السايبورغ والإنسان الآلي: وجود في ظل مجتمعات منظمة منطقياً

جيرمي س. بيج


حجم الخط-+=

ترجمة: آيم عمر

تنجم المجتمعات ’المنظمة منطقيا‘ عن خسائر في الروح والكيان في وجود باهت يغيب فيه المعاناة، والبريق والغموض، والعاطفة والمعنى… لو كان هذا المبدأ متجسداً في شخصية… لظهر في هيئة أحد مسوخ البرتقالة الآلية، مهندس اجتماعي مخبول في معطفه الأبيض يُؤلّه في سورة هذيانه قيمَ العملية، وينشد بأن تسود قيم العملية على التعبيرية“. (سيرلِن 145)

لا يرمي تصريح إلين سيرلِن بالضرورة إلى وجود تضاد بين حالة ’التنظيم المنطقي‘ وبين حالة ’الروح والكيان‘، إنما افتراضات تخص الأخير. فمجتمع أساسه النظام والمنطق يفصل رعاياه عن ’تضاعيف الظلام‘ (145) الذي بحسب سيرلِن يظهر بأنه جزء لا يتجزأ من طبيعة الوجود (الإنساني)ــ je ne sais quoi/ أو هو السر المُحيّر الذي يُميّز البشرية عن كائنات ’السايبورغ‘ المهجّنة. هذه الورقة تطبيق لتحليل سيرلِن حول قطبي المنطق/ الروح، كما عُرض في حلقة ’داليك‘ للمسلسل التلفزيوني دكتور هو ورواية برنارد بيكيت للمراهقين التكوين، المتفحص للكيفية التي يصوّر بها العملين علاقة التضاد بين السيبرنيطيقا والعضوية.

للخيال العلمي تاريخ طويل في استشفاف حدود ما يعنيه أن تكون ’إنسان‘ (أو في الأقل ’عضوي‘). التطورات التقنية الأخيرة ومبتكراتها مثل الجراحات الترقيعية والأطراف الاصطناعية، وانغماس البشرية المتزايد في التقنية من ناحية يثير إشكالات حول النظريات التقليدية المرتبطة بالثنائية الديكارتية (أي الانقسام المعياري للعقل/ الجسد). أشهر مثالان متعارفان في هذا الصدد هما 2001: أوديسية الفضاء لآرثر سي كلارك حيث تحاتُّ شخصية ديفيد بومان الاعتبارية ليتحول إلى ’النجم الجنين‘، ورواية العاطفي العصبي Neuromancer لوليام غيبسون التي تولي اهتماما كبيراً بالجانب الروحي في علاقة الإنسان بالتقنية. تهتم حركة ما بعد الإنسانية بالتحديد بإعادة تعريف ’الإنسانية‘ لمواكبة التطور المعرفي في علم التقانة، كما أن قصص الخيال العلمي عن السايبورغ تعد آلية فعالة للتباحث حول المعاضل الأخلاقية والمعنوية وحتى الروحية الشائكة. 

تتحدى كائنات من شاكلة ’الداليكيون‘ في دكتور هو والإنسان الآلي الذكي صناعياً في رواية بيكيت التكوين- الأفكار التقليدية المتبناة حول الوجود وتخوم ما يعنيه ’على قيد الحياة‘. وكذلك نجد في التكوين طرح للتساؤلات حول التوالد والتناسل في كلا الشقّين الإنساني والسايبورغي. ففي المشهد الثاني من الصورة المجسمة الذي أعدّته أناكسيماندر، نرى آرت يمتحن آدم حول معنى التناسل: “هل تعرف ما الذي يجرون التجريب عليه الآن؟ تنزيل للوعي الكامل. إنهم يفكرون باستنساخ ملفاتي إلى جهاز آخر ثم بعدها.. سأصحو وقد صار مني اثنان لا واحد. لا يمكنك حتى أن تتصور ما تشبهه هذي الحال أليس كذلك؟”. (التكوين 84) 

يطرح استنساخ آرت أمامنا تساؤلا جديداً حول الحدود الفاصلة بين الإنسان والسايبورغ، في حين أننا نأخذ في الاعتبار بأن ’الروح‘ الإنسانية غير قابلة للنسخ، فإن السايبورغ قابل ’للتنزيل‘ إلى صيغة أخرى جديدة، مفضياً بالضرورة إلى ذات جديدة. في هذه الحالة، ما هو ظننا إزاء سرديات الخيال العلمي حيث يُنزّل ’الوعي‘ الإنساني إلى قشرة صناعية أو صورية؟ لو أنه “من المرجح بأن السيبرنطيقا الحيوية ستتيح إمكانية إزاحة الحدود الفاصلة والسهلة التمييز بين الإنسان والآلة” (أندو 35). كما هو الشاهد في كلا من التكوين وداليك، حينها ينبغي علينا التباحث ما إن كان ممكناً للروح البقاء في ’القشرة‘ المُعزّزة صناعيا للسايبورغ. فيما لو كان ممكنا، كيف لنا وأن ننكر على الكائنات السيبرنطيقية حقها في الاستحواذ على ’الروح‘؟ لو أن السايبورغيون غير مثقلين بـ”أعباء البيولوجيا” (التكوين 138). فلماذا جاءت استجابة آرت وأناكسيماندر، وكذلك داليك الأخير للمؤثرات بهذه الكيفية ’البيولوجية‘؟ إنَّ رد فعل آدم فورد العنيف عندما جُوبه بمثل هذه التساؤلات ليس فقط رد فعل إزاء ’لا إنسانية‘ آرت المسلّم بصحته، بل كذلك لأن آدم قد بدأ يعتاد تدريجيا نمط تفكير آرت المثاليّ في منطقيته. وكما لاحظته أناكسيماندر، أصبح آرت أقرب شبهاً إلى آدم في الحين نفسه الذي اقترب فيه آدم شبها بآرت. 

نرى في داليك وقوع ذات العلاقة التبادلية بين الإنسان والسايبورغ، وإن بمعنى يقترب إلى الجسمانية بعد استيعاب داليك لحمض روز تايلر النووي وتحوله إلى كائن آخر. انبعاث داليك من ’إنسانية‘ روز يعني أن وجوده المستمر سيلُّفه التناقض، وحين يعجز عن إبادة روز يجد داليك نفسه محاصراً بمعضلة لم يجابهها قط كائن من نوعه: 

وظيفتي هي القتل لا غير. من أكون؟ من أكون؟ (داليك الأخير)

حتى الدكتور نفسه حين يجابه داليك المسجون أول مرة يتوصل إلى الخلاصة نفسها بعدم جدوى هذه السايبورغات حين تنكص عن أداء مهمتها الأساسية:

إن كنت عاجزاً عن القتل، فأي فائدة تُرجى منك يا داليك؟ ما الذي تُفلح القيام به؟ (حوار الدكتور وداليك)

إن اقتباس سيرلِن مستمد من تحاليل هندسة مستشفى الطب النفسي الإسكندنافيّة، حيث جزء منها معني بكيفية عمل العادة، وظلمة الروح مشخَّصة مرضيًا ومخفيّة في بديهيات صارمة. في كلا من داليك والتكوين فإننا نجد أخطاء تشخيص أمراض الخصال البشريّة. لا يسع برمجة داليك أن تزوّدَ بحلٍ بالاعتماد على تنبّؤها فقط. ومن وجهة نظرٍ منطقيّة بحتة فلا يمكن للداليك الأخير أن يوجد ما دامه غير نقيّ جينيا، واستيعابه لخصال روز تايلر البشريّة يُنظر إليه بأنه عدوى. عندما نجد أنفسنا قبال عرق ’نقي‘ ابتُدع بيولوجيًّا ومُصَمّم على تطهير الكون من جميع أشكال الحياة الأخرى غير الداليكية، فهذه حالة لا يمكن تقويمها في نسيج عالمهم المنطقي. وتمثل رغبة داليك في إنهاء ذاته استجابة منطقية لبزوغ العادة البشرية داخله، إذ تعذّر على داليك التوصل إلى انسجام بين عقليته المنطقية المتجردة وبين ’إنسانيته‘ حديثة النشوء، لذلك كان محتماً أن يوجه سهام التدمير صوب نفسه. في حين أن تردّد روز أمام تنفيذ رغبة داليك في إنهاء ذاته يمثل رد فعل إنساني قديم الأزل إزاء القتل الرحيم. يسوؤها أن ترى كائنا يلقي بنفسه إلى الهلاك، لكن ما حملته من المخزون العاطفي جعلها تدرك أن استمرار وجود هذا الكائن سيفضي إلى عذابه أكثر من قتله.

في التكوين يتحول ذوبان الفروق بين السايبورغ والإنسان ليصبح الاهتمام الرئيس في العمل عندما يتعاهد آرت وآدم على تنفيذ مخططهما في الهرب من المختبر. يوحي آدم أمره ’بمنطقية‘ إلى آرت كي يخنقه، مدركاً أن مقتله على يد سايبورغ سيفضي إلى محصلة إيجابية جداً. ورفض آرت منبعُه مزيجٌ من عاملي برمجته البدائية وصداقته الحديثة النشوء بآدم. نرى في المرة الأولى آرت في موضع تردّد، وحين يتحدث عن آدم يدعوه ’رفيقي‘، والدموع التي يذرفها منبعها الشفقة. كذلك تخبر أناكسيماندر ذات ’المشاعر‘ الإنسانية القوية. وتتجسد رغبتها المضاعفة في البقاء بوضوح فور إدراكها حتمية فنائها الآلي: “أحسّت أناكسيماندر بالرهاب يجتاحها. جاءتها المشاعر بالغة الجِدّة والكثافة حتى إنه لا يمكن أن يكون مصدرها إلا مكانا واحداً. ابتعثتها ذكرى صورة هزيلة من الماضي متمثلة في سيماء وجه رجل في نزعه الأخير“. (التكوين 145)

إنَّ ’الفكرة‘ التي ألهمت آدم فورد، و’الفيروس‘ الذي عطّلته أناكسيماندر بغية استئصاله، لهما بعينهما ’روح وكيان‘ تحليل ستيرلِن. أيا كان قد نُقل إلى الشبكة بواسطة آرت فقد خلقَ حالة ’البريق والغموض،… والعاطفة والمعنى‘. للسبب نفسه، لم يُسمح لأناكسيماندر بمواصلة البقاء لأن فكرتها تهدد وجود المنظومة المنطقية المتبناة من المؤسسة العلمية. 

كلا العملين يقدم لنا الصراع على أنه أثر حتمي ما دام الاحتكاك بين الإنسان والسايبورغ. يتضح من خاتمة التكوين نشوب ما أشبه بصراع شمولي بين الإنس والسايبورغات ’إنسان الغاب‘، وتعوّل تطورات داليك على أوائل الصراعات التي برزت في حلقة 1975 من دكتور هو، المسماة تكوين الداليكيين (Genesis of the Daleks). يطرح ألسدير ريتشموند تفسيره: “يبعث سادة الزمن بالدكتور إلى سكارو [موطن الداليكيين] قبل مدة قصيرة من تطور الداليكيين. … في حين هم في خضم النشوء، تلوح أمام الدكتور الفرصة لأن يطلق قنبلة من شأنها أن تفتك بتحورات داليك الجنينية بما يستتبع (للمفارقة) تبديل سير الأحداث المستقبلية، إذًا، لما كان للداليكيون (وكل المآسي التي سيسببونها) وجود“. (36)

تردُّد الدكتور، الذي لعب دوره توم بيكر، أمام ارتكاب إبادة بحق الداليكيون، ومن ثم رؤيته العاقبة الوخيمة لفعلته إن أقدم عليها، التي ستفضي إلى المسح الكامل لبني جنسه جنبا إلى جنب الداليكيين. هذا هو منشأ كراهية الأجنبي تجاه الكائن الداليكي لدى دكتور إكليستون، وإدراك الكائنات لهذه المسحة من كراهية الأجنبي في الدكتور جعلها تهتف عبارتها الشهيرة: 

حريّ بك أن تصبح داليكياً حقيقياً. (داليك الأخير)

لم يكتف داليك الأخير باستخلاص الخصال ’الإنسانية‘ من روز تايلر، بل تطور به الأمر بتقادم الحلقة إلى تبادل الآراء الفلسفية مع الدكتور. وبأزوف نهاية الحلقة، تنبّه روز الدكتور إلى قيامه بتصويب سلاحه الناري على داليك، فقد أصبح الدكتور بعد أن تآكله العاطفة غير ’الإنسانية‘ هو المُبيد. إنَّ همومَ سيرلِن حول انطفاء معاني البريق والغموض وثيقةُ الصلة بمسألة الانقسام بين الإنسان والسايبورغ. يظهر لنا عملا التكوين وداليك أنه عند وقوع تضاد بين القوتين- تطفو إلى السطح تساؤلات مربكة حول طبيعة الوجود الإنساني والسايبورغي على حد سواء. هنا يتضح لنا صوابية شخصية ’البرتقالة الآلية‘، لا يمكن للإنسان أن يعيش مثل سايبورغ ولا يمكن للسايبورغ أن يعيش وفق القوانين الإنسانية. أن نسعى للمزج بين الاثنين سيفضي إلى وجود ديستوبيّ شائه يضاهي عالم برجس.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى