أضواء في الغرب وظلال في الشرق

جينان كيان


حجم الخط-+=

ترجمة: فلاح حسن

قضيت وقتا كثيرا في مشاهدة غروب الشمس منذ أن جئت إلى مدينة أيوا. إن المنظر يختلف كثيرا عن أي شيء قد رأيته في الصين. أول شيء لاحظته هنا في أيوا هو أن غروب الشمس يدوم طويلا. تبدو الشمس مترددة جدا في الانكفاء إلى مأواها حتى الساعة الثامنة مساء. وإن ليلة الصيف تبقى متوهجة، أمر مستغرب لأولئك الذين اعتادوا على سماء مظلمة في السابعة مساء. أعده تحديا لإحساسي القديم عن غروب الشمس. هنا لا أرى حقاً تلك الشمس الحمراء الدائرية، مثل صفار البيض المسلوق، تغرق ببطء في الأفق، ولكن بدلا من ذلك أرى ضوءا ذهبيا، يصبغ السماء بأكملها. لقد اعتدت على أن اللون الذهبي هو اصطناعي أكثر منه طبيعي- وأعده بهرجةً ملكية زائلة كان يتباهى به الأباطرة في الأيام الخوالي، أو إنه نوع من البذخ المبتذل الذي يرتديه بعض الأثرياء في عصرنا هذا. لم أرَ هذا اللون قبلا يشع هكذا في سماء لا حدود لها. إذا عدت إلى الشعر الصيني الكلاسيكي، فسترى في الأرجح أن صورة غروب الشمس عادة ما تشير إلى “الأحزان” و”المآسي”. كتب لي شانغيين: وهو شاعر مشهور في أسرة تانغ، في قصيدته “مقابر ليو”، “كالشمس وعلى عظم مجده سيوارى الثرى بحلول الليل القادم”. غالبًا ما يطلق على غروب الشمس في الصين “شمس الليل” أو “الشمس المائلة”، وكلاهما استعارة أو كناية عن  الضوء الأخير الذي يتعرض له المرء قبل موته. في اليوم التالي وحينما كنت أنتظر الحافلة في حوالي الساعة 7:30 مساء، في مدينة أيوا، نظرت إلى السماء فإذا هي تتوهج بضوء غروب الشمس الذهبي المنعكس على الغيوم، مثل النقوش البرونزية المطلية بالذهب في (غيتس أوف بارادايس) في فلورنسا. شعرت كما لو أن ملائكة مجنحة كانت على وشك القفز من إحدى الغيوم. وبعد نصف ساعة من الركوب في الباص، كان الأفق لا يزال يشع وهجا ذهبيا. فتساءلت، يا ترى إذا ظللت أتجه غربًا، هل سأرى خطًا من الأفق الذهبي الممتد إلى الأبد؟ ينقل ضوء الغروب رسالة أمل بدلاً من اليأس. الآن أفهم لماذا كتب الشاعر المتميز كارل ساندبيرغ عكس الطريقة التي رد بها لي شانغيين عن غروب الشمس: أقول لك لا يوجد شيء في هذا العالم/ غير الكثير من أيام (الغد)/ وسماء أيام  الغد/ أنا مثل مقشِّري الذرة الذين يقولون/ عندما تغرب شمس اليوم: فإن غدا سيصبح هو اليوم.

يضفي الوهج الذهبي لغروب الشمس قوة غير محدودة  للتطلع إلى الغد من أجل التعمق والغوص أكثر في الثقافة الأمريكية عندما جئت إلى أيوا، حضرت دراسة الكتاب المقدس الأسبوعية مع (إلفا كريج)، زميلة في كنيسة المعمدانية في مدينة أيوا. سألتني إلفا سؤالاً عندما كنا في البداية، قرأنا سفر التكوين: “لم يخلق الله الشمس والقمر حتى اليوم الرابع من الخلق، فباعتقادك من أين جاء النور في اليوم الأول؟” لم يخطر ببالي أبدا من مثل هذا السؤال من قبل. “حسنا، أنا لا أعرف بالضبط “، فقالت إلفا “لكنني أتصور أنه في وقت مبكر من اليوم الأول، فتح الله نافذة من الفردوس للسماح لنور الجنة بالتدفق إلى الأرض”. هناك بعض الغموض هنا– خلقت الجنة بعد الضوء وليس قبل الضوء، أي في اليوم الثاني. لكني أحببت تفسيرها. أعتقد أن العديد من الناس في السياق الغربي قد يكون لديهم صورة مماثلة في ذهنهم عند قراءة سفر التكوين أول مرة. وهكذا يصبح الضوء رمزًا هامًا في الثقافة الغربية- أول هبة من الرب لانتشال البشرية من الظلام.

يتوسع مفهوم الضوء تدريجيًا، ويتضمن محتوًى أكثر ثراءً. لقد أوضحت أوروبا التنويرية بوضوح كيف يضيء “ضوء المعرفة” على البشرية. ويبدو كذلك أن الضوء يحدد المعايير الجمالية في الثقافة الغربية أيضاً: فعند تزيين المنازل، يقوم الناس في أمريكا بتركيب الكثير من النوافذ الكبيرة، حيث الزجاج صديق لأشعة الشمس ويسمح لها باختراقه. وإذا كنت ترغب في رصف أرضية المراحيض فستسخدم بلاط السيراميك الأبيض لأن ذلك من شأنه يجلب المزيد من الضوء لجعل المكان أكثر إشراقا ونظافة. كما تعدُّ متنزهات المدن في أوروبا وأمريكا بقعا من العشب واسع الانتشار حيث يمكن للمرء التمتع بأكبر قدر ممكن من أشعة الشمس. أوه هذا رائع لدرجة أن ترغب في الاستحمام في الشمس! وحتى عندما يستعرض جمال المرأة في اللوحات الزيتية أو في الأعمال الأدبية، يجب أن تضيء المرأة، خلاف ذلك، لا يمكن أن ترى جمالها. وحدث في إحدى المرات، أن ذاب الجليد، وهي تقف على عتبة الدار، فأخذ الماء ينساب على جذوع الأشجار وأخذ يتساقط من أسطح مباني الضيعة، فتحولت الى الداخل فجلبت مظلتها، ففتحتها. وكانت المظلة، مصنوعة من الحرير المموج  قزحي الألوان فلما نفذت خلاله اشعة الشمس عكست على بشرة الفتاة الناصعة أطيافا متأرجحة من الضوء، وانبسطت أسارير وجهها وهي تستمرئ الدفء الذي بعثته الشمس في جسدها، حين كانت قطرات الماء تتساقط على حرير المضلة المشدود، محدثة طرقات متتابعة.

هكذا وصف غوستاف فلوبير(إيما) في روايته مدام بوفاري. فبدون أشعة الشمس هذه لم يكن تشارلز (بطل رواية مدام بوفاري) أن يلحظ جمال إيما. ربما لهذا السبب خلق الله النور في اليوم الأول. ساهم الصينيون القدماء بالعديد من الاختراعات للحضارة الإنسانية، لكننا لم نبتكر الزجاج، ولم نستخدمه في كثير من الأحيان (رغم أننا حصلنا عليه في وقت مبكر من أواخر (حقبة الربيع والخريف) بمعنى أوائل القرن الخامس قبل الميلاد). يبدو لي أن السبب يرجع إلى الاعتبارات الجمالية أكثر من الاعتبارات العملية. إن الزجاج يتيح الكثير من أشعة الشمس، ثم سيجعل المكان مكشوفًا تمامًا. شعر الصينيون بالضيق إزاء فكرة الرؤية الواضحة الكاملة لمكان ما. ما أملَّه! ما أجلفه! لقد فضلوا الظلال على الضوء.

في الهندسة المعمارية التقليدية لشرق آسيا، نغطي إطارات النوافذ وإطارات الأبواب بالورق. إن الورق يخفف وقع أشعة الشمس القوية. إن أشكال إطارات النوافذ وإطارات الأبواب -الأنماط المنمقة المكسوة بالأزهار، أو أشكال الأحرف الصينية– التي يمكن أن تلقي بظلالها الطويلة إلى داخل المنزل. فحتى المراحيض يمكن أن تكون شاعرية أيضًا! فقد أشاد الكاتب الياباني المذهل جونيشيرو تانيزاكي بالمرحاض الياباني وأعده “مكانا للراحة الروحية”. مثلها مثل الصينية، فهي مبنية في الهواء الطلق، وتبقى مسافة قريبة من المبنى الرئيس، وعادة ما تُوضع تحت سقف من القش في الصين، أو في بستان “عطرة مع أوراق الشجر والطحالب” في اليابان. كتب تانيزاكي في كتابه “In Praise of “Shadows: “لا توجد كلمات يمكن أن تصف هذا الإحساس عندما يقعد المرء في الضوء الخافت، ينعم بالوهج الباهت المنعكس من الـشوجي، غارقا في التأمل أو يحدق إلى الحديقة”. هذه العبارات هي حتى الآن أجمل الكلمات التي قرأتها على الإطلاق عن المراحيض.

تختلف منتزهات مدننا أيضًا عن نظيراتها الغربية. صُممت حدائق المدن الصينية التقليدية بطريقة تجعلك تلتقط لمحة مختلفة لذات المنظر إذا ما تقدمت خطوة إلى الأمام. على سبيل المثال، غالبًا ما تنتشر في منتزهاتنا التقليدية أشكال من سرادق أو خيم. عندما تنظر إلى السرداق من بعيد، ترى أنه محاط بالنهر والنباتات. عندما تقترب منه، سترى كيف أن السقف، والأعمدة، والسور كلها تشكل معا الصورة الكاملة، ونباتًا واحدًا أو اثنين فقط، تمامًا كالرسم الصيني– كذلك القصائد الصينية المنحوتة على الأعمدة وتمشي مرددًا الآيات التي نقشها الفنان على هوامش رسوماته. تذهب بعد ذلك إلى داخل الجناح وتنظر من إحدى نوافذه، ستلاحظ في زاوية نضع فيها أحجارًا ذات شكل غريزي (“جبال مزيفة” في الترجمة الحرفية) بالقرب من النباتات، بطريقة تحاكي الجسور والجبال والحيوانات. وهكذا يصبح هذا الركن مصغرًا للطبيعة نفسها. لن تحصل أبدًا على رؤية واحدة لمتنزه مدينة صيني. بدلا من ذلك، تحتاج إلى المشي لاكتشاف احتمالات لا حصر لها للجمال.

عند شرب الخمر (baijiu، soju، and sake)، نستخدم الخزف أو الفخار الملون، وكثيرًا ما ندوِّن الحروف الصينية عليها أو نحتها بأشكال نباتية أو تشبه الحيوانات، ثم يمكننا التمتع بالظلال الملونة والمثيرة للاهتمام المرسومة على الكأس عند الشرب. إذا كنت قد شاهدت قبلا الأوبرا الصينية التقليدية، فربما قد لاحظت أنَّ الجميلات الصينيات على خشبة المسرح من المحتمل أن يخفين نصف وجوههن خلف الأقنعة المصبوغة للشخصيات التي يمثلنها ويخفين مفاتنهن خلف الأكمام الطويلة والمطرزة جيداً. في نظرنا هذه الأكمام واخفاء الملامح تجعل النساء أكثر سحراً. فبدلاً من الحصول على صورة كاملة لما تبدو عليه المرأة، نتخيل مظهرها وصوتها وشخصيتها على أساس رؤيتنا المحدودة لها. في تخيلاتنا، جمالها لا نهائي. لا نجرؤ أيضا على النظر مباشرة إلى امرأة لأنها وقاحة كبيرة في ثقافتنا. كل ما يمكننا القيام به هو استراق نظرة على جزء صغير جدا منها ونكمل متعتنا وكذلك لهفتنا باستخدام خيالنا.

لمعت عين المرأة أمامه. وكاد يصيح فزعا. لكنه كان يحلم، وعندما استعاد وعيه رأى أنه كان مجرد انعكاس لفتاة في المرآة المقابلة له. حينما كان الظلام يزداد في الخارج، تُشغَّل الأضواء في القطار، وعندها إلى مرآة. كانت المرآة مغمورة بالبخار إلى أن رسم ذلك الخط عبرها.

الفقرة المذكورة أعلاه هي من رواية بلد الثلج، التي كتبها الروائي الياباني ياسوناري كواباتا، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1968. تختلف زاوية عرض جمال المرأة  هنا عن فلوبير في مدام بوفاري. وهو يتيح للراوية الذكر أن يلتقط لمحة عن جزء صغير من المرأة: عين واحدة. قد يبدو الأمر مرعباً أكثر منه لطيفاً للقراء الغربيين. هذا النوع من النظرات شائع جدا لرجل في دول الشرق يلتقي بامرأة. الكاتب زهو زورين، وهو كاتب نثري كبير في التاريخ الأدبي الصيني الحديث، يصور جمال حبيبته الأولى فقط من خلال إظهار قدميها، إذ قدميها هما المشهد الوحيد الذي يجرؤ على النظر والتمعن فيه منها، فهو أمامها تكون عينيه دائما على الأرض. في حين يركز فلوبير على نحوٍ أساسي على انعكاس  الضوء على البشرة البيضاء لإيما، يمسح كواباتا كاميرته الأدبية بـاستخدام “البخار”. هنا، يعمل البخار، الذي يعمل على نحوٍ مشابه مع الأكمام أو المشجعين في الأوبرا الصينية التقليدية، على المرأة على مسافة مناسبة. من المعجب بها، مما يجعلها لا يمكن المساس بها وأكثر غموضا. الجمال ليس ما نراه في الضوء، ولكن الجمال هو تخيل ما لا نستطيع رؤيته.

أكتب حنينًا للثقافة الشرقية التقليدية. ذهب كل شيء. في الوقت الحاضر، نثبِّت جميعنا نوافذ زجاجية، بلاط الأرضيات بالسيراميك الأبيض، ونحاول بكل الوسائل أن نجعل من بيتنا “البيت الجميل” مكانًا “نظيفًا ومضاءً جيدًا”. لقد أجبرنا التحديث والتغريب على التخلي عن الممارسات العزيزة. لكن لا يسعني إلا أن أتساءل: هل يمكننا حجز مساحة صغيرة خاصة بنا، حيث نعبد ظلالنا، وليس نوركم؟ 

أظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى