الترابط بين علم النفس والأدب والتاريخ

إبراهيم أبو عواد


حجم الخط-+=

إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَائنا حَيّا وحُرا، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه، وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته، وهذا لَيس غريبًا، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي. لا تَتَجَسَّد اللغةُ حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب، لكونه الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ، لكونه الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ، وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ.

وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ -تأثُّرًا وتأثيرًا- لكونهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة. مِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ، رِوايةُ لوليتا 1955، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، وتحولت إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك (1928-1999) الذي يَعده الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ. أبانت الروايةُ عن مَواضيع مُثيرة للجدل، ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون، وسُلوكًا يُعْد تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال، فبطلُ الرواية هَمْبِرْت هَمْبِرْت هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر، مريض بشهوة المُراهقين، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا، بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا، ولوليتا هو لقب دولوريس. يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السَّرْد الذاتي، إذ يسرد همبرت همبرت قِصَّته معَ دولوريس مِن جانب واحد، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية، مُحَاوِلًا كسب تعاطف القارئ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بنحو مأساوي، وقَدَّمَت الروايةُ تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات، البيدوفيليا. صارتْ عُقْدَة لوليتا (عُقْدَة الحِرمان الكبير) مِن أشهر العُقَد النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها بِضِعْفِي عُمرها في الأقل، أوْ في عُمر أبيها، لَيْسَ هذا فقط، بَلْ إنَّها كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه، وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على فِعْل ذلك، وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في الطفولةِ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه، وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل البَيْت، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت، وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة، والجديرُ بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان.

ومِن أبرز الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ، نظريةُ التَّحَدِّي والاستجابةِ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975)، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين، ويُعد أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بنحوٍ مُفصَّل وشامل. يُفَسِّر توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة، مِن خلال نظريته الشهيرة “التَّحَدِّي والاستجابة”، التي يَعترف بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي، وعلى وَجه الخُصُوص مِن عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ (1875-1961) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس التَّحليلي، الذي يَقُول إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه زمنا ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة:

أ- استجابة سلبية: تَتَمَثَّل في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به، ومُحاولة استرجاعه واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة، فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا انعزاليًّا انطوائيًّا.

ب- استبجابة إيجابية: تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا انبساطيًّا.

إنَّ “التَّحَدِّي والاستجابة” نظرية في التاريخ، اقْتَبَسَهَا توينبي مِن عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي (العِلْم الذي يَدرس العلاقةَ بين العقلِ والسُّلُوكِ مِن أجْلِ اكتشافِ أنماطِ السُّلُوكِ وخَصائصِ الأفعالِ)، وطبّقها على الأُمَمِ والحضاراتِ، فالأُمَمُ حِين تَتَعَرَّض للمخاطرِ العظيمةِ والأزماتِ الشديدة، وتَكُون هي الحَلْقَةَ الأضعف، ويَكُون تَوَازُن القُوى في غَيْرِ مَصلحتها، فإنَّها تَعُود إلى تُراثِها الحضاري، وذاكرتها المَاضَوِيَّة، في مُحاولة لاستجماعِ قُوَّتها، واستنهاضِ قُدرتها على مُواجهة التَّحَدِّي، فالتاريخُ لا يُمكِن استرجاعُه إلا بنحوٍ تَمَاثُلِي أوْ تَشَابُهِي، ولا يُمكِن استعادته إلا كَمَأسَاةٍ أوْ مَلْهَاةٍ. والحضارات -حَسَب نظرية توينبي- تَصْعَد أوْ تَسْقُط على قَدْرِ استجابتها للتحدياتِ والأزماتِ التي تُواجهها، فإمَّا أن تَنكمش على ذاتها، وتَتَقَوْقَع على نَفْسِها، وتَنسحب مِن الحياة، وتَرْجِع إلى الوراء، وإمَّا أن تَتَحَدَّى الواقعَ بالإبداعِ والابتكارِ في مُحاولة مِنها لتجاوزه، وصناعة واقع جديد مُنَاسِب لِمُتَطَلَّبَاتِ العَصْرِ ومُقتضياته.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى