الترجمة وتاريخها الطبيعي – شارل لو بلان
عن ترجمة الترجمة
مؤمن الوزان
يقدم لو بلان في كتابه الترجمة وتاريخها الطبيعي درسًا متشعبًا ومتعمِّقا عن الترجمة وتاريخها في أوروبا في سعي حثيث للوقوف قريبًا منها، والغوص في أعماقها وكشف الأُطر المُشكِّلة لفعل الترجمة، والبُنية الداخلية لها حتى يُمكن تعريفها تعريفًا سيكون دقيقًا في وقتنا هذا، لأن مفهوم الترجمة دائم التغيُّر وفقًا لكل عصر، فالترجمة كما يذكر ’مرت من الممارسة التربوية في “العصر الروماني القديم” إلى الأداة من أجل التبشير (في بناء الإيمان المسيحي ونشره) وإلى الوسيلة من أجل الدراسة (الفلسفة المدرسية)، وأصبحت بوصول المطبعة جهازًا صناعيًا يعتد بواقع جديد تتوجه فيه الترجمة إلى قارئ لا يستطيع فهم الأصل، وباتت الترجمة إبدالٌ للنص الذي تُقدِّمه، وفرضت نفسها إن صحَّ التعبير، على أنها غير الأصل‘. هكذا نرى أن تعريف الترجمة متغيّر باستمرار ووظيفتها متغيِّرة وأننا إن استطعنا تحديد تعريف عامٍ فمن غير مستطاعنا أن نحدد وظيفة ومعايير نحتكم إليها دائما فهي تتغير بتغيُّر فهم الإنسان للكتابة والنص وشروطها وقواعدها ونقلها بين اللغات، وما يفرضه هذا النقل من قواعد وإكراهات وتساهلات وتجاوزات تنتهك الأمانة. بيد أنَّ أهم ما يطرحه في هذا سؤال الترجمة ومحاولة الإجابة عنه يكمن في تسليطه الضوء على كون الترجمة مناطة بفهم القارئ وتلقيه للنص، فالمترجم هنا قارئ كتاب، وإن كان النص الأصلي نتاج فعل كتابة فإنَّ الترجمة (النص الأصولي كما يسميه) نتاج فعل قراءة. ويذكر ’لا تخبرنا قراءة هايدغر بالفرنسية عن هايدغر بنفسه بقدر ما تُخبرنا عن تلقيه، وعن كيفية قراءته، وعن طريقة وضع الأعمال الفلسفية في كلمات، فهذه الترجمات تحمل، بما فيها من عيوب، كل أنواع الخطيئة التي لا تشوب هذا العمل الألماني بشائبة‘. هكذا يتبيَّن لنا أن الترجمة قد ترتبط أو ترتبط حقًا بآليات تلقيِّها أكثر من آليات بنائها اللغوية والفنيّة والأسلوبية، وهذه الآليات مرتبطة بذاتيَّة القارئ وبيئته ولغته ولغة من ينقل إليهم، فنصوص أفلاطون لم تُكتب في حينها ليتلقَّاها قارئ بترجمة معاصرة في القرن الحادي والعشرين لأن ’الترجمات تمنح الأعمال المترجمة حياةً تتجاوز مدى اليد التي كتبتها، والعمل الذي لا يُترجم يشبه المدينة المهجورة، مدينة أشباح ينتهي بمرور الزمن بهدمها، وكما تشيخ المدن تُصاب الترجمات يوما ما بالشيخوخة. لأن ارتباط الترجمات بالزمن ارتباطا خاصا هو السبب الذي يجعلها تموت‘. وفي الوقت الذي يحمل النص الأصلي معنًى دلاليًّا فإن ’النص الأصولي يحمل معنى رمزي ودلالي على حدٍ سواء، وفي هذه الرمزية يكمن عمل المترجم. ما تفعله الترجمة هو توسيع المجال الدلالي للنص الذي هو ترجمة له من خلال إشراع أبوابه أمام العالم الرمزي‘. ينتجُ عن هذا تعدد الترجمات لأن كل ترجمة تمثِّلُ قراءة عصرها أو قراءة مترجمها فالترجمة ’نشاط أنسيّ بامتياز، لأن المعنى الذي يراه المترجم في النص المُترجَم هو المعنى الذي يراه هو، والذي تعكسه نظرته، والذي غيَّره هو‘. وتعدد الترجمات للنص الواحد ’هو نوع من انعدام الملاءمة في الترجمة السابقة، والإحساس بالانزعاج لدى قراءتها والحاجة إلى تجديد لغتها وأسلوبها وكلها ضرورات لا تقل إلحاحا عن ضرورة تصويب الأخطاء المفترضة فيها؟ تشيخ الترجمات ثم تموت، والترجمات الوحيدة التي تقاوم مرور الزمن هي تلك التي تفرض نفسها كما لو كانت نصا أصليًا، أي كما لو كانت نصا أصليا يجب على كل الترجمات الأخرى أن تقيس نفسها على معياره‘. وتسهم هذه التعددية كما يذهب إلى فهم أفضل ’لتعددية الدلالات وهي تعددية غالبا ما تفوت القراء الذي يقرأون في اللغة الأصلية، ذلك لأن كل واحد منهم يجد نفسه كالسجين داخل عزلة قراءته الخاصة‘.
*
غالبًا ما أتجنب القراءة في كتب الترجمة رغم ممارستي لها حتى لا أجد نفسي مرغمًا على الإصغاء إلى مناهج وأساليب لم أشرع بالترجمة لأتبعها، بل لممارسة ما أحبه دون التقيُّد وبفهمي الخاص لها لكن مع القراءة والإنصات لمن درسوا الترجمة ودرَّسوها، كما في هذا الكتاب ألفي نفسي محاطًا بالأسئلة عن الترجمة ووظيفتها، وكيفية أدائها بعيدًا عن المفهوم السائد حول الالتزام النصيّ، ونقل المعنى والروح بأقرب صورة ممكنة. ومن هذه الأسئلة التي أثارها كتاب لو بلان في نفسي سؤال ترجمة الترجمة، وهي الأخرى فعلتها أكثر من مرة. هل أنا أترجم قراءة المترجم أو أترجم النص لكن من لغة ليست لغته الأصلية؟ وما المعايير التي يجب الاحتكام إليها؟ وأنَّى لي أن أتأكد من هذا؟ أسئلة لا أجد لها أجوبة في الوقت الحالي، لكن بلا شك زعزعت قيمة فعل ترجمة الترجمة، فالترجمة انحراف عن الأصل، وترجمتها انحراف عن الانحراف، وهكذا فإنني مع ترجمة الترجمة أبتعد أكثر مما أقترب إن كانت الترجمة الأولى قريبة فكيف إن كانت بعيدة أو ليست بدقيقة؟ لكن هل أنا مضطر على الأخذ بقول لو بلان في أنَّ الترجمة فعل قراءة تُعبِّر عن رؤية مترجمها ومحكومة بعوامل خارجية لا تخص النص؟ وهل ينطبق هذا القول على كل أنواع النصوص أو إنَّ ثمة نصوصا عصيّة الترجمة لذا فإن ترجمتها ستبقى في حيز تلقي مترجمها وقراءته الخاصة أكثر مما هي معبِّرة عن النص الأصلي ودلالته والعيب هنا لا يمكن في الترجمة بقدر ما يكمن في طبيعة النص كحال الشعر مثلا أو بعض النصوص الفلسفية. وعودةً إلى سؤال ترجمة الترجمة فإن السبيل الذي يقودني إليها ليس رغبة الترجمة الوسيطة بقدر عدم وجود سبيل مباشر إلى النص الأصلي وهذا عيب كبيرٌ أو اهتمامات شخصيّة قادتني إلى وجهة لا طريق مباشر إليها، ومدفوعًا برغبة الوصول إلى وجهتي وأخذ آخرين معي أسلك طريقًا ثانويًا قبل سلوكي الطريق الأصولي الذي يقودني إلى وجهتي الأصلية. وأنا هنا متقدِّم على قارئ ترجمة الترجمة فأنا أتلقى النص الأصولي في أطار وضعه المترجم للنص الأصلي، والقارئ يتلقى النص الأصولي المترجم في أطار أضعه أنا، أسعى حثيثا فيه لنقل النص الأصولي كما قرأه مترجمه، لكن ما جودة الترجمة أو ترجمة الترجمة؟ سؤال أجيب عنه بصراحة في أن النص الأصولي أحيانا يمنحنا فكرة عامة واطلاعنا عليه ليس بالضرورة اطلاعنا على الأصل بقدر ما هي فكرة نُشكِّلها بأنفسنا عنه لا سيما في الشعر أو الرواية. حين أقرأ شعرًا مترجمًا فأنا أقرأ الفكرة والصورة الشعرية دون أن أستمتع بلغته التي هي حكر على ناطقها الأصلي، ويشمل الأمر الرواية فلا يمكنني أن أحكم على لغة الرواية الأصلية اعتمادًا على لغة الرواية المترجمة، ويقتصر التقييم فيها على الأفكار والأساليب وفنيَّات الرواية. هكذا فإن ترجمة الترجمة هي نقل لفكرة النص الأصلي عبر نص أصولي لا نقل للنص الأصلي. أثمة ثمرة تُرتجى من ترجمة الترجمة؟ الثمرة كما أرى هي إحاطة المتلقيِّ لنص ترجمة الترجمة بالنص الأصلي وأفكاره وكاتبه، والأخرى وهي دعوة، دعوتها في تقديمي لترجمة المسرحية الروسية عن الإنجليزية “ذو العقل يشقى”، للمترجم عن لغة النص الأصلي لترجمة النص دون الحاجة إلى مترجم اللغة وسيطة. لا يمكن في المحصلة التقليل من الجهد المبذول في ترجمة الترجمة، وإن كانت فائدته محدودة ولا تعبِّر بالضرورة عن النص الأصلي، لكنها تعبِّر عن غاية كبيرة وهمَّة عالية في نقل آداب وعلوم الأمم الأخرى عبر قنوات ثانوية في حال انتفت القنوات الرئيسة، وتعبِّر أيضًا عن تراجع أدبي وثقافي يطال أمَّة بأكملها حين ينتفي لديها المترجمون عن لغات أخرى ويكتفون بترجمة الترجمات عبر لغات وسيطة.