باروخ سبينوزا (1632-1677)

Great Thinkers


حجم الخط-+=

ترجمة: موسى جعفر

باروخ سبينوزا  فيلسوف هولندي من القرن السابع عشر حاول إعادة اختراع الدين، بإبعاده عن الاستناد إلى الخرافات وأفكار التدخل الإلهي المباشر ليكون نظامًا موضوعيًا وشبه علمي ومطمئنًا كذلك في جميع الأوقات. ولد باروخ (الذي يعني المبارك بالعبرية) في حي اليهود في أمستردام في العام 1632، وهو مركز مزدهر لفكر اليهود وتجارتهم. وكان أسلافه يهود سفارديون (شرقيون) طردوا من إسبانيا تحت سطوة الكاثوليك في العام 1492. كان باروخ طفلًا عبقريًا مولعًا بالدراسة، وتلقى تعليمًا يهوديًا تقليديًا مكثفًا؛ ارتاد المدرسة اليهودية المحلية -اليشيفا- واتبع جميع الطقوس والأعياد العليا اليهودية. لكنه بدأ ينأى بنفسه عن إيمان أسلافه تدريجيًا، وكتب لاحقًا بتحفظ: «رغم أني ثُقِفْتُ منذ صباي على قبول الحقائق المتعلقة بالنصوص المقدسة، فقد شعرت في النهاية بلزوم اتِّباع توجهات أخرى». نُشرت أفكاره الناضجة لاحقًا في أفضل أعماله: كتاب الأخلاق المكتوب باللاتينية، المنشور عام 1677. 

تحدى سبينوزا في «الأخلاق» أهم مبادئ اليهودية خصوصًا والدين المؤسسي عمومًا، وقال: 

  • ليس الرب شخصًا يقبع خارج الطبيعة.
  • ليس هناك سامع لدعائنا.
  • لا منفذ للمعجزات.
  • لا معاقب لنا على آثامنا.
  • ليست هناك حياة بعد الموت.
  • ليس الإنسان مخلوق الرب المختار.
  • لم يكتب الكتاب المقدٍَّ إلا بشر مثلنا.
  • كل ما في التقويم الطقسي التقليدي محض خرافة وهراء.
  • ليس الرب بحِرفيّ أو معماريّ، وليس بملك أو مخطط عسكري يدعو المؤمنين إلى حمل السيف المقدس. إنه لا يرى شيئًا ولا يعلم غيبًا ولا يحاسب. إنه لا يكافئ الفاضلين بحياة بعد الموت وكل تمثيل له بهيئة شخص هو إسقاط خيالي.

لكن سبينوزا -رغم كل ما تقدم- لم يصرح بأنه ملحد! بل أصر على كونه مدافعًا وفيًا عن الرب.

للرب دور بالغ الأهمية في كتاب الأخلاق لسبينوزا، لكنه ليس كالرب الموجود في صفحات العهد القديم. رب سبينوزا ليس بمرءٍ، ولا يمكن فصله عمّا قد نسميه الطبيعة أو الوجود أو روح العالم؛ الرب هو الكون وقوانينه، وهو الحقيقة والمنطق، وهو القوة المحركة لكل شيء وجد أو يمكن أن يوجد. إنه مسبب الأسباب لكنه السبب الأبدي. إنه ليس في الزمن، ولا يشترك في تغيّر، إنه غير قابل للتجسيد. إنه حسب صياغة سبينوزا: «كل ما يوجد، موجود في الرب، ولا موجود يُوجد أو يُتصور دون الرب». حرص سبينوزا في أعماله على هدم فكرة الدعاء، فيطلب الفرد من ربه تغيير مسار الكون. يقول سبينوزا إن هذه لطريقة خاطئة تمامًا، فوظيفة البشر هي محاولة فهم كيف ولماذا تكون الأشياء على ما هي عليه؛ ثم تقبلها عوضًا عن الاحتجاج على مسار الوجود بإرسال رسائل صغيرة إلى السماء. وعلى حد تعبير سبينوزا الجميل المتهكم: «لا يمكن أن يسعى من يحب الرب إلى أن يحبَّه الرب في المقابل». بتعبير آخر فإن النرجسية الساذجة وحدها هي ما قد يقود المرء إلى الإيمان برب وضع قوانين الطبيعة الأزلية، ثم تخيل أن ذات الرب قد يهتم بالتلاعب بقوانين الوجود لتحسين حياته بطريقة ما. تأثر سبينوزا برواقية الرومان والإغريق كثيرًا الذين قالوا إن الحكمة ليست في الاحتجاج ضد الموجودات، بل في المحاولات المستمرة لفهم طرائق العالم، والخضوع بعدها للضرورة بهدوء. شبّه سينيكا، وهو فيلسوف سبينوزا المفضل، الإنسانَ بكلب مربوط بطوق تقوده ضروريات الحياة في مختلف الاتجاهات. وكلما قاوم المرء شدة الضروريات، زاد اختناقه، لذا يجب أن يسعى الحكيم إلى فهم آلية الأشياء سلفًا -فِهمُ كيف هو الحب مثلًا أو كيف هي السياسة- ثم يغير مساره وفقًا لذلك لئلا يختنق عبثًا. وهذا النوع من السلوك الرواقي يتخلل فلسفة سبينوزا باستمرار. أيضًا فإن سبينوزا يخالف الطريقة التقليدية لفهم الرب عبر قراءة الإنجيل وسائر الكتب المقدسة، فيقول إن أفضل سبيل لفهم الرب هو بفهم الحياة والكون، أي بمعرفة الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية…

يطلب المؤمنون بالديانات التقليدية هبات من الرب، لكن سبينوزا يقترح بدلًا من ذلك وجوب فهم ما يريده الرب، وذلك ممكن -فقط- عبر دراسة كل الموجودات إذ نستطيع بالمنطق الوصول إلى منظور سماوي أبدي. وضع سبينوزا تمييزًا مشهورًا بين طريقتين للنظر إلى الحياة: إما أن ننظر إليها بغرور ينبع من وجهة نظرنا الضيقة (من منظور زمني)، وإما أن ننظر إليها بتوسع وخلود (من منظور أبدي). طبيعتنا تحتم علينا الانقسام الدائم بين الاثنين. فالحياة الحسية تسحبنا نحو نظرة جزئية محدودة بالزمن لكن ذكائنا الفكري يهبنا وصولًا فريدًا إلى منظور آخر يتيح لنا الشراكة الحَرْفِية في الكُلية الأبدية (حين يصبح سبينوزا شاعريًا).

عادة ما نقول «سيئ» عن كل ما يضرنا، ونقول «جيد» عن كل ما ينفعنا ويرفع قدرتنا، لكن أن تكون أخلاقيًا بحق في نظر سبينوزا يعني أن تسمو بنفسك عن هذه الاهتمامات المحدودة. قد يبدو مستحيلًا إلا أنه تخيل فلسفته طريقًا يؤدي إلى حياة خالية من الشعور بالذنب والأسى والشفقة والعار.  تتضمن السعادة محاذاة رغباتنا مع رغبات الكون -الرب- الذي له مشاريعه الخاصة، ومن واجبنا فهمها عوضًا عن ذمها. إن الحر هو الذي يعي الضروريات التي تخضعنا جميعًا، وفي هذا الباب كتب سبينوزا إن الحكيم والرجل الذي يفهم لماذا وكيف أن الأشياء هي على ما هي عليه: «يحوز الرضا الحقيقي الأبدي عن النفس».

من البديهي أن أفكار سبينوزا ورطته في مشاكل كبيرة. فقد نُبذَ من المجتمع اليهودي في أمستردام عام 1656؛ وأصدر الحاخامات وثيقة بحق الفيلسوف تعرف بـتشيريم (استبعاد نهائي من الجالية اليهودية)، جاء فيها: «بمرسوم الملائكة وأمر القديسين، نحن ننبذ باروخ دي سبينوزا ونطرده ونذمه ونلعنه بكل اللعنات المكتوبة في سفر الشريعة؛ لتحل عليه اللعنة في الغداة ولتحل عليه اللعنة في العشي، وليكن ملعونًا حين يرقد وليكن ملعونًا حين ينهض…».

أجبر سبينوزا على مغادرة أمستردام، وانتهى به المطاف في لاهاي حيث عاش بهدوء وسلام وعمل مدرسًا خاصًا وفي صقل عدسات النظارات حتى وفاته عام 1677. أما أعماله فقد قوبلت بإهمال كبير، حتى جاء هيغل في القرن التاسع عشر ثم فيتنغشتاين وبعض الباحثين في القرن العشرين. على العموم، فإنها تقدم تحذيرًا بشأن إخفاقات الفلسفة.

نعد «الأخلاق» واحدًا من أجمل الكتب العالمية؛ ففيه منظور حياة مطمئن يقوِّم الرؤية. إنه يستبدل إله الخرافات بواحديّة حكيمة مواسية (=وحدة الرب مع الكون، وهي مشتقة من كلمة يونانية تعني الكل هو الرب). مع هذا فقد فشلت أعمال سبينوزا فشلًا ذريعًا في إقناع سوى قلة قليلة لهجر الدين التقليدي والتحوّل إلى نظام إيمان عقلاني حكيم. أخفق سبينوزا -حاله حال فلاسفة كثر سبقوه ولحقوه- في فهم أن الناس لا يؤمنون لمجرد المنطق، بل إن للعاطفة والمعتقد والخوف والتقاليد دور أهم بكثير. فالناس يتمسكون بمعتقداتهم لأنهم يحبذون الطقوس والموائد الشعبية والتقاليد السنوية والفنون المعمارية الجميلة والموسيقى واللغة الرنانة في الكنيس والكنيسة.

يمكن القول إن كتاب الأخلاق لسبينوزا يفوق الإنجيل في الحكمة، لكنه ظل عملًا هامشيًا يُدرس هنا وهناك في جامعات الغرب لأنه جاء عاريًا عن البنية التي تدعم الإنجيل، وظل الدين التقليدي الذي اعتقد سبينوزا أن الزمن عفا عليه في 1670 يزدهر ويقنع الناس إلى الآن. إن أردنا استبدال المعتقدات التقليدية يومًا، فيجب أن نضع في بالنا كمية الدعم الذي تتلقاه من الطقوس والتقاليد والفن والرغبة في الانتماء، وجميع الأشياء التي أهملها سبينوزا رغم حكمته وتجاهلها في محاولاته الجريئة لاستبدال الإنجيل.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى