الديكاميرون – بوكاشيو
كتاب الأمير جاليوتو

مؤمن الوزان
حكايات الديكاميرون واحدة من أهم الأعمال الأدبية النثرية الكلاسيكية في عصر النهضة والأهم في إيطاليا، ألَّفها الأديب جيوفاني بوكاشيو ما بين سني 1350-1353 قبل أن يعود إلى تنقيحها في أواخر حياته، وتوافيه المنيّة في عام 1375 بعمرِ الثانية والستين في بلدة سيرتالدو ضمن فلورنسا حيث وُلد عام 1313 ابنًا غير شرعي للمصرفي بوكاشيو دي تشيلينو. انتقلَ بوكاشيو الصبي مع والده وزوجته مارغريتا دي ماردولي إلى نابولي في عام 1327. تلقَّى بوكاشيو تعليمه في نابولي وتأثر بالكثير من الأدباء مثل دانتي فأطلق عليه “مرشدي الأول” وعكفَ على دراسته كتابه “الكوميديا” وهو أول من أضاف عليه صفة “الإلهية“، وحظي بامتيازاتٍ أوصلته إلى بلاط ملك نابولي، روبرت الحكيم. كان للوباء الذي اجتاح أوروبا في عام 1348 أثره في حياة بوكاشيو إذ مات بسببه والده فعاد إلى فلورنسا متمتعًا بحياة الثراء والدعة وتحوَّل منزله إلى مَجمْعٍ للقاء الأدباء والعلماء وجمعته علاقة صداقة متينة مع الشاعر فرانشيسكو بيترارك، وإثر هذا الوباء بدأ بوكاشيو بكتابة أفضل أعماله الديكاميرون، وهو اسم مكوَّن من لفظين لاتينيين معناهما “عشرة أيام” دلالة على الأيام العشرة التي تُروى فيها حكاياته. استمرَّ بوكاشيو في الكتابة الأدبية شعرًا ونثرًا وتقلَّد مناصبَ إدارية وبرلمانية في مدينته فلورنسا. وكان لوفاة الشاعر بيترارك أثر كبير فيه وأسي عليه وألهمته وفاة صديقه كتابة واحد من آخر أعماله، وهي قصيدة غنائية. عانى بوكاشيو في آخر أيام حياته المرضَ وتُوفي في أواخر عام 1375 بعد سنوات متقلِّبة ومريرة، اضطربت فيها حياته وكان على وشك إحراق كتبه ومخطوطاته ومكتبه والفضل لبيترارك في ثنيه عن هذا الفعل الجسيم، ودُفن في بلدة سيرتالدو ومنها لُقِّب بـ السيرتالدويّ.
بوكاشيو واحد من أبرز الأدباء الإيطاليين والأوروبيين في القرن الرابع عشر ميلادي، تأثر بدانتي وأدبه وأثَّر في أدباء لاحقين من أبرزهم الإنجليزي جيوفري تشوسر الذي اقتفى أثره في كتابة حكايات كانتربيري والفرنسية مارغريتا نافارا في كتابة حكايات Heptaméron، وقد وضع كتابه الديكاميرون أسس الحكايات في الأدب الأوروبي وما زالت أعماله تُقرأ وتترجم حتى يومنا الحاضر نظرًا لموضوعاتها المختلفة التي تتعامل مع الإنسان بعيدًا عن الخيال والعجائبية، وهو بفضل هذه القصص وأعماله الأخرى، التي تعاملت مع النفس البشرية وتبيين حدودها وإمكانياتها وطبيعتها، من مُبشري مذهب الإنسانوية في أوروبا.
الديكاميرون
يضرب الطاعون مدينة فلورنسا في عام 1348 فيقضي على كثير من أهلها، فيهرب منها بعضهم فرارًا من الموت، فتجمتع سبع فتيات وثلاثة شبَّان في كنيسة سانت ماريا وباقتراح من الشخصية، سمَّاها بوكاشيو “بامبينيا“، يذهبون إلى الريف لقضاء بعض الوقت والترويح عن النفس والتمتَّع بجمال الطبيعة وتنفُّسِ الصعداء بعيدًا عن الطاعون وتشير عليهم بامبينيا أن يختاروا لهم كل يومٍ ملكًا يُنظِّم شؤونهم وكيف سيقضون وقتهم في الريف ويكون عليهم طاعة الملك المختار. أمرت الملكة المختارة، بامبينيا، أن يروي كل واحد منهم حكاية يوميًا وهكذا ابتدأت حكايات الديكاميرون المئة في عشرة أيام من أيام رحلة الراحة في الريف الخمسة عشر.
تتنوعُ مواضيع الحكايات ما بين المأساة والملهاة، والأخلاق والإباحية، والحضُ على المكارم ومدح الرذائل، ونقد الفساد الديني في الكنيسة ورجالاتها، والفرح والحزن، والذكاء والحمق، والحب والزواج الخيانة الزوجية، ومكر الرجال وحيل النساء، والاحتكاك ما بين العالمين الإسلامي والمسيحي. تُقدَّم كل هذه المواضيع في قالب من الحكايات القصيرة والطويلة على حدٍ سواء، وهي تُعنى بالإنسان وهمومه وأخلاقياته وطبيعته وقدراته ولا تضم إلا نادرًا غرائبيات وخيالات غير واقعية، وبذلك تُحدد موضوعها الإنسان لا غير. هذا الطيف من الموضوعات المرتبطة بالإنسان بمختلف أحواله ومناصبه ونوعه وسنِّه يجعل من الحكايات ذات زمن قراءة مفتوح ومُخاطب عام غير موجَّهة إلى قارئ محددٍ دون سواه (وإن كان خصصها بوكاشيو إلى النساء دون سواهن وهذا ما سأبيَّنه في قادم السطور).
مما يُلاحظ في الديكاميرون جليًّا لا سيما للقارئ العربي هو تأثره بنحوٍ مباشر أو غير مباشر بالحكايات العربية، وإن انعدم التأثر فقد سبقه إلى ذلك العرب في تدوينهم الحكايات ذات مواضيع مماثلة أو مشابهة تقريبا، وشمل التأثر الجانبين الفنيّ والموضوعي. سيلمس القارئ العربي كثيرًا مواضيع قصص ألف ليلة وليلة والحكايات في أخبار العرب القديمة، وأسلوب الحكاية الإطارية التي ظهرت بوضوحٍ تامٍ بفنيّة معروفة الدور والغاية سلفًا في “كليلة ودمنة“. لا يمتاز كتاب الديكاميرون من ناحية الموضوع بما يميِّزه خاصة دون سواه في العموم وينحصر تميُّزه الموضوعي تقريبًا في نقد رجال الكنيسة وفسادهم، وهو موضوع خاص بأوروبا المسيحية وتضفي الكنيسة ميزة أوروبية الحكايات وسوى ذلك فقليلا ما نلمس التميُّز الباهر لهذه الحكايات، بيد أنها بهذا الشكل الذي كُتبت فيه مميزة في الأدب الأوروبي لأنها من الحكايات النثرية الأولى، وهذا ما يُعيطها مكانتها الخاصة في الأدب الأوروبي، لكنها في ذات الوقت ليست جديدًا إبداعيًا كاملًا لم يُسبق إليه، وسيجد القارئ العربي ما يغنيه عنها تقريبًا في موضوع حكاياتها في الأعمال العربية القصصية التراثية بالأخص ألف ليلة وليلة. أما الجانب الفني فإن التأثر بالحكاية الإطارية بالوظيفة الفنيّة المتعارف عليها فقد سبقه بها العرب كذلك واستخدموها، وما عمل بوكاشيو إلا استمرار لما أبدعه العرب في نظم الحكايات والقصص في سلك الحكاية الإطارية، لكن بوكاشيو أضاف لحكايته الإطارية سماتٍ خاصة ومزيَّات، ويتجلَّى إبداع بوكاشيو الفني في كتابه أكثر من إبداعه الموضوعي، وأبدى أراءً نقديّة لافتة في كلمتيه الافتتاحية والختامية.
تبرزُ أهم خصلة في الديكاميرون في غايتها التربويّة والتوجيهية والتعليمية والتقويمية بيد أنها لا تسلك طريقًا واحدًا خيرًا أو شرًا، صالحًا أو طالحًا، فهي تتعامل مع أناسٍ بأخلاقيات ومعارف مختلفة ومتباينة فنجدُ بعض الحكايات تحضُّ على الوفاء والحُسنى بين الأزاوج وأخرى تمدح الخيانة والرذيلة والزنا، ولا يكمُن موضوع الخيانة الزوجية وشهوات المرأة كما يبدو ظاهرًا في غاية إفسادية أو دفاعٍ عن الرذيلة وحضٍّ عليها أكثر من أنها تُشير إلى موضوع بالغ الدقة والحساسية في تجاهل رغبات النساء وعدم التعامل مع حاجتهن الجسديّة التعامل الصحيح ففي الأخير تبقى للجسد رغباته، ويأخذ بوكاشيو أمثلة في حكاياته من الراهبات ليكشف للقارئ أن لبس المسوح والتبتُّل والانعزال والدعاء والصلوات لن تسلب المرأة رغبات جسدها، وفي ذات الوقت يشمل الأمر رجال الكنيسة فإن ما فرضوه على أنفسهم ومحاولاتهم في كبت حاجات أجسادهم غالبا ما تنتهي بالفشل لأن ما يقومون به مخالف لطبيعتهم الجسدية التي تُلزم عليهم إشباعها عند الحاجة. هذا أحد الجوانب التعليمية والتقويمية في الحكايات، والتركيز عليه من بوكاشيو يُعطي الحكايات جوًا من الإباحية والمجون قد يحرف بوصلتها بعض الشيء عن غاياتها لكن في الوقت نفسه فإن هذا لا ينفي لا أخلاقية بعض القصص ومجونها وفسادها في الدفاع عن الرذيلة وعشيق الزوج وبالأخص عشيق الزوجة لأن النساء هن المخاطب الرئيس في هذه الحكايات، لكنه دافع عن ذلك في كلمته الختامية موضِّحًا أن بعض القصص لا يمكن أن تكتب إلا بهذا الوضوح والألفاظ وإلا اختلَّت. ويحظى موضوع الحبِّ بحكايات كثيرة ما بين حكايات بنهايات سعيدة أو حزينة في تهذيب لنفوس القرَّاء بالحب وأخبار المحبين وملذَّاتهم وحظهم العاثر، فبالحب تتأدب النفس وبأخباره تهفو القلوب إلى تذوق حلاوته وارتشاف شرابه العذِب، وفي الحب أيضًا فإن المخاطب الأول في هذه الحكايات هي النساء على غرار بقية الحكايات وأقول إنها المخاطب الأول فهذا ما يقرُّ بوكاشيو ويؤكده في كتابه.
الحكايات واجهة الحياة
حين يهرب الشبَّان والفتيات العشرة بعيدًا عن الموت طالبين الحياة والنجاة والتسرية عن النفس في الريف في منأى عن الطاعون الذي اجتاح مدينتهم، لا يجدون متعة رئيسة يتفقون عليها سوى قضاء الوقت بما يُذكِّرهم بذواتهم وطبيعتها البشرية وسماتها وخصائصها ونوازعها ورغباتها وخيرها وشرها وصلاحها وفسادها، أن يُذكِّرهم من هم حقًا في هذه الحياة. تجلَّى ذلك في موافقتهم على مقترح رواية الحكايات متبادلين بها خبراتِ الحياة وتجاربها وأفراحها وأتراحها، وما مواضيع حكاياتهم إلا تأكيد استمرارية الحياة في مواجهة الموت أو الابتعاد عنه جسديًا وعقليًا برواية أخبار الناس في أحوال مختلفة عبر الزمان. إنَّ الحكي جزء من الطبيعة البشرية ووسيلة التواصل فيما بينهم ولا يمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال لا سيما وأنه مرتبط باللغة، وهي أداة التواصل البشرية التي تجمع وتفرِّق وتقرِّب وتُبعد، ولا يمكن لأي جماعة أن تكون جماعة واحدة دون لغة مشتركة توحِّدها، فإذا ما تحققت الوحدة فيما بينها أضحت الحكاية أداة جديدة بفضل اللغة في مد الأواصر وتوثيق الروابط بينهم. نرى ذلك جليًا في شبَّان بوكاشيو وفتياته الذين لجأوا إلى رواية حكايات لا غنى لهم عنها ولا بدٌّ لهم منها، فشكَّلتْ صورةَ الحياة التي بعثرها الموت الأسود، وأعادت الألوان الزاهية إلى عالمٍ خفتت أنواره، وأحيت الآمال لقادم الأيام بالحكايات، فهم لا يروونها لتمضية الوقت بل لإحياء ما مات وإبقاء الكائن فيهم حيًّا فالإنسان في آخر المطاف يحيا ويتقوَّى بالأمل، وإذا ما قنُطَ ويئسَ تبددت رغبة الحياة من داخله ومات قبل أجله، وهذا ما لم يرغب فيه الأبطال العشرة لأن الجذوة في داخلهم مشتعلة وزادوها بالتصبُّر والتذكُّر والحكايات. تبرزُ لنا قيمة الحكاية هنا واجهة للحياة فهم لا يهربون من عدو بشري، كما كانت شهرزاد وشخصياتها يفرُّون من الموت بالقصص، بل يهربون من عدو لا يُقهر وما يُشيعه من رعب وخوف كفيل بأن يُطفئ جذوة الحياة في النفوس، فانتصبت الحكاية درعًا في وجهه وحفظت الواقفين خلفها من الاستسلام للموت الجائح بأخبار الحياة بكل تفاصيلها الغريبة والمآلوفة، المعتادة والنادرة، المُبهجة والمُكدرة، الخيِّرة والشريرة، المُفرحة والمُحزنة، ومُشيرة إلى بصيص الأمل الذي يبعثُ في النفوس المقاومة والاستمرارية ويدعوهم إلى مواصلة الكفاح في هذه الحياة دون الخضوع والانكسار والتوقف عن مزاولة العيش تحت وطأة تقلبات الزمان. لا تختلف غاية بوكاشيو في تدوينه حكاياته عن غاية شخصياته في روايتها، فهو يكتب ليواسي ويروِّح عن قارئاته اللائي لا يجدن مهربًا من لواعج النفس ورغباتها مع ضيق الحال وعجز المقدرة وهم يروون ليتصبَّروا ويتذكَّروا دون الوقوع في شَرَك القنوط والهزيمة وانطفاء مشعلِ الأمل الذي يُنير لهم الدرب. وكلا الفريقين راغبٌ في مدِّ يد المعونة لنفسه أو للآخر ليواصل ويتجاوز الحواجز ويتغلب على العقبات بالحكاية، وهي تنقل الإنسان من ضيق الواقع إلى سعة الخيال ومن مرارة الحياة المعاشة إلى حلاوة الحياة القادمة لكنها لا تُخدِّر ولا تربت على كتفٍ منهار ليبقى في موضعه لأن وظيفتها تكمن في المحافظة على الذات حيّة بإسماعها ما يُنسيها واقعها وتستنهضُها لتغييره إلى الأفضل أو في الأقل ألا تنكسر حين تجتاحها أهوالها ومصائبها ومصاعبها.
بوكاشيو والقارئ
إنَّ القارئ والمخاطب الأول والرئيس عند بوكاشيو هي المرأة لا سواها، ويكمن فيها غاية كتابته لهذه الحكايات التي عدَّها مواساة للمنكوبين ويكتب في كلمته الافتتاحية: “ورغم مساعدتي هذه، أو بالأحرى ينبغي أن أقول تعزيتي، قد لا تكون كافية لمواساة المنكوبين فذلك لا يمنعني تقديمي لها لأنهم في حاجة ماسة إليها، فسيستفيدون منها وستنال إعجابهم. فمن يُنكر أن النساء يحتجن إلى مثل هذه التعزية، مهما كان حجمها، أكثر من الرجال؟ ففي صدورهن الرقيقة تكمن نار الحب المتأججة التي لا يُظهرنها لدواعي الخوف والخجل، ويعرف ذلك جيدًا من له خبرة بالنساء. فهن أسيرات دائما لرغبات وتوجيهات الآباء والأمهات، والأخوة والأزواج، ويقضين معظم الوقت بين جدران غُرفهن الضيقة يجلسن في خمول، وتجول في عقولهن أفكارٌ كثيرة فتروق لهن فكرة معينة ثم يرفضنها في الوقت نفسه. وإذا ما كان باعث هذه الأفكار هي شهواتهن العارمة، فإنهن يظللن في حزن دائم ما لم يبتعدن بتفكيرهن في أشياء أخرى. وهن علاوة على ذلك، أضعف بكثير من الرجال على التحمُّل، فالعشاق من الرجال لا يحدث معهم مثل هذه الأشياء، كما يُمكننا أن نرى بوضوح فلو جالت بعقولهم أفكار مبعثها الشهوة الجامحة فإن لديهم العديد من الوسائل التي قد تُخفف عنهم وتنسيهم هذه الأفكار كالتنزه ورحلات الصيد في البر والبحر وركوب الخيل واللعب، والقيام بمشاريع تجارية. وبكل وسيلة من هذه الوسائل يستطيع الرجل أن يجدد روحه ولو جزئيًا، وأن يصرف عنه مشاعر الضيق ولو لبعض الوقت… فإنني أقدم يد العون والمساعدة لأولئك اللواتي يُعانين من آلام الحب، أما الأخريات ممن وجدن سلواهن في أعمال الحكاية والتطريز فسأحكي لهن مئة قصة أو أسطورة أو حكمة أو رواية…”.
يتضح لنا جليًّا غاية بوكاشيو الأولى في الكتابة وهي التسلية والمواساة وتزجية الوقت لقارئاته لأنَّ واقعهن الحياتي والاجتماعي يفرضُ عليهن قيودًا وحواجزَ عكس الرجال الذين يتمتعون بمتَّسع من الحرية يفوق ما يملكنه وفي مقدورهم النأي عما يُضيُّق صدورهم ويُكدرها ويروِّحوا عن أنفسهم، في حين لا تحظى النساء بذلك وتكون القراءة هي المواساة، أو التعزية بالأحرى كما يقول بوكاشيو، للتخفيف عنهن من وطأة الحياة وجموح الرغبات ويجدن في هذه الحكايات مُتعًا نفسيّة ومُعالجًا شخصيًا بين دفتي الكتاب. لم يتوقف اهتمام بوكاشيو بالنساء فحتى شخصياته الأنثوية يختار لهن أسماءً وهمية لكيلا يُساءُ إليهنَّ بأي شكلٍ من الأشكال لا سيما وأنهن يخرجن من فلورنسا إلى قرية مع ثلاثة شُبَّان غرباء.
لا ينحصر دور بوكاشيو ومخاطبته القارئ عند هذا الحد فيردُّ في كلمته الختامية على عدَّة نقاط قد تُستثار ضد حكاياته ومنها ما أشرتُ إليه حول أخلاقيات الحكايات وغاياتها الإنسانية المحمودة أو المذمومة. يدافع بوكاشيو عن حكاياته ومواضيعها لأنه يرى أنَّ هذه الحكايات ستختلُّ إن لم تُكتب على هذا النحو واللغة وليس ذنبه أن تُفهم هذه الحكايات فهمًا سقيمًا يُفهم منه أنه يريد هذا الأمر أو ذاك، وإن وجبَ لومُ أحدٍ فلا بد أن يقع على من يحرف دلالات بعض الكلمات المستخدمة ويقصدُ بها معانيَ قبيحة فيجعلها كنايةً عن ألفاظٍ غير لائقة. ويردُّ على من سيتنقد طول الحكايات: “وأظن أن هناك من سيقول إنَّ من بين هذه القصص قصصٌ طويلةٌ جدًا، وهنا أقول لهم إن من لديه عمل آخر ليقوم به فليقم به، فلا يقم بحماقة إضاعة وقته وقراءتها حتى إن كانت قصيرة وموجزة. وعلى الرغم من الوقت الطويل الذي مضى منذ وقت البدء بكتابتها وحتى الوقت الذي أصل فيه إلى نهاية مجهودي وتعبي الشاق فقد ظلت بداخلي فكرة أن أكتب هذه الروايات لمن لا يقوم بعمل لا لسواهم. فمن يقرأ ليُمضي الوقت لا يشعر بطوله ما دام هذا ينفعه فيما يهدف إليه من تسلية وانقضاء الوقت. والأمور الموجزة تفيد الطلاب –فهم مضطرون لاستغلال كل الوقت وليس إهداره– وليس لكن أيتها النساء الفضليات فإن الوقت الذي لا تقضينه في الغراميات هو وقت إضافي. علاوة على ذلك فلا توجد بينكن من تذهب إلى الدراسة وطلب العلم في أثينا أو بولونيا أو باريس مثلا، ولذلك فإن الحديث الممتد معكن مناسب أكثر من التحدث مع من هم مشغولون بالدراسة“.
هنا أيضًا يضع النساء في الواجهة مُشيرًا إلى حالة اجتماعية تفرِّق بين الرجال والنساء في طلب العلم والارتحال لتلقِّيه في المدن البعيدة ومن كلمتيه الافتتاحية والختامية يتجلَّى لي بوكاشيو أول قائل، وصلت إليه، بأن قراءة الروايات شأنٌ نسائي ومنزليّ بالمقام الأول ثم شأنُ مَن لا عمل له. ومع هذا الإقرار وجّه حكاياته في الديكاميرون للنساء لأنه ليس لديهن ما يُسليهن كالرجال الذين بإمكانهم السفر والخروج والصيد والطرد. وربط قراءة الروايات بالنساء وجعلها عادة نسائية منزلية اشتهرت مع ذيوع الرواية (بتعريفها السائد اليوم) في القرن الثامن عشر، لكنه ربطٌ يبدو لنا مع بوكاشيو قِدَمَه.