الشاهنامه؛ ملحمة ملوك فارس
اتحاد التاريخ والأسطورة
مؤمن الوزان
وأنا أقرأ الشاهنامه توارد إلى ذهني سؤال، سبق له الورود في أثناء قراءة ملاحم الإغريق والهنود، لمَ لا يُوجد لدى العرب ملحمة كملاحم هذه الأمم فلا الشعر ينقصنا ولا التاريخ ينقصنا ولا من يتولى مهمة كهذه قديما وحتى حديثا. فما السبب يا تُرى بعيدًا عن عدم شيوع شعر الملاحم عند قدماء الشعراء وفحوله؟ لعليّ باستقرائي الشاهنامه أقف على جواب.
الشاهنامه ملحمة شعرية حفظت سيرة ملوك فارس منذ فجر التاريخ بل وفجر الإنسانية، فهُم في الشاهنامه جرثومة البشرية ومادتها، ومنهم ظهر أول الملوك في الأرض “جيرموت” الذي خضعت له بأمر الله الجن والإنس، وتنتهي بنهاية ملك الساسانيين على يد المسلمين في الفتح الإسلامي لبلاد فارس بعد معركة القادسية المجيدة. لكن هذا التاريخ الذي تدونه الشاهنامه وتمر على ذكر أحداثه وملوكه وقوَّاده وأبطاله وموابذته دون التغاضي عن ذكر الأعداء- تاريخ يمتزج بالأسطورة والخيال حيث تضحى العوالم المتباينة واحدة، والمخلوقات المختلفة والمنفصلة الوجود ترعى في حقل واحد، فتُشكِّل الشاهنامه بطابعها الملحمي حتى تاريخ معيّن، ينتهي تقريبا مع ملوك الكيانيين وعلو نجم الإسكندر وسلطانه على أرض فارس، الذي يتكرها مملكة جذاذًا في حقبة ملوك وطوائف قبل أن يعيد الساسانيون وحدة مملكة الأجداد. فالتاريخ المعروض هو تاريخ الملوك والعالم الأرضي البشري وغير البشري على حد سواء، تاريخ العالم بأكمله، رؤية كونية تُمثل انطلاق صيرورة الإنسان في هذا الوجود، لذا فغياب التوثيق والتدوين يجعل من تاريخ الملوك مادة خصبة تنمو في حقل الخيال، فيتحول الملوك إلى آلهة أسطورية والمقاتلين الأشداء والشجعان إلى أبطال خارقين، فلا تبقى حدود فاصلة بين الحقيقة والخيال والممكن والمحال، لينتج عن هذا الاختلاط ملحمة تاريخية أسطورية في نصف متنها الشعري البالغ ستين ألف بيت تقريبا باللغة الفارسية، نظمها الشاعر الفارسي الفردوسي لسلطان دولته أبي القاسم محمود بن سبكتكين الغزنوي في القرن الرابع الهجري مكملا ما بدأ به الشاعر الدقيقي، الذي نظم ألف بيتٍ قبل أن تعاجله المنية.
إنَّ البراعة التي نُظمت بها الشاهنامه هي براعة الوقوف على هذه العوالم ودمجها، بدون أن يختلط موضوعها وتمتزج مادتها فيختفي قوامها وتضيع حبكتها، أو أن تجعل عالم الجن والمخلوقات الخرافية جزءًا متجذِّرًا فيها بل إضافة لا بد منها هنا، لتبقى محافظة على قالبها وجوهرها وتجانسهما على الرغم من احتضانها من عالم لا تنتمي إليه. ودُعمت هذه البراعة بالمادة التي احتيج إليها لنظم الملحمة وتدوين سيرة الملوك.
عَظُمت منزلة ملحمة الفرس العريقة حتى قيل عنها “إنها قرآن الفرس”، وتتربع بالتأثير والأهمية على قمة هرم الأدب الفارسي ودرة تاجه لما فيها من أساطير، وأصول حكايات شعبية، وخرافات، وأخبار أسلافهم، في نسيج التاريخ والأسطورة والتاريخ الأسطوري الغابر، فكان المحفوظ من كتب الملوك وتاريخهم وأمجاد ممالكهم رفدًا معينًا له، وما تُوورِث من حكايا أولئك الملوك وأخبارهم التي تحولت بمرور الزمن، وبتأثير الإضافة والنقص، إلى أساطير شكّلت معينًا لا ينضب يزوِّد التاريخ الأسطوري بما تحتاج إليه، ويشحذ لغته، ويحفِّز مخيِّلته، ويضبط ملحمته. فهل كان ممكنا بدون هذا التاريخ الأسطوري أن تتبرعم الملحمة شيئًا فشيئًا لتغدو شجرة عملاقة أصلها في الأرض وفرعها يعانق النجوم؟
إنَّ حياكة هذه السجادة الملحمية يستلزم خيوطًا من كلِّ الألوان والأنواع الضرورية حتى يُشرع بالعمل، ويجري على أصوله وينتهي كما خُطط للنتائج، رسمَ تاريخ الملوك المتوارث، كتابيًّا أو شفويًا، صورةَ الملوك وقادة جيوشهم وسط هذه السجادة الملحمية، وأكملت الأسطورة أيَّ فراغ في هذه الملحمة، وأضافت إليه اللمسات الفنيّة التي تجعل من هذه الصورة المركزية ذات طابع عجائبي فوق طبيعي وغرائبي متداخل بخوارق الطبيعة، فثمة حلف ما بين التاريخ والأسطورة اللذين في الوقت الذي ينفصلان عن بعضهما علنيًا يتحالفان سريًا في خلق تاريخ أسطوري، هو ثمرة هذا التزاوج الذي خلقه المِخيال الجمعي التطوري والتقادمي لسكان أرض فارس. ولا تكتمل السجادة الملحمية إلا بإكمال نسج المحيط الدائر حول هذه الصورة التي تستخرجها من العوالم الأخرى والمخلوقات غير البشرية، مستمدةً إياها من الخيال وإعمال الفكر والدين والخرافات وعجائب الدهر وصنائع الإنسان. وتتأتى من طول المدة التي تابعتها الشاهنامه حركيةٌ مستمرة تطوِّع الزمن في بداية الأمر لها إبطاءً أو إسراعًا، فما دام الملوك موجودين وأعداؤهم حاضرين فحركية الصراع مستمرة ورغبة النفوذ على الآخرين وحكمهم جارية دون توقف. لكن كلما تقدم الزمن، واقتربت حركية التاريخ إلى نقطة محددة، نقطة تطور الفكر والعقل البشري واقترانه بالحقيقي أكثر من المتخيَّل، بدأت تتفكك الأسطورة والتاريخ غير المؤكد، وتفقد بريقها وتتساقط القشور عن البذرة، وبتساقط هذه القشور تفقد الملحمة هي الأخرى قوتها الجاذبة والمتمثلة بالتاريخ الأسطوري فيطويهما الزمن، ويجعلهما محض ذكرى ويعود ليمسك زمام السلطة ويتحكم بالملحمة التي تتحول إلى تاريخ محض، وأخبار تتفق عليها الأمم المجاورة ودوَّنتها في كتبهم كما حدث مع سلالة الساسانيين الأخيرة.
نشهد تطورًا في سباق الخيال والحقيقة فبعد أن يتقدم الخيال ويحوز قصب السبق في الدورة الأولى، تتقدم الحقيقة لتحوز قصب السبق في الدورة الثانية، وهكذا نسجت الشاهنامه قوتها. فبدون التاريخ والأسطورة وابنهما التاريخ الأسطوري، لا يمكن لها أن تُنظم ولا أن تحوي ما حوته من قالب مُحكم الأطراف ورصين الشكل وتغيُّره يتطلب مزاوجات واندماجات خاصة في مواده التي يحويها.
وبالعودة إلى سؤالي هل نملك في تاريخنا العربي مقومات نظم ملحمة، ففي الوقت الذي تجاوزنا فيه أدب الملاحم، تبقى أي ملحمة وليدة وحديثة بحاجة إلى قرون من الزمن حتى تُثبت نفسها وقيمتها، ويكون أثرها في جيل إثر جيل واضحا وقيمتها التي تتعدى حدود الأدب جليّة، وتقتحم الحياة من كل جانب، لقد تجاوزتنا الملحمة القديمة لأسباب أهمها في رأيي أن العرب لم يعرفوا حكم الملوك ولم يعملوا به كما عرفه الإغريق والهنود والفرس وعملوا به، وما ظهر من ممالك وملوك عرب لم يحظوا كما حظي به الآخرون من اهتمام في المِخيال الجمعي، وتطوره بتقادم الزمن بالإضافة والحذف، في الأقل حتى وقتنا الحاضر الذي لا يكشف عن وجود مثل هذه الملحمة، وقد برز حكم العرب ونفوذهم مع بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) لكنه كان أقرب إلى خلافة وحكم إصلاحي لا يسبغ على الملوك تلك الإلوهية الملحمية في كثير من حِقَبه من أن يكون حكم ذا طابع دنيوي، إذ يلعب الدين عاملًا مهمًا في كونه قوة عُليا على الخليفة أو الحاكم -في الأقل نظريًا ولا يمكن أن يتمادى كثيرًا في تعديه لهذه الحدود، إذ المبرر الديني قد يُوجد ويلازم هذا التمادي بغض النظر عن شكله- وهذا الدور للدين لا يبدو بذات النسق في الإلياذة مثلا إذ تكون فيها الآلهة جزءًا من الصراع لا منفصلة عنه زمانًا ومكانًا، فالدين فيها أو تعاليم الآلهة ممزوجة بطفولة المعتقد والتفكير بعالم السماء وتصوِّر آلية عمله، وكذلك العمق الزمني الذي ستفقده الملحمة الشعرية الإسلامية إذ من ضرورات الملحمة أنها تحاكي حقبة غابرة متطورة يكون للحكاية جذورها التي اندمجت مع الفكر والخيال الشعبي وتداولتها الألسنة حول الأبطال الذي ينتصرون في المعارك لوحدهم، أو الملوك الذي هم نصف آلهة أو الممثل البشري في محفل الآلهة، أو النماذج التي تتحول بمرور الزمن إلى عبرة ومثل وحكاية وأسطورة بالشجاعة، فالملحمة هي ملحمة الأبطال والشجعان وهؤلاء الأبطال يلزم وجود عدو يستفزهم ويُخرج أفضل ما عندهم، تبدو هذه العناصر كلها غائبة في تاريخ العرب القديم الذي وصل إلينا وعرفناه.
تضم الشاهنامه طيفًا من المواضيع شملت أخبار الملوك والحروب والصراعات والأبطال وقصصهم والحب والشجاعة والمغامرة والامتثال للمقدس الديني والبشري، وأحاطت بأخبار الأمم الأخرى التي تداخلت مع فارس كالهنود والصينيين والتورانيين (الأتراك) والعرب والروم، وتداخلت فيها -لا سيما في الفصل الأول منها الخاص بملوك البيشدادية- أساطيرُ الأمم الأخرى كالهنود، وتشابه بعض أحداث ملوك الكيانيين مع الإلياذة كما في خلاف رستم والملك كيكاوس الذي يشابه خلاف آخيل وأجاممنون، ويتشابه الملكان كما تصفهما الملحمتان بالنزق وسرعة الغضب، كما يقف رستم نظيرًا لآخيل وهو لا يقل عنه أسطورية أو شجاعة أو تأثيرًا في سلسلة من حِقب حكم الملوك والحروب، وتخلق في بعض أحداثها تاريخًا خاصًا لا يمتُّ للحقيقة المتأكد منها كما في ربط نسب أعداء فارس أو من انتصروا عليهم مثل الإسكندر المقدوني إلى السلالة الفارسية والدماء الخسروانية فهي لا تمنح المجد لغير الفرس حتى عند الهزيمة، فلا بد أن يكون المنتصرُ عليهم منهم لا غريبًا عنهم. لذا فلا غرابة مما بلغته الشاهنامه من تأثير وأهمية لدى الفرس في تاريخهم الوسيط والحديث والمعاصر بعد نظم الفرودسي لها.
رستم بن زال
من بين كل شخصيات الشاهنامه يكاد لا يعلو على رستم أحدٌ ملكًا كان أو غير ذلك، فرستم بن زال، الذي امتدَّ عمره طويلا وعاصرَ ملوكًا متعددين وقاتل معهم حتى قُتل غدرًا، يُجسِّد ثمرة من ثمرات التاريخ الأسطوري فهو بمقام آخيل الإغريقي، إنَّه البطل الذي لا يُهزم، وحضوره في المعركة كافٍ لأن يكتب النصر لجيشه ويبثُّ الرعبَ في نفوس أعدائه. يكشف موقفه أمام كيكاوس وإسفنديار حقيقة بطل مهابته ومقامه يفوق مقام الملوك وإن امتثل لأوامرهم فهو امتثال المريد بإرادته لا امتثال المجبور على أمره. جعل منه هذا إضافة إلى الحكايات الأسطورية التي ترفد قصته نوع من البطل الشبيه الإله، ينتمي إلى عصر خاص بالأبطال الأسطوريين. تُشكّل الشجاعة والإقدام والرجولة والفحولة والقوة قوام هذا العصر، فلا تكاد تميّز بين رستم وآخيل وجلجامش وراما وأرجونا، مجموعة من الأبطال الذين لو تُبودلت مواقعهم في هذه الآداب لما اختلف شيئًا تقريبًا في الدور المنوط بهم، فصفاتهم تكاد تتطابق، وموقع تأثيرهم متشابه في الأشخاص والمحيط الذي يضمُّهم.
إنَّ وجود رستم أو من يعادله ضروري في كل ملحمة فلا بدَّ من وجود البطل الشجاع الذي يكون قطبًا قائمًا بنفسه يؤثر في الحبكة ويشكِّلها حضوره وغيابه، فهو المقاتل الذي تتأتى منه الانتصارات، وفي الشاهنامه انتصار الحق على البطل، والخير على الشر، والإنسان على الوحوش، والعدالة على الظلم، فهو أقرب ما يكون يدَ الإله يعادل بها موازين القوى في كل مرة يبدو أنَّ الشر قد غلب، أو ظهر واستحوذ، وحتى تلك الهزائم التي يُمنى بها الخير وجنده تكون إما في غيابه وإما في حضوره، لكنها جولة ليشعر فيها الشر أنَّه قد نال مراده فسرعان ما يتفاجئ بأنَّه قد أخطأ الظن، فالخير مع قائده الشجاع قد عاد مجددًا ليضربه وينتصر عليه. رستم بن زال مثالي في كل ما يقدمه ولعل حادثة وقعته مع ابنه سهراب وقتله إياه دون أن يعلم هي الحادثة التي تُثبت فيه بشريته بعد أن تعلو احتمالات لا بشريته. وغالبا ما نجد الموت علامة فارقة في الملاحم الشعرية، لا سيما موت الصديق القريب أو الابن الحبيب، فيحفِّز البطل للانتقام ويذكرنا بأنَّ هذا البطل يُمكن قهره، وهو في النهاية إنسان لا أكثر، وفي هذا رسالة إلى أن المستحيل والمآثر هي للإنسان وإن ارتسمت حوله الخوارق فإن جوهره ما زال ناقصًا، وأن لشجاعته ما يكسرها، فرستم بقتله سهراب ومعرفته أن ابنه يضعف ويبكي ويحزن، وآخيل حين يعلم بموت صديقه باتروكلوس ينهار في أحزانه التي تتلاطم ثم تقذف به إلى قمة الجنون والدموية سعيًا للانتقام، وجلجامش بعد موت أنكيدو يجد نفسه في سؤال معنى الحياة والموت. الموت هو نقطة ضعف البطل، لكن لا موته هو بل موت من يحب، وهنا يصبح الضعف هو الآخر. فمهما كان بطلا مقداما لا يُهزم -وهذا حق- وما من نقاط ضعف ذاتية فيه -وهذا ما تثبته الأحداث- فثمة سبيل إليه، سبيل إلى مس بشريته الضعيفة ونقصه الإنساني، سبيل يتمثل في الآخر الذي يكون أقل من البطل في كل شيء، فما قيمة الشجاعة والبطولة حين يعجز الإنسان عن الدفاع وحماية من يحبهم؟ هذا السؤالُ الذي يهزم رستمَ جوابُه، وينزل به من مقام البطل الخارق الشبيه بالإله إلى مقام البطل الإنسان الفاني المعتلج الصدر بالمشاعر والعاطفة تجاه من يُعنى بشأنهم.
حياة حافلة يعيشها رستم منذ ولادته من خاصرة أمه إلى موته بعد أن يغدر به أخوه شغاذ، مرورا ما بين البداية والنهاية بأحداث عديدة على صهوة حصانه الرخش، تجعل من رستم أهم من ملوك فارس، فمن دونه ما استطاع من عاصره من ملوك أن ينتصروا، فهو حجرة الزاوية في القصة، ومن دونه فلن تكون الشاهنامه قد منحت ما يستوجب أن يجعلها ملحمة الملوك والأبطال واتحاد التاريخ والأسطورة التي يقف رستم في واجهتها.
*
تُرجمت الشاهنامه في القرن السابع الهجري (ما بين سني 620 و621 هـ) على يد الفتح بن علي البُنداري الأصفهاني في دمشق وأهداها إلى الملك المعظّم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بعد أن لحق بالأخير الذي كافأه على ترجمته، وهي ترجمة ليست كاملة فقد طالها الحذف والاختصار وفقًا لما رأى البنداري أنَّه لا يخل بالملحمة، وقد بلغ عدد الأبيات التي ترجمها البنداري قرابة سبعة وثلاثين ألفًا من قرابة عدد الأبيات الأصلي الذي يتراوح ما بين الخمسين والستين ألفًا. تمتاز ترجمة البنداري بالعربية الرصينة والبليغة والبعد عن الجناس المتكلِّف أكثر من الجناس الذي تغلب عليه العفوية والتلقائية مع تنوع المفردات وثراء الألفاظ الجزلة، فهي ترجمة ذات لغة وأسلوب نثري يليق بملحمة، ويقول عن ترجمته: “فلذلك ما أقدم المملوك على نقل الكتاب غير نازل في عبارته إلى حضيض الإسفاف، ولا صاعد إلى ذروة التكلف والاعتساف، متنكبا عن تلفيق الأسجاع التي تستهجنها القرائح الصافية والأذهان الزاكية”. فلو قارنتها بترجمة أمين سلامة النثرية لمحلمتي الإلياذة والأوديسة الشعريتين فلا نكاد نجد شبهًا بين مستوى الترجمتين ولغتهما العربية فجزالة ورصانة البنداري اللغوية والأسلوبية في الترجمة تبزُّ ترجمة سلامة بزًّا، وحتى لو ألقينا مقارنة ما بينها وترجمة أحمد عتمان وآخرين معه للإلياذة، نتيقن بعدها أنَّ لغة الملاحم وترجمتها النثرية لا بد أن تكون كما فعل البنداري وأفضل وإلا فلا، فالترجمة للملاحم التراثية تستلزم لغة ملحميّة أيضًا، فملحمية اللغة وقوة الكلمات واختيار المناسب يخلق ملحمة جديدة بالترجمة ويغرسها في تربة اللغة المنقولة إليها، فإن غاب عنَّا تذوقها شعرًا فلن يغيب عنَّا التمتع بلغتها وجودة مفرداتها لتصبح الأحداث والقصص ذات قوام لغوي متراص ومتماسك وصلب يليق بالقصائد الملحمية وقيمتها الأدبية والإنسانية وتأثيرها في الأدب والإنسان.