقوله “معقول تماما” من هذا التفكير اليسير الذي بدا غير ذي اهمية لدى الأمريكي، يمكن لبوش أن يستنتج أنَّ الأمريكي يعتقد أن الفتاة التي جعلها حاملا تستطيع أن تنتظر على نحو غير معقول بسبب رغبتها في الاحتفاظ بطفلها الذي لم يولد بعد، ويضيف بوش موضحا إنَّ المنظور اللأمريكي للعقلانية يتعلق بالمتعة مع تعظيم الذات، لكنه ضد الولادة، وهو بذلك يختلف عن تعريف جيغ للمعقول. ويمكن أن يعزى هذا التباين بين الشخصيتين الرئيسيتن إلى تجاربهما المختلفة كونهم بشرًا في هذه الحياة.
ثمة رمز جوهري آخر في القصة، وهو اختيار الشخصية للكحول، وتحديدا اختيارهم للأفسنتين. يجادل لاينر بأن هناك أهمية لاختيارهم هذا الشراب، لأن الشخصيتين يشربان وهما يناقشان مواضيع مهمة جدًا. حتى إن لاينر ذكر أن “الأفسنتين يتردد ذكره أثناء القصة”، ولهذا معنى خاصًا لأن أحد الآثار الجانبية للأفسنتين هو النسيان، وهو ما يتمناه الأمريكي، في إشارة إلى لحمل الذي يرغب الامريكي بعدم ذكره. يمكن مقابلة فكرة النسيان التي ذكرها لاينر بالأفكار المتعلقة بمبيعات الفيلة البيضاء التي افترضها ويكس. وللأفستتين تأثير آخر يكشف عن معنى أعمق للقارئ وهو طعمه، يصف الأمريكي طعم الأفسنتين بأنه يشبه عرق السوس، وهو طعام معروف بأنه مر المذاق. يقول ” كل شيء طعمه كعرق السوس لا سيما الأشياء التي كنت تنتظرها طويلا كالأفسنتين”. يمكن مقابلة مرارة الأفسنتين بالحوارات المتبادلة بين جيغ والأمريكي، عبارة الأمريكي تتحدث عن عدد الأشخاص الذين يشبهون جيغ، فمن وجهة نظر أمريكية فإن هذا الحمل غير مرغوب به، وهو كطعم عرق السوس المر. وعلى غرار مرارة الأفسنتين فأن مذاق لحم الفيل أيضا غير محبب لدى معظم الناس. وقد أثبت المستكشف “الفيست كادموس Alvis Cadmos” في القرن الخامس عشر، أن طعم لحم الفيل غير مستساغ، في تلك الحقبة وكان من النادر أن يتناول الناس لحم الفيل، ويعدُّ كادموس أول من سجل مذاق لحم الفيل، وتناول لحمه يشبه يشبه احتساء الأفسنتين. من خلال ما تقدم يتضح لنا أن هناك روابط بين العنوان والرموز في القصة وهذا يعزز البغيضة التي يشعر بها الأمريكي وجيغ تجاه ظروفهم. ويشير لاينر إلى أن المرارة أصبحت بديلا للحلاوة. يسأل الأمريكي في نهاية القصة جيغَ فيما إذا كانت تشعر بتحسن فأجابت “أشعر بأنني بخير لا أعاني من أي خطب، إنني بخير” وفيما يتعلق بمشكلة الزوجين الحالية يلاحظ بوش أن الأمريكي “يريد إجهاض الجنين وأن جيغ تريد الاحتفاظ به” وفي النهاية يتوقع بوش أن الأمريكي سيفوز.
يتنبأ ويكس أيضا بمستقبل حمل جيغ، فهو يعتقد أن الأمريكي لن يسمح بذلك، وسيحرم المرأة من تحقيق الأمومة. أما رانكين فهو أيضا يدعم فكرة أن الرجل سيحصل على مبتغاه قائلا “إن بطل قصة همنغوي، وهو الذكر الأمريكي الذي لم يذكر اسمه، يهيمن على شريكته، وهي الأضعف نوعًا من ناحية أنوثتها وشبابها وغربتها”. ويخلص رانكين إلى نتيجة مفادها أن جيغ “تخضع لإرادته وتوافق على إجهاض الجنين”. استنادا إلى اقتباس رانكين المتعلق بجنس جيغ وعرقيتها، فمن الممكن أنَّه قد توصل إلى هذا الاستنتاج مستندا إلى دليل اجتماعي. فوفقا لعلم الاجتماع يكتسي الذكور المزيد من الموارد السياسيّة والاقتصادية مما يمنحهم قوة أكبر في صنع القرار، مقابلة بنظرائهم من الإناث. ويرى أن هذه القاعدة المجتمعية بين النوعين تنطبق على جيغ والأمريكي. وثمة إمكانية أن تكون جيغ استثناءً لهذا التفاوت في السلطة، وذلك بسبب تعليقاتها الساخرة والواثقة تجاه الرجل الذي يحاول إقناعها لكي تجهض جنينها. ولا أعتقد أن جيغ ستخضع لمحاولات الإمريكي للإجبارها على الإجهاض بل إنها لن تذعن لرغباته نظرًا لقوتها المنطقية والهادئة التي أظهرتها في حوارها طوال القصة. إنَّ عدم الرد على أي تعليق عدائي، قد يكون أقوى شيء يمكن فعله، وهذا بالضبط ما تفعله جيغ في هذا السيناريو، عندما يشاهدها الأمريكي في نهاية القصة. يتبدَّى لي أنها قد اتخذت قرارها بالفعل وأنها راضية تماما عن قرارها وهو الاحتفاظ بالطفل. بل على العكس من ذلك أزعم أيضا أن العادة الخطيرة التي يتسم بها الأمريكي المتلخصة في كونه أنانيا، وبدائيا في طبيعته، ستكون السبب في سقوطه نهاية المطاف، كما ستؤدي إلى أن تتقاطع طرق جيغ معه.
تتجلى فكرة افتراق الطرق من خلال اختيار همنغوي إعداد القصة لتكون في محطة قطار، حيث هناك مسارات مختلفة يمكن للمرء أن يسلكها. قرغبة جيغ القوية في الامومة والتي تتعرض لضغط متمثلا برغبات الأمريكي الأنانية الرامية لإجهاض طفلها. يخلق هذا الاختلاف في الآراء معركة ملحمية، ويتراءى لي أن جيغ والطفل سينتصران بها.
ناقشت المجلات العلمية رمزية عنوان قصة “تلال كالفيلة البيضاء” إضافة الى المعنى العميق ضمن الحوار، والتنبؤات لما سيحصل لطفل جيغ الذي لم يولد بعد وكذلك الرموز المبطنة التي ضمنها همنغوي. عمد همنغوي على نحو فعال إلى غرس الرموز وتطوير الحوار في هذه القصة الثرية بالحوار والمؤلفة من ثلاث صفحات. وأرى أن الخلاصة غير مدونة لهذه القصة على مختلف، فقد ناقشت المجلات الأمريكية دعم فكرة الضغط على جيغ لكي تجهض جنينها، ويظهر لي أن جيغ معتدة بنفسها أكثر من الإشادة بما قامت به عبر إعطائها الثقة لتكونَ ضد رغبات الأمريكي وتحتفظَ بالطفل. استخدم همنغوي عموما قدرته ليترك أدلة واضحة للقراء لكي يصلوا إلى استنتاجات ضمنية واضحة على نحو مميز في قصة “التلال والفيلة البيضاء”