احتميت بالرسائل هربا من عزلة الكتابة

تصف الروائية أنورادا روي تجربتها وطقوسها كاتبة مقيمة


حجم الخط-+=

أرونداتي روي                                                                               

ترجمة: آيم عمر

في نيسان/ أبريل هذه السنة أدرت المفتاح في باب شقة في الطابق العاشر لبناية رمادية وولجت صوب محيط دافق من النور السماوي. قابلتني الغرفة بمعالمها الجرداء الشاسعة، أرضيتها وحيطانها بيضاوان، وبضع أثاث بما فيها أريكة بنّيّة في شيخوخة. حائط الشقة الشرقي قوامه زجاج بالكامل، صف من الأبواب المزلاجية الفارعة، تؤدي خارجا إلى شرفة تطل على امتداد مائي سرمدي حيث يلتقي نهر لوار بالعملاق الأطلسي. سرب من النورس ترفرف أجنحتها بمحاذاة النافذة وباتجاه المنارة القريبة. تهبك هذه الشقة إحساس السفينة البحريةـ فالماء يطالعك من كل حدب وصوب. 

سلمتني مديرة برنامجي الأول على الإطلاق كاتبةً مقيمة ورقة يتيمة قبيل مغادرتها. استفتحت الرسالة “العزيزة أرونداتي روي، إنني أبعث إليك بهذه الكلمات علّك تجدين فيها ترحيبا حارا لقدومك إلى سان نازير. آملة أن تبصري إلهامك في المناظر المقابلة لك. في المدينة ميناء ممزوج بمحيط ديارك الهادئ، الذي تقارنه مخيلتي بقرية في الهملايا مدثرة بالثلوج”. جاءت الرسالة من امرأة لا يربط بيننا أي أواصر معرفة. اتباعا لعُرف برنامج الكتّاب المقيمين، بعثت إليَّ الكاتبة التي سبقتني بخطاب ترحيب. كتبت في خاتمة رسالتها “آملة حقاً أن تجدي في هذه المدينة القدر الوفير من الإلهام الذي حصلتُ عليه” وأردفت قائلة “أرجو أن تتقبلي رسالتي هذه رمزَ صداقتنا الأدبية”.

رافقني زوجي في الأسبوعين الأولين من برنامج الإقامة الممتد سبعةَ أسابيع. قمنا بجولة استكشافية في أنحاء الشقة. عثرَ على بقايا زيت الزيتون والخل البلسمي في المطبخ. وعثرتُ على رزمة قهوة لم يُفض غلافها، والملح والفلفل والعسل والأرز والأسبرين. لو حدث وأن علقت في جزيرة معزولة، فأيُّ عناصر ستمنحها أولويتك القصوى في صراع البقاء؟ هذه العناصر وُجدت متروكة على الأرفف، ربما تخص الكاتبة قبلي، أو قد تكون ورثتها من سابقتها. كما وجدت على الأرفف كتباً من شتى اللغات، ومجلد “الكامل في قواعد اللغة الفرنسية”، حيث أقدم كاتب سابق بمحاولات شرسة (كما تظهره خربشات قلم الرصاص) لإحكام صيغة المصدر infinitive verbs، قبل أن يغلبه الإنهاك ويتوقف عند قرابة الصفحة السابعة. بعد أسبوعين، أصبحت وحدي في هذه الشقة للمرة الأولى بعد رحيل زوجي عائداً إلى كلابنا ودار نشرنا، ساد السكون والقفار الرهيب والموحش. بت أسمع صدى صوتي يصطدم بالحيطان والأرضية الخالية من الفرش حين أتكلم بالهاتف. عندما يجن الليل يستحيل المحيط أسودَ، تخلو الشوارع من المارّة، تصّر مصاريع النوافذ وتخشخش، كأن فأرا يسكن في الشقة. تتنهد الريح وتطلق عويلا حينا آخر، تومض المصابيح المعلقة على ذلك الجسر الجنوبي المُوصِل إلى ساحل (سانت- بريفن- لِس- بينز) بارتعاش وكأنها تود أن تعانق الفضاء الدامس. ما الذي جاء بي إلى هذا المكان السحيق والبعيد كل البعد عن الديار؟ في حين أنني أتممت كتابة خمس روايات داخل حيّز كوخي الصغير المبعثر الذي يسع كلابنا الأربعة ودار نشرنا، ما حاجتي لأكون على ظهر هذه السفينة الهائمة؟ حين كنت أدفع عني أحاسيس الذعر التي انتابتني بشأن الأسابيع المقبلة عثرت على رزمة من الرسائل القديمة تركها كتّاب مقيمون لأجل من خلفهم. اقترح فيها كاتبٌ صيني “عندما ينتهي إحصاؤك القوارب المارّة، بإمكانك دائما البدء من جديد”. وكتب آخر من جنوب آسيا “وطبعا سيبقى المحيط العلاج الأنجع على الدوام…”. أما آخر من أوكرانيا فكتب “مع أنهم ينادونني بـكاتب تشرنوبل، أطمئنك بأني لم أخلِّف أي نشاط إشعاعي في الشقة”.

*

نعم، العزلة نتيجة حتمية لحياة الكتابة. لا يقتصر معناها على عدد الساعات التي يقضيها الكاتب بمفرده أمام المنضدة، بل وإحساسه بكونه وَحْده فعلا في هذا الكون الشاسع. الكتابة بطبيعة الحال ليست بعمل يسود فيه روح الفريق. الصراعات الأزلية التي تنشب بين الكتّاب بسبب نقد قاس كتبه أحدهم بحق الآخر شيء قائمةٌ منذ القدم، كذلك المنغصات التي لا يجد الكاتب مفرًا من التعرض لها، من قبيل سهام المقارنات والتلميحات الخبيثة التي تقال بحقه. جئت من الهند التي يمزّق فضاءها العام أجواءُ العنف والرقابة والخوف، وسط هذا المرج يختفي صوت الكاتب فيصبح شخصية هامشية جدا. ما يشغل هموم العامة في الهند متعلقاتُ السياسة، والكريكت، ونجوم السينما، والأكثر، الصراعات الطائفية والدينية التي تشجر في البيوت والشوارع والإنترنت. تشعر وكأن هذه البلد على شفا حرب أهلية، أو ربما هي في طورها التمهيدي الذي يأخذ شكل هذا التلاسن والاستنزاف اليومي. كيف تُقر في أوضاع كهذه بأنَّ مهنتك كاتبا؟ عن نفسي لم أجرؤ قط على عدِّ نفسي واحدةً منهم، فقد اختبأت خلف هويتي الأخرى مصممةَ دار نشرنا. في الأقل مهنة كهذه تُشي بانطباع الشرعية والجدارة. 

في هذه القرية الفرنسية الصغيرة المجاورة للبحر، لا هوية لي فيها سوى هوية الكاتب. يعرف قاطنو هذا البرج السكني أنه، بين حين وآخر، يفد كاتب جديد من وراء البحار إليها ليسكن الطابق العاشر، يكتب فيه، ثم يرحل. من خلال الحوارات القصيرة التي أجريتها في المصعد ودكاكين الحي تعلمت أن أجيب بلغتي الممسوخة: “Oui, je suis une écrivaine… je suis romancière. (نعم أنا كاتبة، أنا روائية). يغمرني، حين أرطن بهذه الكلمات، الشعور بأن هذا النوع من الحوار تكرر كثيراً في هذه البناية، التي استُخدم طابقها العاشر مأوى قصيرَ الأمد لأصحاب العقول الأدبية على مدى الأربعة وثلاثون عاما الماضية. بداخل هذه الشقة التي يرن جوفها بالصدى، أشعر برابطة روحية تجمعني بالكتّاب الذين قابلوا ذات معاناتي، تافهة كانت أم جسيمة، بدءاً من الهبات الحرارية المستعصية وصولا إلى معالجة الأفكار (الثيمات) الرئيسة.

في رسالة أحد الكتّاب لمن يأتي بعده “ما يسعني قوله لك إن حيّز شقة الكتّاب مفعم بالكلمات وخاوٍ في الآن نفسه، عندنا ماضٍ أتينا منه جميعا، أو هو تقليد إن شئنا أن نسميه، قوامه عائلة كبيرة من الكتّاب الراحلين نستدعيهم ساعة الحاجة وفق جهوزيتنا العقلية والروحية…”. 

خطر لي الآن أن العديد من رواياتي تتضمّن كذلك على أجزاء تراسلية. من وجهة النظر السردية، بما أن الرسائل مكتوبة بصيغة الحاضر وموجهة إلى قارئ بعينه، فإنها تخلق إحساسا باللحظة الحاضرة والاتصال الحميمي المباشر، قلما وجدته في أشكال السرد الأخرى. كحال الرواية، تفتح الرسائل أمامك فضاءً لا متناهٍ من الحريةـ إذ يمكن أن تتضمن أشعاراً، تأملات، استطرادات، أخباراً، ألغازاً، تساؤلات، اعترافات. في العصر السابق لظهور البريد الرقمي، حين كانت الرسائل تروح وتجيء بداخل مغلفاتها، اعتاد الناس دسَ قطع المواد في فحواها كالأزهار المجففة. هذا اللون من الحرية لا تتيحه لك الروايات حتى.

*

إلى كارو أو، 

أبعث إليك بهذه الرسالة ناصحًا كأخٍ كبير جرّب الحياة قَبلك في سان نازير… لو حصل وأن وقعت فريسة (الإفراط في المسكر) مرِّن ذاكرتك: المصعد إلى اليمين مباشرة، من الطابق الخامس وحتى العاشر المسار صاعد كله… لقد تركت لأجلك آلة صنع قهوة إيطالية. من واجبي أن أحيطك علما بأنها لا تتحمل المنتجات الإمبريالية أو المعولمة. لتسعدَ آلتك فإن أفضل نوع يمكن أن تجده في سان نازير هو لافازا جولد [نوع من القهوة]…

المخلص، م. أ.

بمدلول آخر هذه الرسائل كناية عن الأدب القصصي نفسه. كل أنماط التوصيف الكوني البديع في الكتابات الخيالية والمذكرات تجده متركّزا هنا بخواصه، كذا وكوكبة من الكتاب على مر الزمان، من مختلف أنحاء العالم، وبمزيج متشكل من اللغات تشتمل على الصينية والبرتغالية، يكتبون وصف المحيط نفسه، الأريكة نفسها، والصراع نفسه للعثور على المعنى والقصة خلال أسابيعهم المعدودة داخل هذه الشقة. لو قلنا بأن القراءة تُنشئ رابطة حميمية بين الكاتب وقارئه، فإن هذه الرسائل كفيلة برفع مستوى الحميمية إلى زخوم عالية. أي كتاب أو مقالة هذه التي تتيح لي إمكانية دخول ذات الغرفة الموصوفة فيها، استخدام آلة القهوة نفسها، السير على الشوارع ذاتها، الاستلقاء على الأريكة المهترئة نفسها شبه سارحة في أحلام اليقظة، لا أكاد ألحظ مرور الساعات، أطالع القوارب وهي تمخر عباب المصب المقابل؟

قد يراودك ذات شعوري بأن الذي ماثل أمامك تلفاز سحرية. يعرض لك هذا التلفاز البرنامج نفسه. برنامج من الصنف شبه الخال من الأحداث. ليس فيه إلا وقائع الحياة اليومية للمدينة الحية بسكانها ومينائها.

ساءلت نفسي، إلى أين عاد ذلك الكاتب بتلفازه السحري القابع داخل رأسه، بأي حال عاد الكتّاب لاستئناف حيواتهم اليومية؟ يولد هذا المكان الإحساس بالتنكر، وكأني انتُقيت لأودِّي دور شخص آخر. هل خالج هذا الشعور الكتّاب غيري؟ هل أصدروا كتباً تضم في ثناياها لمحات حياتنا في هذه البلدة، ودُسّت بين أسطر الكتاب كقطع الزبيب على كعك الفواكه؟ ما يزال رف الكتب هنا يختزن قصاصات ورقية عليها خربشات كاتب حاول بث الحياة إلى شخصية جديدة. عثرت على هذه القصاصات صدفة ثم أرجعتها إلى حيث كانت بعد النظرة الأولى، شاعرةً بأنني أتطفل على حياة غيري. على منضدة الكتابة رزمة من الأوراق المطبوعة لرواية في طور الإنشاء عمل عليها أحدهم- لا يسعني ذكر اسمه. كما وجدت كتباً خلفها الآخرون وراءهم، وكذلك حصائر اليوغا، وخربشات رسم، ومعاجم، وعملات معدنية، وأصدافا، ولوحة زيتية. وأشدها إثارة للوجدان طابع بريدي فيه رسمة البروفيسور كالكولس مطروح على الأرض، ونجوم حُمُر وصُفُر تحوم حول أفلاك رأسه الدائخ والمضروب. بين الحين والآخر استرق النظر إلى الطابع البريدي فأخبره، “أعرف شعورك أيها البروفيسور”.

Chere. Caro. Querida. Liebe (عزيزي كارو) إنني أكتشف معاني الحب بلغات جديدة، ومن أفواه الغرباء في هذه الشقة الشاهقة المطلة على مصب لوار بساحل فرنسا الغربي. أشعر بحميمية هذه الكلمات وعذوبتها وهي تطل عليّ من صفحات الأوراق المبعثرة على منضدتي الجديدة. يتواصل أصحابها معي مخترقين حدود الزمان والمكان ليبلغونني بأنهم يتفهمون حالي. فهم يعرفون المشاعر التي أمر بها من تشوش ذهني وحيرة وأمل لأنهم قاسوا الأمر نفسه. تماما.

بوجود هذه الرسائل بقربي أشعر وكأن أرواح كتّاب يحفونني بعطفهم ورعايتهم ورقابتهم المطمئنة. سأكتب إلى الكاتب البوليفي الذي سيخلفني “لست المتسببة في هلاك النباتين الذابلين جداً في الشرفة. لقد كانا ذابلين منذ أن دخلت المكان. من فضلك أنثر بذور الطيور التي تركتها لأجل العصافير والحمائم”. سأترك له بعض الحاجيات لتخفف عنه وطأة الأيام الأولى، زيت زيتون والخل طبعاً، وربما الأرز والعدس أيضا. سيشعر كما شعرت قبله، بأنه تحفه عناية كتّاب عديدون وطئوا هذا المكان قبلي، وخلفوا آثار خطاهم الأبدية على رمال لوارـ الأطلسية. أما عمله كحال عملي سيزدهر في هذه التربة التي اعتنى بها الكتّاب من قبلنا.

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى