اللص الشريف

قصة قصيرة 


حجم الخط-+=

أجريتُ العادة مؤخرا على أن أقضي الساعة المقررة والدورية من قطيعة الكهرباء في مبنى عملي على كراسي ناصبة شاي عند ناصية الشارع. ولما كنت قابعا هناك يومها استرعاني صوت كحتٍ في الأرض يكاد يعلو على زامور السيارات، فوشى مصدره عن شبشب صبي ضئيل في الجهة المقابلة من الناصبة، بشعر رهيف له لون السكر المحروق، خُيل لي أنه في العاشرة من العمر، يزيد أو ينقص، يلهث كأنما كان يجري في العراء من صباح الله. تابعته وهو يقتعِد طرف الرصيف المقابل ويخلع فردة الشبشب التي أخذ يعبث بها منهمكا كأنما يصلحها أو يقتطع منها شيئا، وخصلات شعرِه المنسدلة على عينيه تضجره. ولما فرغ من انهماكه رفع رأسه يتلفت حتى تلاقت نظراتنا فهمّ بالعبور نحوي.

– عمو أعطني شيئا.

قالها بلا مسكنة وبطريقة رتيبة جدا كأنه مارٌ يسأل عن مكان ما. وحينما كنت أفتح محفظتي مرّ فتى، يكبره بسنوات قليلة، في الجهة المقابلة، يحمل زجاجة غازية يتثنى من الضحك ويخبط يد على يد ثم هتف له

– يا محمد، لم تأخذ الزجاجة يا كروديا، كاد الرجل أن يمسك بك ولو عثر عليك س.. (قال لفظا خادشا).

انزوى فمه عن ابتسامة عرجاء ولم ينبس. فسألته وهو يتلقف مني النقود

– هل هناك من يضايقك؟ من الذي كان يجري وراءك؟

أجاب بلا بالغ اهتمام وهو يدس النقود في جيبه.

– الرجل الواقف في الكشك المقابل لمحجوب.

– لماذا؟ أسرقتُم منه شيئا؟

رد بسذاجة عصفور

– لا لا، نحن لم نسرق، فقط نأخذ منه زجاجات المشروبات المقاطعة.

كان لوقع الكلمة عليّ من الغرابة ما لها، ونمى عني صوت ضحكة داخلية قصيرة من عبث الموقف وقلت له

– مقاطعة! أتعرف ما المقاطعة؟

– طبعا، تلك المشروبات التي تذهب أموالها لقتل الأطفال الفلسطينيين.

قال هذا وكأن ثغره الصغير مفعم بكلمات كبار جلائل. واستطرد يقول

– تأتي الشاحنات العملاقة وتنزل الزجاجات للأكشاك، وتحصّل النقود منهم لتعطيها للقتلة.  

– من الذي أخبرك بهذا الكلام؟

وجه نظره إليّ مستفهما

– الجميع يعرف ذلك أصلا، إنه لأمر معروف جدا وكلنا نفعل هذا.

– من كلكم؟

– أنا وأصدقائي.

– آه، إذا فأنتم تسرقونها لتمنعوا وصولها للقتلة.

أومأ برأسه موافقا وعلى وجهه ابتسامة مشاكسة.

– وهل من الصحيح أن تساعدوا غيركم بالسرقة؟

وضع يديه الاثنتين فوق بعضهما أسفل بطنه وقال في تهكم

– وماذا نفعل إذًا؟

– لا أعرف.. أقصد أي شيء.. ادعوا لهم مثلا.

– أمي كانت تفعل ذلك ولم يحدث شيء.

– كانت؟ وماذا تفعل الآن.

– أخذتها الحكومة لأنها كانت تفترش ببضاعتها أمام أحد المولات التجارية.

قالها بلا تأثر كأنه شيء وارد جدا أو أنه سلو الحياة. وتحيرت بين أن أقول شيئا وبين السكوت. ورفعت الشاي أرتشف منه وعدت أحدثه وأنا ناظر في الخلاء

– وهل تعرف أمك ما تفعله أنت وأصدقاؤك؟

– طبعا، هي من توصيني بأن آخذ حذري فلا يراني الواقف في الكشك، تقول إن هذا أقل ما نقدمه للفلسطينيين.

طالعته بنظرة نافذة وشعرت بلساني معقوداً وقشعريرة ربيعية تسري في جسدي. لم تكن مجرد عاطفة قد جيشها الصبي بقدر ما كانت حيرة قارصة. استطرد في الكلام بحماسة عن كيفية التنفيذ بالتفاصيل، لولا أن أعرب هاتفي عن مكالمة شغل مهمة، فرددت نظري بين الصبي والهاتف، وقاطعته لأجيب. وفي أثناء حديثي بالهاتف كان هو يتلفت بحثا عن أي شيء، ورمَقني بنظرة تنضح مللا كأنه لم يعد يجد ما يُغريه في الوقوف. هز رأسه مودعا ومنعتني المكالمة من رد الفعل فمضى يهرول إلى عالمه. ولما أُعلِمت أن الكهرباء قد عادت إلى المبنى، قمت أعدل بدلتي وحاسبت رجل الناصبة، ومضيت عائدا إلى مكتبي. وفي الطريق قابلت كشكاً، فوقفت متسمراً والأفكار تتلاطم في خلدي. اقتربت في خطوات ثقيلة من الثلاجة أتفرسُها، تلفت حولي ودسَست يدي في جيب بِدلتي أقيس عمقه.

أحمد المنجي: قاص من مصر 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى