ابنة أرضَيْن 1-2
عن رواية "نحتاج إلى أسماء جديدة" للكاتبة نوفيوليت بولاوايو
ميتشيكو كاكوتاني
ترجمة: بلقيس الكثيري
بإحساسٍ عالٍ وشعور عميق كتبت نوفيوليت بولاوايو في روايتها الأولى “عندما تسوء الأمور في مكان ما، يهرول الأطفال وينتشرون مذعورين كما تفر الطيور من سماء ملتهبة”.
“يفرون من أرضهم البائسة لعل نار الجوع تنطفئ في أرض أجنبية، لعل دموعهم تجف في أرضٍ غريبة، لعل الجراح التي نكأها يأسهم تُضمد في أرضٍ نائية، ولعل تمتمات صلواتهم تستجاب في ظلمات أرضٍ بعيدة. يغادرون ويتركون وراءهم أمهاتهم وآباءهم ورميم عظام أسلافهم الدفينة – يتركون وراءهم كل ما يمتُّ لهم بصلة وما يؤكد هويتهم وما هم عليه، يغادرون لأنه لم يعد يمكنهم البقاء”. المكان الذي يغادرونه هو زيمبابوي، ذلك البلد الأفريقي الذي يتنازعه الفساد والإهمال بوحشية لأكثر من 30 عامًا في ظل الحكم الاستبدادي لروبرت موغابي- البلد الذي يترنح تحت وطأة البطالة والجوع والتضخم المالي والإيدز وتعذيب الحكومة والترهيب العنيف للمعارضة السياسية، حسبما ذكر الصحفي بيتر غودوين في كتابه الجبار “الخوف” عام 2011. أما المكان الذي يأمل هؤلاء الفرار إليه فهو الولايات المتحدة- الوجهة التي تقصدها بطلة الرواية دارلينغ لتبدأ حياة جديدة مع خالتها هناك.
يبلغ عمر دارلينغ عشر سنوات عندما تظهر أول مرة، وقد اختارت بولاوايو أن تمنحها صوتًا مميزًا؛ متزمتًا وغنائيًا، شاعريًا غير عاطفي… تأمليًا، حادًا. في البداية هو صوت طفلة شديدة الانتباه… متشككة وقاسية على الطريقة التي يمكن أن يبدو بها الأطفال. فمثلًا تقرص طفلًا مريضًا لم يكن لديها رغبة في حمله في الكنيسة من أجل أن يبكي لتعيده إلى أمه. تكون في غاية التبلد الشعوري عندما يعود والدها إلى منزله من جنوب إفريقيا بعد غياب دام زمنا طويلا، وهو مصاب بمرض الإيدز.
تسرد دارلينغ مصائب زيمبابوي وسياستها من منظور طفلة صغيرة- تهتم هي وأصدقاؤها بملء بطونهم الخاوية بثمار الجوافة المسروقة، وابتكار ألعاب لتمضية الوقت بينما ينشغل البالغون بالحديث عن الانتخابات وآمال التغيير. كانت دارلينغ وأصدقاؤها يدرسون فيما قبل – أي قبل أن تأتي الشرطة وتهدم منازلهم، قبل أن يجبروا على الانتقال إلى بيوت الصفيح، قبل أن يفقد آباؤهم وظائفهم وتتغير حياتهم. باستخدام موهبتها في استخدام اللغة التصويرية، عرضت لنا السيدة بولاوايو لقطات من زيمبابوي بلونها الذي لا يمحى وزخرفة لوحتها الفنية الشعبية: “يجتمع الرجال كالأغنام ويلعبون الداما تحت شجرة الجاكاراندا الوحيدة التي تضفي زهورها البنفسجية المتفتحة عليهم جمالًا، أثناء جلوسهم في ظلها بلا قمصان، يجلسون رابضين مثل نمور. في حين تبذل النساء قصارى جهدهن في تجميل أنفسهن بارتداء أساور مصنوعة من الأسلاك الصدئة الملتوية، ودس الزهور خلف آذانهن التي تتدلى منها أقراط مصنوعة من بذور ملونة، ويزينْ تنانيرهن بقطع من القماش المبهرج”. وتنقل لنا صورة من اليأس في وصفها: “عندما أصبح من الواضح أن الانتخابات فشلت في إحداث أي نوع من التغيير، غادر الرجال بحثًا عن العمل وتفرّقت الأُسر، وصار حلم الصغار والكبار على حد سواء الفِرار إلى أمريكا أو أوروبا -وفي حال فشل ذلك- فإلى جنوب إفريقيا، أو دبي أو بوتسوانا، أي مكان من شأن الحياة أن تكون فيه أفضل من هذا المكان الفظيع المليء بالجوع وتردي الأحوال إلى الأسوأ”.
تسافر دارلينغ إلى الولايات المتحدة الأمريكية بفضل خالتها السيدة فوستالينا التي تعيش في ديترويت في ولاية ميشيغان. يصيبها الذهول في البداية برؤية أصناف الطعام المتنوعة ووفرة الخيارات المتاحة أمامها يوميًا: “ماذا تفضلين هذا الطبق أو ذاك؟ هل أنتِ متأكدة؟” وفي وصفها لذلك تقول: “وكأنني أصبحتُ إنسانًا حقيقيًا!” يبهرها السر الغامض في الثلج المتساقط: “وكأننا نعاين جزءًا من الكتاب المقدس؛ حيث يعاقب الإله الناس على خطاياهم، ويذيقهم البؤس بتغيير ظروف الطقس.” بمجرد أن دخلتْ سن المراهقة تأثرت سريعًا بسلوكيات أصدقائها في المدرسة حتى لو لم يكن الأمر يهمها، كالاستماع إلى ريهانا، وتجريب الكثير من الملابس في مراكز التسوق -ثم تركها مكوّمة على نحوٍ فوضوي في غرف القياس- بالإضافة إلى مشاهدة المواد الإباحية على الإنترنت. أجادت دارلينغ اللهجة الأمريكية وأحرزت درجات عالية في المدرسة وكانت تقول: “الدراسة في أمريكا سهلة للغاية، حتى الحمار سيجتازها بنجاح”، لكنها كانت تعارض رغبة خالتها وتقاوم جهودها التي تبذلها في سبيل إقناعها بدراسة الطب.كانت دارلينغ تعِد والدتها بأنها ستزورها قريبًا، على الرغم من أنها تعرف أنها لن تفعل لأنها لا تملك الأوراق الرسمية اللازمة التي ستعيدها إلى أمريكا مرة أخرى. كانت تشتاق إلى أصدقائها الذين ترعرعت معهم، لكنها في الوقت نفسه تشعر بأنها غريبة عنهم. من ضمنهم صديقتها تشيبو التي قالت لها ذات يوم في مكالمة عبر برنامج Skype أنه لم يعد من الممكن أن تشير إلى زيمبابوي على أنها وطنها، طالما أنها عاملته معاملة المنزل المحترق وهربت منه بدلاً من أن تحاول إخماد النيران.
“عزيزتي دارلينغ، لقد تركت وطنكِ يحترق والآن لديكِ الجرأة لتقولي لي بتلك اللهجة الغبية التي لم تولدي بها والتي لا تناسبكِ حتى، أن هذا البلد وطنكِ؟”.
تعطينا السيدة بولاوايو فكرة عن حياة دارلينغ الجديدة في جرعات متقطعة توضح لنا كلاً من ذوبانها في الثقافة الأمريكية وانفصالها عنها. ندرك شعورها بالعجز عندما تنقطع بها السبل في كثير من الأحيان، عندما تنسلخ من كل التقاليد والمعتقدات التي تربت عليها، وفي الوقت نفسه انفصالها عن الحياة العصيبة المتمثلة في إشباع الرغبات في أمريكا. نسمع صوتها الغاضب في وجه الليبراليين البيض الذين يتحدثون بغطرسة عن مشاكل “إفريقيا”، يتحدثون عن جميع البلدان في تلك القارة كما لو أنها أجزاء قابلة للتبادل من قطعة فوضى عارمة. ونفهم الشعور الحلو المر الذي يشعر به العديد من المهاجرين عندما يختارون أسماء أطفالهم التي ستضفي عليهم سمة الانتماء إلى أمريكا. وفي محاولة لتعميم تجربة دارلينغ على نطاق أوسع، كتبت السيدة بولاوايو فصلاً كاملاً مستخدمة الضمير “نحن” في حديثها عن الهجرة إلى أمريكا، والمرارة التي يشعر بها الكثير من المهاجرين، عندما يضطرون للعمل في وظائف وضيعة أو عندما تتحطم آمالهم:
“إننا عندما نصل إلى أمريكا، نأخذ أحلامنا، وننظر إليها بحنان نظرة الأم لطفلها المولود حديثًا، ثم نضعها جانبًا؛ لأنه لا مجال لمطاردتها بعد الآن. فنحن لن نكون أبدًا الأشياء التي أردنا أن نكونها: أطباء… محامون… مدرسون… مهندسون. لا نستطيع الدراسة على الرغم من أن تأشيرات دخولنا كانت تأشيرات دراسية. كنا نعرف أننا لا نملك المال اللازم للتعلم، لكننا قدمنا طلبًا للحصول على تأشيرات دراسة لأنه كان السبيل الوحيد للخروج”.
هذه التعميمات بمثابة عثرة في هذه الرواية المذهلة. ليس لأنها تحاول إسقاط تجربة واحدة على تجارب مجموعة واسعة ومتنوعة من المهاجرين فحسب، بل ولأنها ليست صحيحة بالضرورة. على سبيل المثال؛ تشير سيرة مؤلفة هذه الرواية الموهوبة الواردة في غلاف الكتاب إلى أنها ولدت ونشأت في زيمبابوي وانتقلت إلى الولايات المتحدة، حيث حصلت على الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كورنيل، وهي الآن أحد أعضاء برنامج والاس ستيغنر Wallace Stegner Fellow في ستانفورد – الأمر الذي يبدو وكأنه حلم تحقق.
ميتشيكو كاكوتاني: ناقدة أمريكية من أصل ياباني ولدت عام 1955 في ولاية كونيتيكت الأمريكية وحصلت على البكالوريوس في الأدب الإنكليزي من جامعة ييل في عام 1976.عملت في واشنطن بوست ثم انضمت إلى نيويورك تايمز. وأصبحت من أكبر نقاد الكتب في صحيفة نيويورك تايمز.