المال بين الأدب والواقع

م. عبدالله آل عبدان


حجم الخط-+=

“إنّ سلطة المال عظيمة حين يكون متاحًا، ولكنها أكثر عظمة حين يُفقد. فهو يمنحك في الآن ذاته هبة الحرية المقدسة وذلك السخط الشيطاني الذي يجتاح أولئك الزاحفين من دونه”. ستيفان زفايغ

ناقشنا بصحبة الأصدقاء في نادي رؤيا الثقافي قبل زمن رواية “التحول”، وفي ترجمة أخرى “فتاة مكتب البريد” للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، واستوقفتني من بين ثيمات العمل الرئيسة ثيمة محددة وجوهرية في هذا العمل ألا وهي ثيمة المال الحاضرة من خلال التحول الذي حصل للشخصية الرئيسة في الرواية كريستين، بعد أن انتقلت من حياة الإقتار والفاقة إلى حياة الرفاهية والبذخ عند خالتها، ثم عادت مرة أخرى لوضعها الطبيعي السابق. كان لهذه التجربة أثرها السلبي في نفسيتها وتعاملها مع واقعها اليسير والفقير، فإذا بها ناقمةٌ وكارهةٌ وساخطةٌ على واقعها وقدرها بعد أن تذوقت الترف وعرفت الرفاهية واطلَّعت على لونٍ مختلفٍ من ألوان الحياة. هذا التحول الذي شهدته كريستين يعيشه الإنسان العاديّ المعاصر من خلال اطلاعه على نمط الحياة المترف الذي يعرض عبر مواقع التواصل الاجتماعي من قبل بعض المشاهير، أو عبر الغزو الإعلاني والدعايات الترويجية التي تجرد الإنسان من إنسانيته وتحوله إلى كائن مُستَهلك. كما تربط معظم هذه الإعلانات الراحة بالاستهلاك، والسعادة بالإنفاق والشراء، وأصبحت القيم الأخلاقية التي لا تتوافق مع السوق أو إنفاق المال غير مرحب بها في الفضاء العام مثل الاكتفاء والرضى والزهد. واستوقفتني المقابلة الحاصلة بين الفرد في العصر الحديث وبين كريستين، بطلة الرواية، لكتابة هذا المقال.

إنَّ الحقيقة في تفاوت البشر واختلافهم سنةٌ كونية إلهية، وهذا التفاوت حاصلٌ كذلك في المال فتتشكل الطبقات الاجتماعية وفقاً لقدرتها المالية: طبقة ثرية، طبقة متوسطة (ميسورة)، طبقة محتاجة (مستورة). ولكل طبقة اجتماعية عاداتها ومعاييرها الجمالية التي تجعل من الأفراد فيها يشعرون بالراحة والأمان، وعندما يحاول الفرد الذي ينتمي إلى طبقة معينة أن يتنكر لذاته ولطبقته (سواء من خلال ممارسة عادات طبقة أخرى أو من خلال مقارنة واقع طبقته مع واقع طبقة أخرى) فحتماً لن يشعر بالراحة فضلا عن الشعور بالسعادة، إذا سلمنا أنَّ لها وجوداً دنيوياً أصلاً، وكما يقول كنان القرحالي في مقدمة ترجمته لكتاب “سيكولوجية المال” للكاتب مورجان هاوسل: “إنَّ المقارنة وقود التعاسة العالمي”. وفي خضمِّ هذه الطبقات والسعي الجامح لجمع المال وانفاقه فإن “الشخص الناجح” في نظري على الأقل هو من يشكل نمط حياته وعاداته وفقاً لاحتياجاته وأهدافه لا كما تمليها عليه الطبقة التي ينتمي إليها أو الاعلانات المزعجة التي تقولب الإنسان في قالب (الثري المُغفل).

تغفل النظرة التي “ترى في المال حلاً وليس مشكلة” عن المشاعر السلبية والمشاكل المصاحبة للمال من ميلٍ إلى المقامرة والربح السريع والشعور بالحسد، أو الرغبة المتقدة في المزيد (الجشع والطمع)، أو الخوف من فقدان المال (الذي يمثل الأمان للبعض)، أو مشاعر الغضب والسخط التي يشعر به فاقد المال. تربط هذه النظرة القاصرة المال بالسعادة فقط، ولا تراعي أنَّ هذه السعادة مشروطة بالنتائج الإيجابية للمال، وهذه النتائج للأسف غير مضمونة أبداً. يقول د.أكرم زيدان في كتابه “سيكولوجية المال” الصادر عن عالم المعرفة وهو كتاب قيّم بالمناسبة: “إنّ المال يشتري الوسائل ولا يشتري الغايات، فقد يشتري المال الطعام ولكنه لا يشتري الشهية للطعام، ويشتري الدواء ولكنه لا يشتري الصحة، ويشتري الوسائد ولكنه لا يشتري لحظة نوم واحدة”.

ولو حاولنا أن نفهم الدوافع المحركة للسلوكيات الإنسانية المرتبطة بالمال، أو ما يسمى بالسلوكيات المالية، وسبرنا غورها نجد أنها تتضمن تعبيراً خفياً عن الحاجة المُلحة إلى الحب والحرية، الحب بجميع تمظهراته (حب الذات، حب السلطة، حب القوة، حب الآخرين)، والحرية المتمثلة بالاكتفاء. ينفق البعضُ ليتحرر من التزاماته، وينفق ليتحرر من رغباته ويحقق الاكتفاء، وفي سبيل ذلك، أي الحب والحرية، ينفق المُنفقِ ويستهلكُ المُستهلك في الغالب.

*

المال -لغةً كما عند بعض اللغويين- مشتقّ من (م ي ل) أي أنّ أَلِفَه -كما يقول علماء الصرف- منقلبة عن ياء، والميل يعني الرغبة، وهذا واضح لأنّ صاحبه يميل إليه. فمَن كان عنده دنانير يميل إليها، فالدنانير والأراضي والعقارات والدور والبساتين مال، لأنّ القلب يميل إليها، وهكذا الذهب والفضّة والأسهم في الشركات وغيرها من صور المال. فمَن كان عنده شيء من هذه الأمور مالَ قلبه إليها وفكّر في قيمها وهل ستصعد أو تن‍زل في الأيام القادمة وماذا يمكن أن يصنع بها. يقودني المدخل اللغوي أعلاه إلى علاقة الإنسان الأولى بالمال (الميل) والرغبة والتطلع.

إن نزوع الإنسان إلى المال هو نزوع آدم الأول لنيل ما ينقصه، “رغبة” في تحقيق الكمال والرضى، وهذا ما أخرجه من الجنة بعد أن رضخ لوسوسات إبليس. قال تعالى في سورة الأعراف الآية (٢٠): “ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ”. فأشار إبليس إلى جوانب النقص التي تثير الرغبة، أو النقاط التي تحول بينهم وبين الكمال المتمثل في الخلود كونهم بشرًا وليسوا خالدين، والرضى المتجسد في الملائكة واختلافهم عن البشر المتطلعين والشغوفين على الدوام. لا بد من التيقظ لهذه النزعة التطلُّعيّة أو الرغبة في المفقود مع إغفال الموجود التي أسقطت آدم من الجنة، فلا يجب أن تحول بين ذريته وبين العودة إلى وطنهم الأول (الجنة). وهذه الرغبة في المفقود والنزعة التطلُّعيّة التي تهمش ما سواها هي بالذات ما عانت منها كريستين، بطلة رواية التحول، وهذا ما قادها إلى التفكير بقرارات وخيارات بائسة ومظلمة.

والمتأمل في طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال تتجلى له هذه العلاقة غير واضحة الملامح، فيرى أناسٌ أنَّ العلاقة بالمال يجب أن تكون نفعية (اقتصادية ربحية) فيكون المال غاية في ذاته لتحقيق مصالح الإنسان، ويدعو آخرون إلى أن تكون هذه العلاقة منضبطة أخلاقياً (أي لا تكون قيمة المال أعلى من القيم الأخلاقية) فيكون المال بين يديه (وسيلة) لغايات أخلاقية أسمى منه، وثمة في الطرف البعيد عن زخم الحياة وزخرفها من لا يعير اعتباراً للمال أصلًا، لأنه توصل إلى حقائق تفوق في تأثيرها وقوتها المالَ وحرص على الباقيات الصالحات قال تعالى في سورة الكهف الآية (٤٦): “الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا”.

ولكي لا نبتعد كثيراً عن الأدب الذي قادنا للحديث عن المال، وننهل من الأدب الواقعي، استحضر هنا بعض النماذج الشعرية الجميلة من الشعر الشعبي المعاصر التي تعبر عن العلاقة المضطربة بين الإنسان والمال، فنجد العلاقة الأخلاقية بالمال حاضرة عند الصديق عبدالله بن مجحود، فنراه يتعامل في هذين البيتين بنبله وأخلاقه مع المال ويتجرد من أخلاق السوق والربح الماديّ عندما يتعلق الأمر بما هو أسمى من المال يقول:

إذا شفت ابن عمي عرَض سلعته محتاج

‏عطيته ثمنها الأول اللي شراها به

‏على شان ما يشعر مع الضيق بالإحراج

‏وليا من بغاها! يبشر بما بغاها به

 

وعلى الجانب الآخر يتساءل الصديق تركي بن حصين مستغرباً ومستنكراً لطبيعة تعاطي الإنسان مع المال، كيف أن الإنسان يسُبُّ المال ويقدسه في الوقت نفسه فيقول:

قالوا وصخ دنيا عن المال والمال

‏نظَّف وصاختهم، وقلَّل شقاهم

‏وقالوا عن الدنيا دنيّة وتحتال

‏وهم ورى الدنيا طمعهم خذاهم

‏وأكبر دليل المال يا لعنبو المال

‏من يملكه يا أخوك يملك رضاهم

ختاماً ولكي نتجنب المصير البائس الذي عانت منه كريستين في الرواية، والذي قد يتعرض له أو يعاني منه أي شخص يعيش في عصر الانفتاح ومواقع التواصل الاجتماعي ويواجه الغزو الإعلاني المسعور، يجب علينا أن نبتكر حلولاً تنطلق من الوعي وتنعكس في السلوك وتتوافق مع ثقافة المجتمع العربي المسلم، بدايةً من استحضار الأسئلة الوجودية الرئيسة: لماذا أنا مخلوق؟ وماذا تُمثل الحياةُ لي، هل هي دار قرار أو دار اختبار؟ وهل نمط الحياة الذي أحياه يتوافق مع معتقداتي الإيمانية؟ مع محاولة تعزيز قيم التكافل الاجتماعي من مشاركة، ومعاونة، وتبادل، التي تُحيي بدورها الروابط الاجتماعية، وتُفعِّلها في الجانب الاقتصادي للحد من النهم الاستهلاكي، وإشباع إحدى الدوافع الإنسانية التي تكون مضمرة في سلوكيات الإنسان المالية (البحث عن الحب والتقدير). فإذا ما حظي على الحب والتقدير من المجتمع الذي ينتمي إليه فلن يضطر لممارسة سلوكيات مالية خاطئة تنم عن حاجة الإنسان إلى لحب والتقدير. بالإضافة إلى ابتكار حلول تدويرية للمنتجات القابلة لإعادة التدوير والاستخدام، واستحضار القيم الأخلاقية التي تربط الإنسان بالسمو وتشعره بالاكتفاء مثل قيمة الرضى والزهد فتُشبع من زاوية أخرى دافعَ البحث عن الحرية، الذي يكون مُضْمَراً أيضاً خلف بعض السلوكيات المالية الخاطئة، فمن لم ينعم بجنة الدنيا (الإيمان) والرضى بالله وبمقاديره فكيف سينعم بجنة الآخرة؟ مع الاستعانة بتراثنا ورسالتنا السماوية لمعرفة حقيقة الحياة، وعدم الاغترار بها. قال تعالى في سورة الحديد الآية (٢٠) “اعلموا أَنَّما الحياةُ الدُّنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخُرٌ بينكُم وتكاثرٌ في الأموالِ والأولادِ كمَثَلِ غيثٍ أعجبَ الكُفَّارَ نَباتهُ ثُمَّ يهيجُ فتراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يكونُ حُطاماً وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ منَ اللَّهِ ورضْوانٌ وما الحياةُ الدُّنيا إِلَّا متاعُ الغرُور”.

تبقى الأسئلة حول (المال) مثيرة بحكم ما يترتب على إجاباتها من انفعالات نفسية وسلوكيات اجتماعية:

فهل نمتلك الخبرة الكافية للتعامل بنضوج مع المال؟

ما مدى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في سلوكياتنا المالية؟

هل توجد ممانعة كافية لصد هذا الغزو الإعلاني الذي يحول الإنسان إلى كائن مستهلك شَرِهْ؟

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى