السر

قصة قصيرة


حجم الخط-+=

وضع كتاب “أخرج العملاق الذي في داخلك” أمامه على الطاولة، يتأمله، يقلبه بين يديه، للكتابة مفعول السحر، شخص لم يره في حياته، استطاع أن يحدث هذا الانقلاب في فكره، من مجرد قراءة كتابه.

“لدي طاقات مهدرة، قدرات عقلية هائلة معطلة، إرادة نفسية لا تقهر، معزولة. من هذه اللحظة، سأكون الشخص الذي حلمت أن أكونه، سوف أحقق كل آمالي. سوف أكتب الأفكار في بطاقات صغيرة، ملونة، أعلقها على الجدار، حتى أراها كل يوم، هذه من نصائح الكتاب لإخراج العملاق الذي في داخلي”.

بجانب الكتاب قطعة كيك، وكوب قهوة بارد، صورهما بجواله، ثم رفع الصور على الإنستغرام وكتب تعليقا: شهد هذان أكبر تحول في حياتي، لقد دخلا التاريخ!
علق عنده أحدهم: من أي جهة دخلا التاريخ؟!
كافأه بحظر! يجب أن يعرف الأقزام أقدار العماليق!

يجول ببصره على الموجودين في المقهى، يا لهم من مساكين! لم يتعرفوا بعد على مكامن الطاقة دواخلهم! بائسون، روتينيون، لا يستعلمون عقولهم، لا يوجهون طاقاتهم النفسية نحو أهداف عليا.

لا بد أن يساعدهم في الخروج من حالة القصور الذاتي التي يعيشون فيها “زكاة العلم، نشره”، هكذا دائما ما يوصيه شيخ الحلقة، “العلم، كلما بذلته، زاد نصيبك منه” هذه نصيحة الثانية.

 نعم نعم، لا بد أن أساعد غيري، لكن هل أبذله للجميع؟ 

 حذره شيخه مرة من أن “يضع الدر في أعناق الخنازير”.
– “لا يوجد خنازير في منطقتنا”.
– “مجرد صورة تعبيرية، المعنى المقصود: لا تقدم المعلومة إلا لمن يستحق”.

سوف أحرم الأقزام من هذا السر.

دخل المقهى شاب، في معصمه الأيسر ساعة رولكس، حدجه بنظرته “يبدو أبله، معظم الأغنياء كذلك، لكنه قابل للتحسين، ملامح وجهه، تعكس ملامح تلميذ يسمع الكلام” هكذا تمتم.
ماذا لو علمته السر؟ سوف يكون أسطورة.
توقف قليلا، لكن لن أستطيع منافسته، سيتغلب التلميذ على أستاذه! قد نتساوى في قوة العملاق الذي في دواخلنا، لكن لديه المال، وأنا معدم.
نحن كمن نجري في سباق مسافته 1000 متر، وهو يتقدمني قبل البدء بـ200 متر.

هذا ليس عدلا، لن أعطيه السر، لا بد أن يكون لدي ميزتي التنافسية معه. يكفيه المال الذي لديه، لو كنت غنيا، لن أزعج عملاقي بالخروج من منطقة الراحة.
لاحظ فتاة جميلة تجلس في ركن المقهى “هل أقدم لها السر؟”.
قلبه ضعيف أمام الجمال، تخيل اندهاشها من اكتشاف قدراتها المهدرة، ستنظر له بعين الإعجاب.
بعدما سرح ذهنه قليلا مع الفتاة، تنبه، لديها جمالها، يكفيها في هذه الحياة، قدرات العملاق يجب أن توجه للفتيات القبيحات وذوات الدخل المحدود.

لن يقدم السر لأي أحد، هكذا توصل بعد تفكير، من لديه امتيازات في هذه الحياة، جمال أو مال، لن يعطيها إياه، من لا يحترم العلم سيحرمه أيضا من معرفة السر، الأدب قبل العلم.
لكن حتى الفئات التي تستحق أن يقدم لها السر، لن يقدمه لهم الآن، سوف يحتفظ به خمس سنوات أو عشرًا، حتى يحصل المجد والمال الذي يكفيه.

لا بد أن آخذ حظي من العسل، بلا منافسة.

خرج من المقهى، في طريقه نحو السيارة، رأى لوحة مكتوب عليها “الوعي، نقاش فلسفي”. ثمة بقربها عشرون كرسيا يشغلها شباب وفتيات.

“كم واحدا منهم لديه عملاق يحتاج إلى أن يخرج؟”.
– “هل تسمحون لي أن أنضم إليكم”.
– “بالتأكيد، مرحبا بك، علما أنه بقي القليل على نهاية الجلسة. تفضل، تفضل!”.
لم يكن في البداية حريصا على العنوان، غرضه من الجلسة السخرية منهم، ظنهم مجرد بُلُه، خمن أنهم لم يقرؤا كتاب “أخرج العملاق الذي بداخلك”

لكن مع مضي عدة دقائق، غير جلسته وأنصت باهتمام، أحاديثهم عميقة، لا سيما أحدهم إذ كان متدفق الحديث.
– “من هذا الذي يتحدث؟”.
– “طالب دكتوراه فلسفة في جامعة ألمانية، نسيت اسمها، إنه يقرأ الفلسفة بالألمانية”.

فغر فاه، حصيلته بالإنجليزية، لا تكاد تمكنه من طلب كوب قهوة، فكيف بهذا الذي يقرأ الفلسفة، أصعب شيء بالمعرفة، بالألمانية؟!
– “برامج تطوير الذات، أخرج العملاق من داخلك، هذه كلها، علوم زائفة! عندنا في الأكاديمية الألمانية يسمونها: سوالف الأمريكان هاهاها. تعتمد على خداع المتلقي، يظنها مبنية على أبحاث علمية، لكن الواقع أنها مجرد تلفيق بين العلم، ورغبات نفسية دفينة و…”.
صدمته هذه العبارة، زلزلت طموحاته، بعد أن شعر أنه اقترب من الحلم، أو كما يسميه السر، ها هو ذا ينهار بين يديه.
سأله أحدهم “ماذا تقترح لتحسين الوعي؟”.
– “استعمل عقلك! هذه وصية كَانت، أعظم الفلاسفة الألمان بل الأوروبيين في آخر 500 سنة”.
لم يستمع لبقية الحديث، ذهنه مشغول في محاولة تجاوز تصور أن سره، الذي حسبه مفتاحه نحو النجاح ليس إلا وهم.

بعد أن نهض المجتمعون، اقترب منه، وسأله:

– “إذا أردت كتبا أخرى، غير كتب كانت، لتحسين وعي، هل لديك مراجع؟”.

– “تحسن الألمانية؟”.
– “لا”.
– “أهم خطوة لزيادة الوعي تعلم الألمانية، لكن لا بأس، لا مشكلة بلا حل، وضعت في حسابي في الجودريدز، قائمة كتب تحت تصنيف “شغّل مخك!” كلها كتب بالعربية، لتحسين الوعي.
– “والأفلام، هل تعرف أفلاما جيدة، تحسن من الوعي؟”
– “نعم، عادة ما أضع اسم فيلم أو اثنين، مع كل مراجعة لكتاب في قائمة “شغل مخك”، من الممكن أن تفيدك”.

مضى في طريقه نحو السيارة.
– “لو سمحت، هذا الكتاب لك؟” وأشار نحو “أخرج العملاق الذي في داخلك؟”
– “نعم، أخذه ثم رماه في أقرب زبالة”.
لما ركب السيارة، فتح جواله، وبحث عن معهد يقدّم مبادئ اللغة الألمانية.

*

حمود الباهلي: قاص من السعودية. 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى