الضفدع المسافر – فسيفولود جارشين 

قصة قصيرة 


حجم الخط-+=

ترجمها عن الروسية: عمران أبو عين

عاشَ في هذا العَالَم ضُفدع، كانَ يَجلسُ في المُستنقع ويَصطاد البَعوض، في الرَّبيع كانَ يُنقنِقُ بصوتٍ عَالٍ مع أصدقائه الضَّفادع، وكانَ سيعيشُ قَرناً كَاملاً في ذلك المُستنقع لولا أنْ حصلَ حَادثٌ ما. في إحدى الأيّام كانَ يجلسُ على أحدِ الأَغصان، يُجفِّفُ نَفسه من الماء الّذي بَلَّلَه، ومُستمتع برذاذِ المَطر الّذي يَتساقط. أخذَ يُفكِّر آهٍ ما أجملَ الطقسَ اليوم وأكثر بَلَلَه، يا لها من مُتعة العيش على سطح الأرض. أخذَ المطرُ يتساقطُ على ظهرهِ، ويَتسرَّبُ منه إلى بَطنه وأظفارِه، كان ذلك لطيفاً جدّاً، لطيفٌ حتى إنّه كادَ يُنقنِق، لكن لحُسن حظّه تذكَّر أنّه الآن في فصل الخريف، وأنّ الضَّفادعَ في الخريف لا تُنقنِق، وأنّ ذلك في فصل الربيع، وإلا سيكون انتقاصاً لكرامته ضفدعاً. وفجأةً، سمعَ أصواتاً تُصفِّرُ في الجو، ثمة أنواع من الإوز عندما تَطير تَضرِبُ بأجنحَتِها الهَواء وتبدأ بالغناء، أو بِالأحرى بالصَّفير، فيــو فيــو فيــو، تتناثر في الجو، عندما يَطير مثل هذا السرب من الإوز، فلا يُمكنك حتّى أن تراها لتحليقِها المُرتفع. في هذه المرَّة نزل الإوز بنحوٍ نصف دائري، واستقر في ذلك المُستنقع بالتحديد، الّذي كان يعيشُ فيه ذلك الضُّفدع. 

– قالت إوزة بعيداً.. بعيداً، سنطيرُ بعيداً، لا بُدَّ أنْ نَتغذى. 

في تلك الأثناء، كانَ الضُّفدع مُختبأً، مع عِلمِه أنّ الإوز لن يَأكله بسبب حجمه وسُمنته، لكن غَطّى نفسَه احترازا تحت الماء، وبعد التفكير قررَ أن يُخرِجَ رأسَه من الماء، فقد كان لديه فُضولاً أنْ يَعرفَ إلى أين سيطيرُ الإوز.

– قالتْ إوزة أُخرى بعيداً.. بعيداً، سيصبحُ الجو بارداً، أسرعوا إلى الجَنوب، أسرعوا إلى الجنوب! وأخذَ الإوز يصرخُ عَالياً في نوعٍ من المُوافقة. 

تجرأ الضُّفدع وأخذَ يسأل يا سيّد الإوز! ما الجنوب الّذي تُقررونَ الرَّحيل إليه؟ المَعذرة على الإزعاج. 

أخذَ الإوز بإحاطة الضُّفدع، وكان لَديهم في البِداية رَغبة في التهامهِ، لكن كُلّ واحد مِنهم أخذَ يُفكِّرُ في أنَّ الضُّفدع ضَخمٌ ولن يَدخُل حَلقَهُ، عِندهَا بَدأ الإوز بالصراخ والضرب بأجنحتهِ. 

– حسناً إلى الجنوب! الجوُ دافئٌ هُناك، هُناك العَديد من الديدان، حسناً إلى الجنوب، أَخذوا بالصُراخ حتى إنَّ الضُّفدع كادَ يُصاب بِالصَمم. 

أخذَ الضُّفدع يَسأل أحد الإوز، ولاحظَ عليهِ بأنَّهُ الأَذكى بينَ الجميع. ما الجنوب؟ وعندما كانتْ الإوزة تُحدِّثه عن الجنوب، كانَ الضُّفدع مَسروراً جدّاً، إلّا أنّهُ وبسببِ حِرصِهِ أخذَ يَطرحُ العَديدَ من الأسئلة

– أيوجدُ هُنالك بَراغيش وبَعوض؟ 

– أااوه بحجم السَّحاب! هكذا أجابتهُ الإوزة. 

– كفااا! قالَ الضُّفدع، وأخذَ بالاستدارةِ ليَرى إنْ كانَ هُنالِكَ بَعض الأصدقاء الذين أمكَنَهُم سَماعه، وإِدانتِهِ بِالنقنقةِ في الخَريف. فهو لم يستطعْ أنْ يَكبِتَ نَفسَه لكي لا يُنقنق ولو مرّة واحِدة. 

-خذوني معكم!

-هذا عَجيب! تمتم الإوز، كيفَ سَنأخُذُك؟ فليس لكَ أَجنحة. 

– سألَ الضُّفدع: متى سَتطيرونَ؟ 

– قريباً.. قريباً، صرخَ الإوز جَميعاً، بعيداً بعيداً، هُنا الجوُ باردٌ، إلى الجَنوب.. إلى الجنوب. 

قالَ الضُّفدع: اسمحوا لي بخمسة دقائق فقط، وسأعودُ فَوراً، لَرُبَّما سَأفكِّرُ بطريقةٍ حَسنة. 

هُنا، نزلَ من الغُضنِ الّذي كانَ قد عادَ إليهِ مُجدَّداً، وقفزَ في الماءِ بِالكامل، لكي يستطيع التَّفكير من دُون مُؤثراتٍ خارجيّة. مرّت خمسة دقائق، وكانَ الإوز قد استعدَ للرحيل، وفجأةً ومن المَاء، حَولَ الغُصن، ذَلك الغُصن الّذي كانَ يَجلِسُ عليه، ظَهرتْ لديهِ فِكرة، فكرةٌ ساطعةٌ  لضُفدع. 

– لديّ فِكرة! وَجدتُها! -قالَ الضُّفدع- يَحمِلُ اثنان منكم في منقارهما غُصناً، وأنا سأتشبَّث به من وَسَطِهِ، والمَطلوبُ ألا تَصرخُوا وأنا لنْ أُنقنق، وكُلّ شَيءٍ سيكونُ جيداً. 

السكوتُ طَوال الطريق، وحَملُ الضُّفدع حتّى وإنْ كانَ خفيفُ الوَزنِ، لثلاثة الآلاف فَرسخ، اللهُ وَحدَهُ يَعلَمُ كيفَ سيكونُ ذَلك، لكنَّ ذَكاء الضُّفدع أعجبَ الإوز، لذلكَ قَرَّروا حَملَهُ، مع التبديل فيما بينهم كل سَاعتين، وبِما أنَّهُ كانَ هُنالك العَديد من الإوز، وحتّى لو كَانوا نِصف العَدد وهُو وَحده، فلن تكونَ صُعوبة في ذلك. 

وَجدوا غُصناً مَتيناً جَيّداً، أخذهُ اثنين في مِنقارهما، تشبَّثَ به الضُّفدع بِفَمه من وَسَطِه، وأخذوا بالارتفاع في الجوِّ، شعرَ الضُّفدع بالانقباضِ من الارتفاع المُخيف، وبالإضافة إلى ذَلك، فإنَّ الإوز طارَ بنحوٍ غَير مُتوازٍ. أَخذَ الضُّفدع المِسكين يَتدلى في الجوِّ كَورقةٍ، ويتشبَّثُ بالغُصنِ بكُلِّ قُوَّتِهَ حتّى لا يَسقُط عَلى الأَرض. سَريعاً ما بَدأ بالاعتيادِ على ذَلك، حتّى بَدأ بالنَّظرِ فيما حَولَهُ، ومن تَحتِهِ السُّهولُ والأَنهارُ والجِبال، بالرُّغمِ من صُعوبةِ النَّظرِ إليها نظرا لوَضعيته، ومع ذلك كانَ يَنظرُ باستمتاعٍ وفَخر. 

فَكَّرَ ’ها، ما أروعها من فكرةٍ ابتكرتها‘.

كانَ الإوز يَطيرُ خَلف الزَّوجين اللذين يَحملان الضُّفدع، وبدأوا بالصُّراخِ والثَناء على ذَلك. 

– ذَكاءٌ مُدهشٌ في رَأسِ ضُفدعِنَا، حتّى في وَسط الإوز، نَادرِاً ما نَجِدُ مثلَ ذَلك الذَّكاء. 

كان الضُّفدع يُريدُ أنْ يَردَ على ثَناءِهم، لكنْ تَذكَّر أنّهُ لا يَستطيع فَتحَ فَمه، وإلّا سقطَ على الأرض من ارتفاعٍ عَالٍ، فَتمسَّكَ بالغُصن بشكلٍ أَكبر وقرَّر أنْ يَصبر. كانَ يَتدلى بتلكَ الوَضعية طَوال اليوم، تبدَّلَ الإوز الّذي يَحمِلُه وهُو مُحلِّقٌ في السَّماء، والتقط الغُصنَ بِمهارةٍ، كانَ ذلك مُخيف جدّاً، وكادَ الضُّفدع يُنقنق من الخَوف، لكنْ لا بُدَّ من وُجود سُرعةٍ وحُضورِ بَديهةٍ، وقد كانَ للضفدعِ ذلك. في المَساء توقَّفَ كَامِلُ السرب في إحدى المُستنقعات، وفَجراً انطلقَوا من جَديد ومَعهُم الضُّفدع. غَيَّرَ الضُّفدع في هذه المَرّة وَضعيته ليرى بنحوٍ أَفضل، تشبَّث بظهرهِ ورَأسهِ للأَمام، وبَطنُهُ للخَلف، حَلَّقَ الإوز فوقَ القُرى والحُقول الصفراء وبَدأ من هُناك يَسمعُ أَصواتَ النَّاسِ وطَواحينَ الحُبوب، وبدأ النَّاسُ بالنَّظرِ إلى السرب وقد لاحظوا فيها شَيئاً غَريباً، وأشاروا إليها بأيديهم. كانَ الضُّفدع يُريدُ برغبة متّقدة أنْ يَطيرَ قَريباً من الأرضِ، ليُظهِرَ نفسَهُ ويَسمعَ ما يَتحدَّثُ النَّاس عنهُ. قَال بعدئذ في الاستراحة: 

– ألا يَجِبُ أنْ نُحلِّقَ بارتفاعٍ أَقل؟ فأَنا أَشعرُ بالدَّورانِ من الارتفاع، وأَخافُ أنْ أَسقُطَ، وَعَدَهُ بعض الإوز بالتَّحليق لمسافاتٍ أَقصر، في اليَوم التَالي حَلَّق الإوز في مسافةٍ أَقل، بدتْ الأصواتُ مَسموعةً جدّاً. 

– انظروا، انظروا -صَرخَ الأَولاد في إحدى القُرى- الإوز يَحمِلُ الضُّفدع. 

سَمِعَ الضُّفدع ذلك وبدأَ قَلبُهُ بِالخَفقان. 

– انظروا، انظروا -صَرخَ الكِبار من قَريَّةٍ أُخرى- يَا لَها مِن مُعجِزة! 

فَكَّر الضُّفدع ’أَيعلَمونَ أنَّها فِكرَتي، وليستْ فِكرَةُ الإوز؟‘. 

– انظروا، انظروا -صَرخَ النَّاسُ في القريّة الثَالِثة- مُعجِزَةٌ بَيّنةٌ وَاضِحة! من الّذي ابتكرَ مِثل هذه الحيلة المَاكِرة؟ 

هُنا لم يستطع الضُّفدع التَّحمُّل وقد نَسيَ كُلَّ احتياطاتِهِ وحِرصِهِ، وصَرخَ بِأَعلى صَوتِهِ: 

– هذا أنا، أنا!

بسببِ هذه الصَرخة، سَقَطَ الضُّفدع  عَلى الأرض، وصَرخَ الإوز بصوتٍ عَال، وأَرادَ وَاحِدٌ مِنهم اللّحاقَ بهِ لكنَّهُ لم يستطعْ الإمساكَ بهِ، وسرعانَ ما سَقَطَ الضُّفدع بأَرجُلِهِ المُتأرجِحة، وبسببِ الطَيران السريع للإوز، فلم يَسقُطْ الضُّفدع في ذات المَكان على الطَريق الصَّلب، فقد كانَ حَظُّهُ جيّداً فقد سَقطَ في مسافةٍ أَبعد، في مُستنقعٍ يقعُ في أَقْصَى القَريّة. 

سرعان ما خَرجَ من المُستنقعِ وبَدأ يَصرخُ بِأعلى صَوتِهِ: 

– هذا أَنا، هذا أنا، أنا مَنْ اِبتَكَرَ تِلك الفِكرة! 

لكنَّ الكُلَّ كانَ مُختبأ في المُستنقعِ، ولم يكنْ هُناك أحد، وعِندمَا بَدأتْ الضَّفادع بالظُهورِ تَدريجياً من المُستنقع، بَدأوا بِالنَّظرِ بِدهشةٍ إلى الزَائِرِ الجَديد. بَدأَ ضُفدعُنَا يُحدِّثُهم عن القِصةِ المُعجِزة، كَيفَ أنَّهُ فَكَّرَ طَوال حَياتِهِ، وأَخيراً اِبتَكَرَ فِكرة جَديدة، وهي السَّفَرُ مع الإوز، وكيفَ أنَّ الإوز كانَ يَحملهُ إلى حَيث يَشاء، وكيفَ أنَّهُ زَارَ الجَنوب الرائع، حيث المُستنقعات الدافِئة والمَملوءة بِالبَراغيش والبَعوض والحَشرات الصَالِحَة للأَكل. 

– قالَ جِئتُ إلى هُنا لكي أَنظرَ كَيفَ تَعيشونَ، سَأبقَى مَعَكُم حتّى الرَّبيع، حتى عَودة الإوز الذي تَركْتُهُ. 

لكنَّ الإوز لن يَعودَ أَبداً، ظَنّوا أنَّ الضُّفدعَ تَحطَّمَ، وتَأسَّفُوا كَثيراً لِذلك.

* فسيفولود ميخائيلوفيتش جارشين (1855-1888) كاتِبٌ من الإمبراطوريّة الرّوسيّة، وُلِدَ في مُقاطعة باخموت. كَتب  جارشين العَديد مِن القِصص والمقالات والقَصائد ونشرَ مَقالات عن الرسم. اخترنا تَرجمة هذه القِصة للكاتب بعنوان “الضُّفدعُ المُسافِر” وقد كَتبها سنة 1887م. وهي من كِتابٍ يَضمُّ مَجموعة قصصيّة للكاتب صَدرَ في لينينغراد سنة 1986م. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى